مسعد بدر - من إبداع بادية سيناء للشاعر أبو نوره الأحيوي

يمكن القول إن الشاعر أبو نوره الأحيوي "ملأ الدنيا، وشغل الناس"، على مستوى شبه جزيرة سيناء، على الأقل. فهو شاعر موهوب، من قبيلة (الأحيوات) العريقة، يزوره في داره كثيرٌ من الشعراء في قريته (راس النقب). وهو كثير التنقل بين المدينة والريف والبادية، مَرِنٌ في حركته بين سباقات الإبل والمناسبات الاجتماعية، يفاجئك كل مَرّة بأمر جديد، كأن يترك السيارة الحديثة ويركب البُعران، أو أن يترك الريف والقرية ويبتني له خيمة عربية في أعماق الوديان، يقيم فيها مع أصدقائه إذا حضروا، ومع إبله (المغاتير) إذا انصرف الأصدقاء. كل هذه أمور تكسر رتابة الحياة ونمطية العيش؛ فتجعل أبو نوره دائما حاضرا متوهجا متألقا.
على أن هذه الحياة البدوية التي يعشقها أبو نوره لم تشغله عن التواصل مع الآخر، فإن له (شيلات) يؤديها مشاهير السعودية والأردن، وهو يستثمر - بفعالية جيدة - مواقع التواصل في إيصال صوته - وهو صوت سيناء نفسه - إلى خارج القطر المصري؛ فكانت له شهرة واسعة خارج سيناء وصلت به إلى المشاركة المشهودة في فعاليات شعرية في الإمارات والأردن.
أما صفات أبو نوره النفسية؛ فنترك بيانها للقصيدة المرفقة بهذه المقالة، وهي صفات يعرفها فيه أصفياؤه معرفة يقينية، ويعرفون أنه لم يصف نفسه إلا بما هو فيها حقا وصدقا.
هذه مقدمة أراها ضرورية للتعامل مع القصيدة التي بين أيدينا، والتي أرسلها لي الشاعر، ولتكن البداية مع سؤال:
1- لماذا هذه القصيدة بالذات؟
الإجابة - قطعا - لأن الشاعر استحسنها فأحب أن يختص بها صديقا له. وهذا ينقلنا إلى محور آخر، هو أن إنتاج الشعراء لا يستوي قوة وضعفا، والشاعر الحقيقي يعرف ذلك؛ فهو أول ناقد لشعره، يعرف مواضع التوفيق والجودة في قصيدة، ويعرف أن قصيدة أخرى تكمن قيمتها في مجرد الممازحة أو المجاملة.
فمتى تكون القصيدة "موضع توفيق وإجادة"؟ لعله لا يخفى على أحد أن ذلك يكون حين يمر الشاعر بتجربة صادقة ينفعل بها انفعالا قويا؛ فيعبّر بالكلام الموزون المقفى، القائم على الصورة والإيحاء - يعبّر عن تجربته وينقل إلينا مشاعره ويترجم أفكاره بوسائل فنية تجعل القول (شِعرًا).
وأبو نوره يمر بتجربة غير سعيدة، لا نعرف سرها، لكننا نعرف أنه كتب منذ فترة: "ما حدٍ على الدنيا يتمنى هدوّك"، وعلى العموم هي تجربته مع قسوة الحياة، ومع صنف رديء من البشر كان الشاعر مخدوعا فيه، ثم استبان حقيقته.
2- لماذا يكتب الشاعر؟
والشاعر يترجم تجربته شعرًا؛ لينفّس بها عن نفسه، ويفرّغ طاقة حبيسة؛ فالشعر الصادق دواء، وقديما قال قيس: "وما أنشد الأشعار إلا تداويا"! ثم هو يقدّم لنا ما في مكنون ذاته ويجلوه؛ لنتأثر به، ونتفاعل معه، ونحمل عنه - ومعه - عبء ما يشعر به، والحِمل إذا تفرّق يسهل حَمله، كما في أمثالنا.
3- ولماذا نقرأ نحن الشعر؟
إن الشاعر حين يعبّر عن مكنون نفسه لا يكون منعزلا عن محيطه؛ لأن التجربة الصادقة ذات بُعد ذاتي من ناحية، وبُعد اجتماعي من ناحية أخرى. ونحن نجد في قصيدة أبو نوره ترجمانا عن مشاعرنا وأحاسيسنا نحن، أي أننا نشاركه وهو يشاركنا العواطف والأفكار نفسها، لكننا لا نحسن التعبير الشعري؛ فنرضى ونسعد حين نجد شعرا يعبّر عنا نحن. فمن منا لم تؤذه حوادث الزمان؟ ولم يذق غدر من حسبهم أصدقاء؟ وكيف نواجه الحوادث والغدر؟ هذه أسئلة يمر بها جميعا؛ فيلجأ إلى شاعر مُجيد ينوب عنه في الإجابة؛ فيشعر المتلقي بالإشباع النفسي والفكري؛ لأنه فرّغ شحنة التوتر بتفاعله مع القصيدة.
ثم إن الشاعر المبدع هو الذي يقدر على وصلنا بالكون الكبير، ويضع أمامنا الحياة طليقة من قيود الزمان وحدود المكان، في اللحظة التي يتحدث هو فيها عن موقف ذاتي خاص به هو. وتجربة أبو نوره تصلنا بالحالة الإنسانية العامة؛ لأنه - وهو يتحدث عن ذاته - إنما يعبر عن عجز الإنسان أمام حوادث الدهر، ويعبر عن مأساة الإنسان حين يأتيه الغدر من مأمن، ثم يرسم صورة مثالية للإنسان القوي الشامخ المؤمن في مواجهة هذا كله، وهو لا يتحدث عن ذاته فقط، ولا عنّي ولا عنك فحسب، بل عن الإنسانية جمعاء، ويصرّح بذلك تصريحا مباشرا في البيت السابع عشر.
4- وكيف يستطيع الشاعر نقل تجربته؟
كل إنسان عادي يمر بتجارب، وتثور في نفسه انفعالات، وتخطر في باله أفكار، وكل شاعر كذلك. لكن الإنسان العادي والشاعر غير الموهوب لا يمتلكان سحر الفن ولا أدوات التعبير المؤثر؛ فلا يلتفت إلى قولهما أحد، وإنما يلتفت الناس إلى قول الشاعر الذي يشعر فيعبّر فيبلغ تعبيره درجة عالية من التأثير في نفوسنا. فكيف استطاع أبو نوره أن ينقل إلينا تجربته بحيث يجعلنا ننفعل بها ونُعجب؟ إن المقام يضيق بحصر وسائل الشاعر كلها؛ لذلك سنكتفي بالحديث عن: تناسق الأفكار، والصورة الفنية، والإيقاع.
5- كيف تناسقت الأفكار؟
إن انسجام الأفكار وحُسن ترتيبها هو الذي يمنح التجربة تماسكها؛ فلا تكون مجرد عواطف وآهات يضطرب المتلقي في تتبعها. والذي يقرأ قصيدة أبو نوره يظن - للوهلة الأولى - أن فيها ثلاثة موضوعات. والحقيقة أنها موضوع واحد جاء على ثلاثة محاور متصلة يُفضي بعضها إلى بعض. فالأبيات من الأول إلى السابع تحكي قسوة الحياة. والبيتان الثامن والتاسع يحكيان عن سلاح الإيمان والصبر في مواجهة هذه القسوة. والأبيات من العاشر حتى الخامس عشر هي بيان لحالة من حالات قسوة الحياة، وهي الابتلاء بالصاحب الدنيء، وكيفية التعامل معه. ثم تأتي بقية الأبيات في صورة تلخيص للقصيدة كلها. بذلك ترابطت الأفكار وتناسقت، فظهرت التجربة متماسكة حية تتفاعل أجزاؤها تفاعلا ناميا متطورا.
6- لماذا الإيقاع؟
إن الإنسان العادي الهادئ المعروف بأنه يملك أعصابه، قد يمر بموقف يهيّج إحساسه هيجانا شديدا؛ فيعبّر عن إحساسه الثائر بالكلمات؛ فلا تكفيه هذه الكلمات ولا يجد فيها منفسا لشعوره الهائج المستثار؛ فيستعين بالتعبير الحركي ليعوّض عجز الألفاظ عن التعبير؛ فيعلو صوته، وتتحرك يداه، ويهتزّ جسمه كله، حتى يفرّغ شحنة انفعاله ويستريح.
أما الشاعر المُجيد؛ فهو يعالج إحساسه الثائر بهدوء حتى لا تخرج القصيدة صراخا انفعاليا متشنجا. إنه لا يجد في الكلمات العادية كفاية للتعبير؛ فيلجأ إلى الإيقاع المنتظم الذي يُشيع في القصيدة أصداء من النغم الموسيقي، هذا النغم يساعد على استنفاد الطاقة الشعورية الفائضة في نفس الشاعر التي يعجز عن استنفادها اللفظ المجرد من الإيقاع.
وقد جاءت قصيدة أبو نوره في إيقاع محكم دقيق، يتمثل في بحر (الحدا)، وتفعيلاته (مستفعلن) ثلاث مرات في كل شطر. ومع صعوبة - وربما استحالة - الربط بين الوزن وموضوع التجربة، إلا أن هذا البحر ذي الطول اللافت منح الشاعر فرصة جيدة لإفراغ فائض شعوره، كما منح القارئ فرصة مماثلة في التلذذ بهذا النغم المنسّق للإحساس بتجربة الشاعر والتفاعل والتعاطف معها، ومعه.
أما القافية؛ فقد اختار أبو نوره قافية طريفة لم يألفها شعراؤنا في بادية سيناء، وبهو بذلك يستثمر - بمهارة ودهاء - أن مجتمع البادية لا يفرّق بين حرفي (الضاد) و(الظاء)، وينطقهما دائما (ظاء)؛ فلا يحس المتلقي غرابة وهو يقرأ: (بعَض - ينحفظ)؛ لأن كلا الحرفين في لهجته (ظاء). لكن صديقي الشاعر لم يلتفت إلى مسألة الإملاء؛ فكتب كلمتين بالضاد وحقهما أن تُكتبا بالظاء: (الشظظ – ينحفظ)، في البيتين الثالث والسابع؛ فليلاحظهما القارئ الكريم.
7- ما هي الصور المعبّرة؟
حين تكون الصورة معبرة عن إحساس الشاعر، وحين توصّل إلينا الفكرة بالإيحاء، وحين تكون جديدة طريفة، وموجزة مختصرة، عندئذٍ تصبح صورة قوية معبّرة. وأحب أن أضيف إعجابي الشديد بالصورة المنتزعة من البيئة إذا استوفت الشروط التي ذكرناها، أو معظمها. نأخذ مثالين من القصيدة، الأول قوله في البيت الثالث:
دامي جَمَل حمّل عليْ لا تستهين
ضاري على ضَكّ العَرَاوِي والشَّضَض
يخاطب الشاعرُ الزمن ويقول: ما دمت أنا جَمَلا قويا؛ فضع أحمالك على ظهري، ولا تستهن بي؛ فإني مُعتاد على الأحمال الثقيلة. قد تبدو الصورة مألوفة لمن عاش حياة البادية، لكن من تعمّق هذه الحياة يُعجب أيما إعجاب بهذه الدقة في رسم المشهد. فالجمل مختص بالحِمل الثقيل، وهذا الحِمل يُقسم قسمين متعادلين؛ فهو حِملان اثنان في الحقيقة. كل حِمل له طرفان اثنان، يربط البدوي في كل طرف حبلا متينا في طرفه (عروة)، وجمعها في لهجتهم (عراوي). ثم يبرّك البعير، ويضع الحِملين على جانبيه، ويصل كل عروة من العُرى بما يناظرها، ثم يُحكم وصلها بخُشيبة صُلبة يسمونها (الشظاظ)، وجمعه الفصيح (أشِظة)، وفي لهجتهم (شظظ). ثم ينهض البعير.
وهذه صورة تكشف بكفاءة مدى قسوة الأيام، وعمق الآلام التي ينوء بها الشاعر، كما تكشف تفنن الزمن وبراعته في تحميل الشاعر بنوائبه ومصائبه، وتبيّن القدرة المطلقة للدهر على إناخة المرء والسيطرة عليه. ثم تعبّر هذه الصورة عن قوة نفسية هائلة يمتلكها الشاعر القادر على حَمل الصعاب والمشاق. كل هذا يؤكد أن الصورة دقيقة في التعبير؛ فلا يقدر عليها إلا شاعر. دقيقة في تنسيق أجزائها؛ فلا يقدر عليها إلا (راعي الإبل).
وصورة أخرى من البيت الثاني عشر ترسم مشهدا للإنسان الرديء الطباع: "يوم الردي يشري المذلة، ويقترض"! فانظر كيف جاء المشهد واضحا فاضحا لهذا النوع من الناس الحريص على المذلة؛ فإن لم يستطع شراءها؛ اقترض! رائع أبو نوره!


*******************************
النص:

1- يا وقت لا تبخل عليْ والله يعين
هات الذي مخفيه ما ني معترض
2- بيني وبين معاندك عِشرة سنين
من بادي الأيام واِحنا مع بعض
3- دامي جَمَل حمّل عليْ لا تستهين
ضاري على ضَكّ العَرَاوِي والشَّضَض!
4- ما شفت راحة منك يا الوقت الحزين
ومن كثر غدرك دوم قلبي منقبض
5- دنيا الشقا ما عمرها تاتي بزين
من منخفض تنزل بحالي منخفض
6- تزين لي يومين بالعمر وتشين
وتحدني وأضحك لها على مضض
7- وعلى هواها تسوقني يسار ويمين
وما كل درسٍ لو نعيده ينحفض
8- ودام الرجا بيد الذي به نستعين
ودام الأمل له نور في المقبل ومض
9- بَصْبُرْ علي دنيا الشقا بنت اللذين
واللي صبر يلقى السعادة والعوض
10- ودامي على نهج الرجال الطيبين
ما همني اللي صدني واللي بغض
11- بَرَافق اللي بساعة الشده يبين
وفي رفقة رجال السعة ما لي غرض
12- فيني من العزة ما يكفي العالمين
يوم الردي يشري المذلة ، ويقترض!
13- والذيب ما يخدعه مكر ابو الحصين
والحر دايم في السما ما ينخفض
14- واثر الجمل لا طاح كثروا الجازرين
وقِيد الجمل بعد الجمل ما هو عوض
15- وأموت ما حققت حلم الشامتين
اللي الوفا والطيب منهم منقرض
16- صامد بوجه الوقت والقاسي يلين
وفارض شموخي وعزتي ع المفترض
17- بعزز اللي في الدقهلية سجين
وأوقف مع اللي طاح ع فراش المرض
18- ما همني ظرفي ولا قِل اليدين
ولا همني حظ إن بَرَك بي ما نهض
19- والحمد لله في عداد الشاكرين
متحملٍ كل الذي منه انفرض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى