مسعد بدر - الأمثال الشعبية في بادية سيناء وظيفة البنية الأسلوبية

هذا المقال يتناول الأمثال الشعبية، في بادية سيناء، من حيث هي نص أدبي شفوي تواصلي، له أساليب بلاغية معينة، صيغت في بُنَى لغوية خاصة؛ ضمانا لإيصال الرسالة.

1- المثل نص:

يشكل المثل الشعبي نصًّا، بالنظر إلى أن النص "أيُّ مقطعٍ مكتوب أو منطوق يكوّن – نتيجة للتماسك والترابط – كُلا متحدا".(188/6) ولمّا كانت الأمثال الشعبية شفوية؛ فإن "المقابلة بين نص مكتوب ونص شفوي هو حصر للحامل أو الوسيط"(553/5) لا أكثر. ثم إنه لا اعتبار للكم النصي هنا، بل يكفي الملفوظ أن "يشكل وحدة تواصلية. ولا يهم أن يكون المقصود هو متتالية من الجمل، أو من جملة وحيدة، أو جزء من الجملة... فليس النص بنية مقطعية مُلازِمة، ولكنه وِحدة وظيفية تنتمي إلى نظام تواصلي".(533/3) في ضوء ذلك يأتي المثل: "بِيْضَة ديك"، أو "بِيْضَة حُوْل"(1)؛ فهو ليس جملة كاملة من (مسند ومسند إليه)، لكنه يؤدي وظيفة اتصالية يدركها ابن بيئة المثل فور سماعه؛ ليتأكد لنا، بتعبير آخر، "أن مفهوم النص لا يستوي مع مفهوم الجملة على مخطّط واحد".(533/3)

وما دام المثل نصا تواصليا؛ فإن ذلك يستدعي أن يُصاغ في أساليب خاصة تقوّي عملية الاتصال، لا أن يُساق في كلام "يساوي درجة الصفر التعبيرية"، وَفق قول الأسلوبيين.

2- المثل أسلوب:

يعرّف (ريفاتير) الأسلوب بأنه " كل شكل مكتوب فردي ذي مقصدية أدبية"(19/12). ثم يضيف: "وهذا التعريف محدود جدا؛ فعِوض (شكل مكتوب) ينبغي وضع عبارة (شكل ثابت) حتى يمكن احتواء أساليب الآداب الشفوية"(19/12). على أن هذا التعريف غير جامع؛ لأنه، باشتراطه (الفردية)، أغفل الآداب الشفوية الشعبية – ومنها الأمثال – التي تفتقد هذا الشرط؛ لكونها إنتاجا جماعيا. كما أن المقصدية الأدبية لا تكفي لأن تخلق أسلوبا أدبيا؛ فإن عَمَلا يقصد به مؤلفه أن يكون أدبا قد لا يتجاوز الوظيفة اللغوية الإخبارية؛ فيفشل في حفز المخاطَب على حمل الرسالة، فضلا عن تمثّل التجربة المعبر عنها خلال النص. فما هي محددات الأسلوب المؤثر؟

ينشأ الأسلوب من (المجاوزة) للمعدل العادي لاستخدام اللغة. و"إذا أردنا أن نضرب مثالا مبسطا لظاهرة المجاوزة؛ فيمكن الرجوع إلى المثال الشائع: إذا قلت "البحر أزرق"؛ فأنت تتكلم وأنت في (درجة الصفر التعبيرية). لكن عندما تقول مثل (هومير): "البحر بنفسجي"، أو "البحر خمري"؛ فأنت تصنع أسلوبا".(27/2) كذلك حين أقول: الفقر مُرهِق؛ فأنا بذلك خارج دائرة الأسلوب، أما حين يَعمَد المثل إلى هذا المعنى ذاته فيصوغه في صورة تشبيهيه تجعل الفقر (القِل) صعودا شاقا في الجبل (سَنْدِي): "القِل سَنْدِي"؛ فهو يصنع أسلوبا. ويمثل (ريفاتير) للمجاوزة/ الانحراف بهذه المعادلة(92/9):

نسـق أصغـر + مخالفة = مسلك أسلوبي

ياكل مع الذيب + ويبكي مع الراعي = مسلك أسلوبي، قائم على المفارقة التي تصوّر النفاق!

وِدَّكْ من جَزَّاز كَلْبِة + صُوْف؟(2) = مسلك أسلوبي مُعبِّر عن الاستحالة.

وقد سبق وصف الأسلوب بالثبات، لكن "صفة الثبات هذه ليست ببساطة نتيجة الحفاظ على الوحدة الفيزيائية للنص، ولكن على الأصح نتيجة حضور خصائص شكلية في النص".(19/12) كما تَقَّدمَ – أيضا – وصفُ النص بأنه كُلٌّ متَّحِد، وينجم عن هذا الكُل المتَّحد "خاصية أخرى هي أن يكون له بنية، أي نظام يحكم علاقات أجزائه، ويجعلها متراتبة، يتوقف كل جزء منها على ما قبله ويؤدّي لما بعده. هذه البنية في صميمها ذات صِبغة دلالية".(109/10) وهذا يأخذنا إلى المحور الثالث: البنية الشكلية والبنية الدلالية.

3- بنية المثل:

3/1- يمكن تعريف النظرية البنيوية – اختصارا – بأنها النظرية التي تفترض أن "الأدب، كنتاج ثقافي، يتشكّل من بنية اللغة التي يُعتقد أنها تكوّن الطبيعة الحقيقية لإدراكنا للواقع".(55/8) أما البنية فهي "كلٌّ مكوَّن من ظواهر متماسكة، يتوقف كلٌّ منها على ما عداه، ولا يمكن أن يكون ما هو إلا بفضل علاقته بما عداه".(120/11) ودراسة هذه الظواهر المتماسكة هي هدف الدراسات البنائية التي "تتمثل في البحث عن العلاقات التي تعطي العناصر المتحدة قيمةَ وضعِها في مجموع منتظم، مما يجعل من الممكن إدراك هذه المجموعات في أوضاعها الدالة".(133/11) فالبنية الشكلية – إذن – "ذات صبغة دلالية"، والتمايُز بينهما هو تمايُز نظري فقط.

3/2- وقد تحدث (دايك) عن وجهين متداخلين متكاملين للبنية: البنية العُليا/ العلوية، والبنية الكبرى. وهو يُطلق على تلك "الأبنية العامة [الكلية] التي تميّز نمط نص ما (أبنية عليا)"(209/7) وهي البنية التي تميِّز، من حيث الشكل، نمط الفن الأدبي: الشعر أو الرواية أو المَثل أو غيرها. ولهذه الأبنية العليا أنواع؛ فما أنواعها في أمثال بادية سيناء؟

بالنظر إلى ما بين أيدينا من هذه الأمثال، يمكن أن نحدد نوعين اثنين: البنية السردية، والبنية الحجاجية. والمقصود بالبناء السردي: الحكايات اليومية الطبيعية، والخرافات والأساطير والنكت والأمثال، والروايات وما أشبه؛ على أن "يفي بمعيار الأهمية".(228/7) ومن أمثلته: "دُوْر مع الدَرْبِ لَوْ دَارَتْ، وخُذْ بِنْت السَّبْع لو بَارَتْ". و"حزين، طّبْ في سَلْ تِيْن"(3). ومعيار الأهمية في هذا السرد أن تركيبته اللغوية تنحرف نوعا ما عن "التوقعات والعادات"، فضلا عن القيم الدلالية المتضمنة.

أما البنية الحجاجية؛ فإن "الأمر يدور [فيها] حول تتابع فرض (مقدمة) – نتيجة".(233/7) ومنها: "اَزْرَعْ؛ تَحَصِد". و"إِنْ عَانَك الزمان؛ اَرْكَبْ"(4). وسنعود إلى هذين النوعين بشيء من التفصيل، لاحقا.

فإذا تحدثنا عن الوجه الآخر من وجوه البنية، أي: البنية الكبرى؛ فإنها تشمل "البنية الدلالية العامة لنص ما".(74/7) وهي التي "تصوّر الترابط الكلي ومعنى النص".(75/7) ولن نتكئ كثيرا ولا قليلا على هذا المحور؛ لأن هدفنا هو بيان وظيفة البنية الأسلوبية، لا المضامين الدلالية.

3/3- وإذا تحدث (دايك) عن بنية عُليا/ كلية؛ فهو يضعها "في مقابل أبنية خاصة أو صغرى على مستوى الجمل".(210/7) لكن ذلك لا يعني – وَفق رأيه – "أن لكل النصوص بنية عُليا، إذ تُوجد في نهاية المطاف نصوص لا تتكون إلا من جملة أو حتى من كلمة"؛(217/7) فهل المثل القائل: "خَرَزَةْ فَاسْ"(5)، وهو جزء من جملة، هل يفتقد البنية العليا؟ نعتقد أن لا. واعتقادنا مبني – أولا – على أن (دايك) كان يتحدث عن أنماط من الأدب لها سلاسل لغوية، مثل "الحكاية والجدل (الحجاج) والقصيدة"،(217/7) ويسوق رؤيته تبعا لخصائصها الذاتية. ونبني اعتقادنا هذا – ثانيا – على قول (دايك) نفسه حين تحدث عن جملة من كلمة واحدة: "يمكن للمرء أن يعد هذا المنطوق جزءا من محادثة، وأن يميز في المحادثة تبعا لذلك بين أبنية عليا معينة".(218/7) فمستخدم اللغة حين يسمع المثل: "اِذْرَاع رِيْح"؛ فإنه لا يسَعُه أن يعزله من سياقه، ولا يعجز ابن البيئة المنتجِة عن تخيُّل بنيات نصية جزئية تندرج تحت هذه البنية العليا التي تصف شخصا يتحدث ويكذب بسهولة واستمرار، كأنه (ذِراع) أي تل رملي ناعم تذروه الريح فيتطاير، ولا بد أن مستخدم اللغة يتخيل ردودًا نصية جزئية من الحاضرين؛ "لأن الحديث المثار يمكن أن يوصف احتمالا في جزء أكبر من النص".(228/7) والحال أنه "يمكن أن يفرّق تفريقا شديدا بين نصوص تحقق بنية عليا (صحيحة) ونصوص لا تكون الحال معها كذلك"،(215/7) بعبارة (دايك) نفسه.

3/4- والأمر نفسه ينسحب على الأبنية الدلالية الكبرى للنصوص؛ التي تصوّر الترابط الكلي ومعنى النص، وتتراكم تحتها بُنيَات دلالية صغرى، وقد "يكون المستوى الأصغر مساويا للمستوى الأكبر. ويكون ذلك تقريبا حينما يتكون نص ما من جمل قليلة أو من جملة واحدة".(76/7) ففي مِثل قولهم: "بِزِّ حْمَار"(6)؛ نرى أن "الأبنية الصغرى والكبرى يمكن أن يتوافقا توافقا تاما".(217/7)

انتهينا إلى أن المثل نص تواصلي يقوم على (الأسلوب) "بوصفه استرعاء للانتباه: تعبيريا، عاطفيا، أو جماليا. وهو استرعاءُ انتباه مضافٌ إلى الخبر المبثوث بواسطة البنية اللسانية".(20/12) فما هي أنماط هذه البنية اللسانية/ اللغوية في أمثال بادية سيناء؟

4- أنماط بنية المثل:

قلنا إن الأمثال في بادية سيناء تتخذ مظهرين بنائيين: البناء السردي، والبناء الحجاجي. وهنا نضيف بعض الإضاءات حولهما.

أولا - البناء السردي:

وهو، من خلال هذه الأمثال، بناءٌ يقوم على الإقناع العاطفي، موظفا عدة أبنية صغرى تندرج تحت بنية السرد العليا. وهذه الأبنية الصغرى تتمثل في خصائص التركيب اللغوي؛ ونقصد هنا (الإيجاز). أو في خصائص الألفاظ داخل هذا التركيب، ونقصد به البنية الإيقاعية.

1- الإيجاز: منذ القِدم وُصف المثل بـ "إيجاز اللفظ".(280/1) والإيجاز هو "جمعُ المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل الوافي بالغرض، مع الإبانة والإفصاح".(197/4) والتركيب اللغوي للإيجاز يتّخذ مظهرين: القِصَر، والحذف.

1/2- أما إيجاز القِصَر؛ فإنه "يكون بتضمين العبارات القصيرة معاني كثيرة من غير حذف"(198/4) أيِّ جزء من أجزاء التركيب اللغوي. ومن أمثلته: "المَرْبَى كَتَّال"(7). و"اِبْيوقد باخَضَرْ"(8). الأول جملة اسمية كاملة. والثاني فعلية قوامها الفعل ومتعلقاته، ولا حذف. لكنهما تعبيران مكتنزان بطبقات دلالية يصعب حصرها. وهذا التركيب اللغوي المُختَزَل يؤدي دورا مُهمًّا في عملية التواصل بين المثل ومستقبليه؛ "فالأمثال بالنسبة لنا عالم هادئ، نركن إليها حينما نود تجنُّب التفكير الطويل في نتائج تجربتنا، ونحن نذكرها بحرفيتها إذا كانت تتفق مع حالتنا النفسية، بل إننا نشعر بارتياح لسماعها وأن نعيش التجربة التي يلخّصها المثل".(205/13)

1/3- وأما إيجاز الحذف؛ فيكون "بحذف شيء من العبارة لا يخلّ بالفَهم"(199/4). ومثاله: "بَدِّيعْ نُقْرَة"(9). أي: هو بديع نقرة؛ فحذَفَ المبتدأ، دون أن يستغلق علينا فَهْم المضمون. وهذه سمة شائعة جدا في أمثال بادية سيناء، ويبدو أنها سمة تشيع في كل (بثّ شفوي). يقول (ريفاتير): "ونحن نعرف أنه في أغلب الأوقات يجري بثّ السلسلة الكلامية [الشفوية] بطريقة مضمرة؛ لأن السياق والمقام يسمحان لنا بإغفال قسم مهم من السمات... دون تعريض فهم هذه الرسالة للخطر".(26/12)

والحق أن القول في (فضل الإيجاز) يطول جدا؛ حتى لقد جعل العرب "البلاغة الإيجاز". وقد أورد (ابن رشيق) عبارة رائعة كاشفة: "البلاغة إجاعة اللفظ، وإشباع المعنى"!(242/1)

1/4- مرونة التركيب اللغوي: وهذه السمة وليدة إيجاز الحذف. ومؤداها أن بعض التعبيرات الموجزة تحتمل أكثر من تأويل، من ذلك قولهم في المثل: "ريف ورغيف". فإنه يحتمل عدة تأويلات، منها: أنا (أو هو أو من شئت)، أسكن الريف الخصيب، وأجد الخير المرموز له بالرغيف. وقد يكون المعنى: أتمنى الريف والرغيف. وربما تتضمّن الصياغةُ الإيحاءَ بخمول الريف حيث يسهل الحصول على الرغيف. أو الدلالة على كرم الريف. أو هو (تعريض) بالريف الذي يرضى أهله بمجرد الرغيف، في مقابل حياة الصحراء ذات القسوة والتحدي. والمثل الآخر: "اِفْرَاشْ وطِيْبْ مَعاش"(10) يقبل كل هذه التأويلات.

ومن نماذج هذه المرونة قولهم: "شُرَّابِةْ خُرْج"(11)، و"حَطَّاب ليل"(12)؛ فقد يكون المعنى: هو، أنت، هم، أذم، ... إلى حد غير قريب من التأويلات. "على أن فَنّ الكلمة هنا يبتعد عن كل هذه التأويلات التي من شأنها أن تقلل من قيمة الكلمة الفنية... [التي] حملت من المعاني ما تعجز الكلمات الكثيرة عن بيانه".(203/13) فضلا عن هذه أن المرونة تكثّف عملية الاتصال حينما تمنح المتلقي مرونة التمثّل بالمثل في أحوال متعددة ومتفاوتة.

2- البنية الإيقاعية:

وهي قرينة الإيجاز في وفرة الأمثال التي توظفها، ولها عدة صور:

2/1- الجناس: وهو "أن تشبه اللفظةُ اللفظةَ في تأليف حروفها"،(231/1) كقولهم: "اِغْرَاب فـِ جْرَاب"(13). وقولهم: "شُوْفِ وْقُوْف"(14). وللجناس أهمية في النص نفسه؛ به يصير "الكلام مرتبطا ببعضه، ومظهرا لخفِيِّ محاسنه"(229/1) شرط أن يكون تعبيرًا "سمحت به القريحة وأعان عليه الطبع" بعبارة (ابن رشيق)، دون تكلف. وله – أيضا – أهمية تتعلق بتقوية التواصل والتفاعل مع المثل؛ فإن في الجناس "استدعاء لميل السامع والإصغاء إليه؛ لأن النفس تستحسن المكرر مع اختلاف معناه ويأخذها نوع من الاستغراب".(325/4)

2/2- السجع: وهو توافق عبارتين، أو أكثر، في الحروف الأخيرة، ومنه: "دُوْر مع الدَرْبِ لَوْ دَارَتْ، وخُذْ بِنْت السَّبْع لو بَارَتْ". و"اَحَفَظ أُصُبْعَكْ صِحِيحْ، لا يِدْمِي ولا يْقِيحْ"(15).

2/3- التركيب المزدوج: وهو أشبه بما أسماه القدماء (الترصيع). وقوام الازدواج في أمثال بادية سيناء أن يقع التوازي بين ألفاظ التركيبين المتتاليين، مثل: "رَبِّي ضعيف المال ينفعك، رَبِّي ضعيف الرجال يدفعك"؛ فكل تركيب يقوم على: فعل أمر + مضاف ومضاف إليه + فعل وضمير المخاطب. ومنه: "قُرُصَه في ناره، وعِيْنِهِ لْجَارَه"، و"ياكل مع الذيب، ويبكي مع الراعي". وقد تكون الموازاة بين الأمر والنهي؛ وكلاهما طلب، مثل: "باطِح البدوي، ولا تْجَاريه"(16). و"نامْ فـِ بْطُون الجبال، ولا تنامْ فـِ بْطُون الرجال".

إن البنية الإيقاعية هي قرينة الإيجاز شيوعا على محور البنية السردية. وهما من عوامل حفظ التراث الشفوي ليظل موروثا متداولا. وهما أيضا من وسائل تكثيف الاتصال؛ فإن المثل الموجز القصير يحتاج إلى شحنة إيقاعية تثير انتباه المتلقي إلى الدلالة المتضمنة؛ فإن للأصوات قيمة تعبيرية، وإن الدراسات الصوتية في الأدب، أو ما يمكن أن يُدعى بالأسلوبية الصوتية، تؤكد أن البنية الإيقاعية تمارس على النص تأثيرا خاصا. وجملة القول في هذه المسألة أن الإيقاع في المثل "من شأنه أن يصنع الشكل اللغوي المُقفَل، فما أن تنتهي العبارتان، المتحدتان على وجه التقريب في الوزن والإيقاع، حتى ينتهي المثل".(204/13)

ثانيا - البنية الحجاجية:

وتأتي في صورتين، وَفق ما بين أيدينا من أمثال.

الصورة الأولى: "الحِوار الإقناعي"، ويمكن التمثيل له بقولهم: "تَعَرِفِ فْلَانْ؟ قال: بَعِرْفِه. قال: جَاوَرْتِه؟ قال: لا. قال: عَامَلْتِه؟ قال: لا. قال: ما بْتَعِرْفِه"! فالحِوار هنا يقصد إلى الإقناع بأن معرفتك الشخص تنتج عن معاملتك معه. ومن ذلك: "قال: ويْنِ بْتِشْتِغِل يا حَرْذُوْن؟ قال: في معصرة زيت. قال: اِمْبَيِّنْ عَ جِلْدَكْ"!(17) والغرض في هذا السياق هو الإقناع بأن أثر النعمة يظهر على صاحبها.

الصورة الثانية: "ربط المقدمة بالنتيجة". وله صورتان:

1- الطلب وجوابه: والطلب قد يكون أمرا، مثل: "اُطْلُبْ؛ تَعَطَى"، و"اِسْرِي، تَلْقَى"(18). وقد يكون الطلب نهيا: "لا تْعَابِي الرَّدِي برَدَاه؛ تِتْسَاوَى إِنْت وَيَّاه"(19). وربما جاء الطلب وجوابه كلاهما في صورة النهي: "لا تَاسِي؛ لا تْخَافْ"(20).

2- الشرط وجوابه: ومن أدوات الشرط في هذه الأمثال (إنْ)، مِثل: "إنْ رِكِبْتَ ارْكَبْ قَارِح"(21)، و"إنْ أَعْجَبَكَ الْمَرْتَع؛ اِرْتِعْ دُوْنِهْ"(22). ومن أدواته (من): "من رَقَّعْ؛ ما عِرِي"(23)، "من طَوَّل الغِيْبَات؛ جَاب الغَنَايِم". وقد تؤدي كلمة (اللّي) دور الربط الشرطي: "اللّي يبيع الجَمَل؛ لا يَنْدَمْ عَ الرَّسَنْ"، و"اللّي يَحَضِرِ وْلَادْ شَاتِهْ؛ بِتْجِيْب تُوْم"(24).

إن البنية الحجاجية تؤدي دورا مركزيا في المثل؛ بوصفه خطابا تواصليا. "وتكمن القيمة هنا، خلافا للزعم المباشر، في إقناع المستمع بصحة الزعم أو بحقيقته"؛(234/7) فترقى الحجاجية بعملية الاتصال إلى مستوى الإقناع الذي يجعل المثل قادرا على التأثير وتغيير السلوك نحو القيمة التي يحملها النص.

(نُشر هذا المقال في مجلة الثقافة الجديدة، القاهرة، عدد أكتوبر، 2021)

**************

الهوامش:

(1) يُضرب المثل الأول للاستحالة. والثاني لندرة الشيء. حول: عام.

(2) وَدّك: تريد. الجزّاز: هو من يقص الشعر. أي: فاقد الشيء لا يعطيه.

(3) أي: جائع عثر على سلة تين. مثل للنعمة بعد الحرمان.

(4) إن ساعدتك الظروف أن تكون لك ركوبة؛ فاركب.

(5) خرزة الفأس هي الجزء الناتئ منها. وهو مثل للصلابة.

(6) مثل للبخل؛ فإنهم لا يحلبون الحمير.

(7) المربَى: مكان النشأة. كتّال: قتّال، صيغة مبالغة. أي أنه يجذب الناس بقوة، أو أنه يؤثر في طباعهم.

(8) ابيوقد: يشعل النار. باخضر: بحطب أخضر. يضرب لعدم إحكام الأمر.

(9) البديع هو المغني في السامر. والنقرة: أرض منخفضة، وخالية في هذا السياق. أي أنه يُجيد الغناء إذا لم يكن له منافس. ويُضرب للمتفاخر بنفسه ولا هو لا شيء!

(10) أي: فراش مريح. وعيش طيب.

(11) شرابة الخرج: زينة تتدلى منه، وتتبعه في الحركة. مثلٌ لمَن لا رأي له.

(12) أي لا يميز بين النافع وما لا ينفع.

(13) الغراب في الجراب يكون مسيطَرا عليه. وهو مثل لانقياد الحاجة وسهولة تحقيقها.

(14) شوف: رؤية. وقوف: أي أن مجرد وقفته جميلة. مثلٌ للحُسن.

(15) يدمي: يسيل دمه. يقيح: أي يُصاب فيخرج منه الصديد.

(16) باطح: صارع، فعل أمر. أي أن البدوي سريع الجري، لا يُجارى.

(17) الحرذون: الحرباء. امْبيّن: واضح. مثل لمن يدعي غير الحقيقة.

(18) أي: اسع مبكرا؛ تحقق هدفك.

(19) أي: لا تؤاخذ رديء الخلق برداءة خلقه.

(20) لا تعتدِ؛ يتحقق لك الأمان.

(21) القارح: الفرس المروّضة.

(22) المرتع: مكان الرعي. ارتع دونه: لا تتوغل فيه. مثل للحرص والحَيطة.

(23) أي: من يرّقع ثيابه؛ فإنها تكفيه. مثل لحُسن الاقتصاد.

(24) من يراقب شاته وقت ولادتها؛ فإن تنجب توأما. مثلٌ للاهتمام والعناية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

نكتب يسار الاقتباس (1/2)، حيث (1) هو رقم الصفحة، و(2) هو رقم الكتاب في هذه القائمة. وما وُضع بين معقوفين [..] هو من إضافتنا نحن.

1- ابن رشيق القيرواني، العمدة، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، ط2، 1955

2- أحمد درويش، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، دار غريب، القاهرة.

3- أوزوالد ديكرو- جان ماري سشايفر، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، ترجمة منذر عياشي، المركز الثقافي العربي.

4- السيد أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة، المكتبة العصرية، لبنان.

5- باتريك شارودو- دومينيك منغنو، معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبد القادر المهيري وحمادي صمود، دار سيناترا، تونس.

6- برونوين مارتن- فليزيتاس رينجهام، معجم السيميوطيقا، ترجمة عابد خزندار، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2008

7- تون أ. فان دايك، علم النص، ترجمة سعيد حسن البحيري، دار القاهرة للكتاب، ط1، 2001

8- ديفيد بُشبندر، نظرية الأدب المعاصر، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2005

9- شكري عياد، مبادئ علم الأسلوب العربي، دار ناشيونال، القاهرة، ط1 1988

10- صلاح فضل، أشكال التخيل، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط1،1996

11- صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998

12- ميكائيل ريفاتير، معايير تحليل الأسلوب، ترجمة حميد لحمداني، منشورات دراسات سال، المغرب، ط1، 1993

13- نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار المعارف، القاهرة، ط3

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى