أمل الكردفاني- نص غير مجنس

أصوات السيارات المنطلقة في الطرق السريعة، تستأثر بوحشة الشتاء. تلك الشلالات المتقطعة من الرحيل. غير المستأنَسة بهدأة الأرياف الخضراء. إنها صوت المدن، وهوية الدول، وإسم آخر للفردانية.
في المدن، في المباني الحجرية العالية الكئيبة، بسلالمها الحلزونية السوداء القديمة، بتاريخها المنسوج في لغة الخطاب. بأصوات بائعيها المتجولين، ومتسوليها، بأفواج الموظفين الذين لم يغسلوا وجوههم بعد. بأعقاب السجائر المبعثرة في كل مكان، بصخب الظهيرة، بموت الألفة، واحتكار اللا حقيقة. بطرقها السريعة، وبمراهقيها من ذوي التصفيفات القبيحة، بمباني مؤسساتها التي تتخفى داخلها الرتابة، والدسائس، وكره غير مبرر لكل شيء. بحكوماتها التي لا تُرى إلا في التلفاز والمذياع. بكل شيء فيها قاتل للروح والفن أو باعث للروح والفن. إذ تقتل وحشتها الروح والفن، وتبعثهما الكآبة والألم من جديد في حلقة مغلقة. بكل ذلك يزداد ثراؤنا من العدمية، التي تغمر الأشياء فيها. وتبدو العودة إلى الطبيعة واجب نفسي غير قابل للتنفيذ.
يمكننا أن نلتقي بالهمجية في المدن أكثر من الريف، وبالقتل أيضاً، وبالحب المشبع بالخوف، وبإضطراب موقع الذات من محيطها. وبالقلق المستمر على غير المُدرك. التوجس من كل نقطة زمنية مقبلة، ونسيان كل نقطة زمنية عبرت، وفقدان اللحظة.
المدينة، هي قُبة فولاذية تسجن رقصات الشياطين في أدمغة البشر، وتغذي التجنب. لتضع الفرد في مسارات من خطوط مستقيمة ومتعرجة لا يمكنه الإفلات منها. والعصافير فيها تزقزق، غير أن كلماتها أكثر وضوحاً فهي تطلب الطعام ولا تنشد الغناء.
ترتعش الطيور مبهوتة أمام الزنازين الحجرية. يستلبها حنين إلى الفضاء، فتغادر أسلاك الكهرباء وأعمدتها. ترفرف رفرفات سريعة وتسبح هاربة من الواقع كما أفعل تماماً بهذا النص.

____
أمل الكردفاني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى