مسعد بدر - الشاعر عيد الدويغري وقضايا القصيدة البدوية في سيناء

الشاعر المرحوم: (عيد بن عودة الدويغري)، هو من أشهر شعراء بادية سيناء خلال الجيل السابق. وُلد في (13 - 10 - 1983)، وتُوفّي في (14 - 5 -2006)؛ فهو يُعد - بذلك - من جيل الروّاد الأعلام الذين رفعوا راية الشعر وحفظوا كيانه حتى أسلموه قويا معافى إلى جيلنا هذا الحالي.

وقد كان لجيل الرواد مذهب فني له ملامح محددة تظهر بوضوح في إنتاجهم الشعري. ونحن سوف نسعى لتبيانها من خلال إحدى قصائد الشاعر عيد، لم نتعمد اختيارها، وإنما أرسلها لي نجله الشاعر (محمود عيد). والهدف من مقالتنا هذه أن نحاول إبراز مدى التزام الشاعر بالنظام التقليدي للقصيدة البدوية في سيناء، ومدى تجديده، وماذا أضاف. وقد أثبتنا القصيدة كاملة في آخر المقالة.

1- قضية الوزن:

أول أساس من أسس بناء القصيدة البدوية في سيناء، هو الالتزام الدقيق المطلق بالوزن؛ فهو عندهم من عزم الأمور. وقد كان الوزن الوحيد المعروف لديهم في القصائد هو (المسحوب)، وتفعيلاته:

مستفعلن / مستفعلن / فاعلاتن

والعروض الفصيح يُبيح في (مستفعلن) أن تكون: (متفعلن = مفاعلن) أو (مستعلن = مفتعلن) أو (مستفعل = مفعولن)؛ وَفق البحور المختلفة. كما يُبيح في (فاعلاتن) أن تكون: (فعلاتن) أو(فاعلات = فاعلان) أو (فاعلا = فاعلن) أو (فاعل = فعْلن)، وقد يبيح فيها (التشعيث)؛ فتُقلب إلى (مفعولن). وهذا كله يعطي شاعر الفصحى شيئا من المرونة، ويكسر رتابة الوزن المكرر تكرارا دقيقا صارما.

لكن الشاعر البدوي في سيناء يلتزم ما لا يلزم في الفصيح؛ فيصر إصرارا لا هوادة فيه على أن يأتي بالتفعيلة كاملة لا ينقصها حرف، اللهم إلا (مستفعلن) التي قد يجعلها (متفعلن = مفاعلن)، في حالات نادرة، وفي التفعيلة الأولى من الشطر الأول، لا غير.

وعلى ذلك جاءت قصيدة الشاعر عيد؛ فإذا كان كل شطر يتضمّن واحدا وعشرين حرفا؛ فإنك بحساب يسير تستطيع أن تحصي حروف القصيدة عددا، بمجرد معرفتك عدد أبياتها. وهذا أداء متقن لا شك فيه، والتكرار النغمي المنضبط يُطرب المتلقي ويؤثر فيه لولا خشية أن يكون هذا التكرار الصارم مدعاة للشعور بآلية الوزن، وجمود الأداء، ورتابة الإيقاع.

لكن الشاعر الذي لا يستطيع الخروج عن التقليد الموروث، يستطيع أن يكسر رتابة الوزن بوسائل أخرى. ولقد أجاد الشاعر عيد في هذه النقطة بعدة وسائل، منها: تطعيم القصيدة بما يشبه السرد القصصي مشفوعا بالحوار، في الأبيات الثالث والرابع، ثم الخامس عشر إلى السابع عشر. ومن هذه الوسائل أيضا: توظيف الطباق توظيفا جيدا، مثل: قالوا سليم/ واحنا نقاسي. ومثل: نحساب ودنا نْصيد وإحنا إنصدنا. ومنها: الصور الحركية التي تكسر الجمود وتبثّ الحيوية كما في البيت الثامن والعاشر والثاني عشر.

2- قضية القافية:

وكما يلتزم الشاعر البدوي في سيناء بالوزن التزاما تاما، يُلزم نفسه كذلك بالقافية الواحدة، ثم لا يكتفي حتى يلتزم بقافيتين في البيت الواحد؛ فقافية الشطر الأول موافقة لنظائرها في كل الأبيات، وقافية الشطر الثاني تتكرر في كل ما يليها. فإذا كانت قصيدة المرحوم عيد تتكوّن من تسعة عشر بيتا؛ فإن فيها ثماني وثلاثين قافية، وهذا الالتزام المنضبط - إضافة إلى قضية الوزن - هو عبء كبير يُثقل كاهل الشاعر، ما لم تكن أذنه موسيقية، وإحساسه النغمي مرهفا، وقدرته على الصياغة دقيقة، فضلا عن الثروة اللغوية التي هي أداة الشاعر الأولى.

3- قضية مبدأ القصيدة ومنتهاها:

السمة الشائعة في القصيدة البدوية في سيناء، أن تبدأ بخطاب الراكب: يا راكبٍ، (والتنوين عندهم بالكسر حتما). وهذا الشيوع الطاغي بلغ درجة من التزام الشعراء به جعلته أساسا، لكن المرحوم عيد شاء أن يتمرد على هذه التقليد الفني؛ بأن بدأ القصيدة بحديث عن ذاته هو، بدأ القصيدة من الداخل لا من الخارج، مخالفا البنية النمطية للقصيدة القديمة، ومضيفا إليها إضافة ستكون هي الأساس في شعر الجيل الجديد.

أما نهاية القصيدة القديمة؛ فهي معروفة ومحددة، وتتمثل في الختام الديني، بالدعاء، أو بالصلاة على النبي الكريم، في بيت واحد أو أبيات. وقد سار شاعرنا على نهج أقرانه في ختام قصيدته بالدعاء في بيت واحد، فلعله لم يشأ أن يكسر النمطية كلها في قصيدة واحدة، في وقت كانت هي ناموس وقانون الشعراء.

4- قضية اللهجة:

في سيناء قبائل كثيرة، لها لهجات متباينة في بعض المواضع. والشعر عيد من قبيلة (الدواغرة)، وهي - بدورها - تملك لهجة خاصة بها حافظ عليها الشاعر؛ ليكتسب المنتج الشعري في سيناء ثراء وتنوعا لغويا يلفت انتباه المتلقي، ويدعو إلى التأمل الفني الممتع. ومن ذلك قوله: (اجْرَحونا)؛ فهناك قبائل تقول: (جَرَحونا)، ولو سايرهم لكسر الوزن. وقوله: (اجروحهو - عندهو)، وكثير من القبائل تضع حرف الميم بدل حرف الواو في هاتين الكلمتين، ولو فعل الشاعر ذلك لظل الوزن مستقيما، لكنه الاعتزاز بلهجته، وهو اعتزاز جعله يُصرّ على لهجة قبيلته في استخدام اسم الإشارة (هذي) مع الاسم المذكّر (وعدنا)، في حين أن القبائل كلها - فيما أعلم - تَعدّ (هذي) إشارة للمؤنث.

5- قضية التناص مع الشعر الفصيح:

وأحسب أن الشاعر عيد في هذه القصيدة تفرّد بها دون كثير من أبناء جيله. وليس لازما في قضية (التناص) أن يكون الشاعر اطلع على شعر غيره، بل يكفي أن يُحيلنا قوله إلى قول سابق له، أو لاحق أيضا. فمن أمثلة التناص، البيت الثامن الذي يُحيلنا إلى بيت (أحمد شوقي)، وهو بيت شهير:

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ

فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاءُ

وهن ست كلمات يشير إليهن المرحوم عيد إشارة صريحة ومباشرة وبالعدد، في البيت الثامن المشار إليه.

ومن التناص اللافت الجيد، ما قاله شاعرنا في البيت العاشر الذي يُحيلنا إلى قول (إبراهيم ناجي): "وعدَونا فسبقنا ظلنا".

والشاعر – بواسطة التناص – يزيد نصه ثراء وعمقا، ويربطه برباط متين مع شبكة الإبداع الشعري لدى الآخرين، وهذا يخدم النص خدمة فنية جيدة، بأن يضع المتلقي في حضرة "النص المفتوح الذي هو مَجَّرة من المعاني، أو شبكة متصلة بشبكات لا نهائية من الشفرات، متوثبة بالحركة المُغوية للدوال الغاوية"، كما يقول (جابر عصفور).

*************

النص:

1- مرّت علينا أيام وسنين عسْرات
من حي حر القيظ حرّق كبدنا

2- اللي اجرحونا اجروحهو اسّاع حيات
ولحالنا من حمهن ما بردنا

3- ع دارسين الطب نشكى الوجيعات
ودنا دواء من عندهو ما وجدنا

4- جانا الطبيب وجاب كشف الأشعّات
قالوا سليم الجسم يومن رقدنا

5- وأحنا نقاسى من الوجاع الجسيمات
يا مجربين الشوق حرَّه صهدنا

6- لَتْسكنونا فـ قصور وسرايات
نسأل عليه وكل مارق نشدنا

7- نسأل عليه بخلاص ونفوس طلقات
وما عمرنا في يوم منه حقدنا

8- نظرة.. أسباب أوجاعنا وست كلمات
حبل المودة مع الصويحب عقدنا

9- واليوم سرنا نقولها قصة أبيات
والله على اللي بدوس رايه حسدنا

10- يا ما مشينا مع الدروب الطويلات
نجري ورى الغزلان بآخر جهدنا

11- ثاريت من غاد فيها ملفات
نحساب ودنا نْصيد وإحنا إنصدنا

12- ما ينفع التمسيك في شي لن فات
معكوا زرعنا وزرعنا ما حصدنا

13- ومع غيرنا يا خل عايش بلذات

واحنا بغير أصحاب سرنا وحدنا

14- فُرقى الحبايب لا ع بالك سهيلات

نصبر على المكتوب هذي وعدنا

15- يا ريت لن الرجل من غاد ما جات
ويا ريت لنه بجانبك ما قعدنا

16- عقّل علي وقال مثلى كثيرات
لابد تلقى أصحاب زينة بعدنا

17- هيهات مثلك نوجد أصحاب هيهات
من غير ما انت تقولها إحنا شهدنا

18- يا ما هوانا إبيار وبيار حلوات
و ع غير خاطر بير مالح وردنا

19- نرضى بحكم خالق الكون بالذات
نشكى على اللي ماش غيره عبدنا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى