المقامة جنس أدبي عربي ابتكره بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري ولا شك أنه أفاد في ابتكاره له من فن النادرة -على وجه الخصوص -فالمقامة خرجت من النادرة ففي النادرة والمقامة قص وفكاهة ولكن النادرة هي أقصوصة قصيرة طريفة أما المقامة-كما ابتكرها بديع الزمان - فقصة لها بطل هو أبو الفتح الإسكندري وراوية هو عيسى بن هشام وأغلب قصصها عن مواقف احتيالية يقوم بها بطلها أبو الفتح الإسكنري ويتنكر فيها وفي نهاية المقامة يكتشف عيسى بن هشام شخصيته الحقيقية ويبرر له أبو الفتح تنكره واحتياله لأن أناس العصر الذي يعيش فيه لا يقدرون مواهبه كأديب ولهذا اضطر لهذا الاحتيال والخداع ليوفر لنفسه ولأسرته مورد رزقهم
ومن صفات المقامة كما ابتكرها بديع الزمان -إلى جانب ما سبق ذكره- وجود المحسنات البديعية فيها بكثرة خاصة السجع والجناس والمقابلة ومزج الشعر بالنثر فيها وتضافر عناصر الفكاهة بها لا سيما المفارقة ورسم المواقف الطريفة والتنكر والتكرار والحوار الطريف والصور المثيرة للضحك وغير ذلك
أما عن المقامة الإبليسية وصورة الشيطان فيها فنقول إن النادرة الجنس النثري السابق على المقامة والذي خرجت المقامة من رحمه لم يظهر فيها الشيطان بشكل واضح ولكن كان ذكره فيها بصورة هامشية وغالبا ما يأتي ذكره فيها بتشبيه بعض الناس في سلوكهم الشرير بالشيطان وقل أن نرى الشيطان حاضرا مجسدا في النادرة وذلك لأن النادرة تهتم بأحوال الناس في حياتهم العادية ولذَا لا تهتم بعرض الخوارق من الأمور والشخصيات المرتبطة بالعوالم الخفية والغيبية ومن ذلك الشيطان
ولعل بديع الزمان أن يكون أول أديب صور لنا الشيطان في عمل قصصي قديم وذلك في المقامة الإبليسية وتبعه بعد ذلك في توظيف الشيطان في أعمال قصصية أبو العلاء المعري في رسالة الغفران وابن شهيد الأندلسي في رسالة التوابع والزوابع
ويضطلع إبليس في المقامة الإبليسية بدور البطولة فيها في حين لا يركز الضوء فيها بشكل قوي على أبي الفتح الإسكندري الذي يضطلع بدور البطولة في باقي المقامات إلا القليل منها كالمقامة البغداذية
ويفاجئنا الهمذاني في هذه المقامة بصورة إبليس فيها فهو يبدو فيها من النظرة الأولى لهذه المقامة مخالفا للمتعارف عليه من أنه مصدر الشر والإغواء للناس فنرى في بداية المقامة عيسى بن هشام يسير وسط جنان زاهية ويبحث عن ناقته التي فقدها ويشعر عيسى ببعض الرهبة في سيره في هذه الجنان لأنه لا يرى أحدا من الناس فيها يؤنسه ويخفف عنه وحشته وفجأة يظهر أمامه شخص يحاول أن يخفف من إحساسه بالرهبة في هذا المكان وحين يسأله عيسى عن ناقته التي فقدها يدله على مكانها ويطلب إلى عيسى أن ينشده بعض الشعر لأنه هو نفسه شاعر ولا يكشف هذا الشخص عن شخصيته إلا عندما ينشد قصيدة معروفة أنها لجرير فيدعي أنه هو نفسه مؤلفها وحين يعارضه عيسى في ادعائه هذه القصيدة أنها له يكشف له عن حقيقته وأنه إبليس أبو مرة وأنه هو الذي ألف هذه القصيدة وأوحاها لجرير لأنه -حسب قوله -لكل شاعر شيطان يلهمه الشعر وأنه هو الذي ألهم جريرا هذه القصيدة
وبالطبع نضحك من هذه المفارقات الكثيرة في هذه المقامة فبدلا من أن يظهر إبليس في الخرابات- كما هو المشهور عنه وعن قبيله -نراه في هذه المقامة يظهر في حدائق بديعة وبدلا من أن يقوم بإضلال عيسى وإغوائه -كما هو المشهور عنه -إذا به هنا هو الذي يطمئن عيسى ويثبته حين يراه فزعا لإحساسه بالرهبة في هذا المكان وكذلك بدلا من أن يعمل على جلب الشر لعيسى وإفساده لسعيه في البحث عن ناقته إذا به هنا هو الذي يدل عيسى على مكان ناقته الشاردة عنه
وبالطبع نضحك حين نرى إبليس رأس الفساد ومنبع الشر في هذا العالم يظهر بهذه الصورة المخالفة لحقيقته وكما نعلم فصدور الشيء من غير المتوقع منه مدعاة للضحك فما بالنا والذي يقوم بأعمال يبدو ظاهرها خيرا هو إبليس
ولا يكتفي إبليس في هذه المقامة بما قام به من أعمال تبدو خيرا في ظاهرها مع عيسى بن هشام بل نراه بعد ذلك يتسول عليه أبو الفتح الإسكندري ويبره إبليس بأن يعطيه عمامته ويتباهى أبو الفتح عند ذلك بأنه تسول على إبليس رأس الشر والفساد ونال منه عمامته
ونتساءل لم صور الهمذاني إبليس في هذه المقامة بهذه الصورة ؟وما هدفه من ذلك ؟إننا في الحقيقة لو دققنا النظر في تصرفات إبليس في هذه المقامة لرأينا له أهدافا تتناسب مع المعروف عنه من شر وإن كان هنا يتستر في إخفاء هذا الشر بعمل أعمال تبدو خيرية في ظاهرها
فإبليس إن كان دل عيسى على مكان ناقته الشاردة عنه فلم يسلك في إدلاله عليها الأسلوب المباشر بل اتبع اللغز في هذا ومن هنا نرى أنه لا يستطيع أن يفعل الخير مجردا ولا بد معه من أن يتعب من يوجه إليه نصحه ثم إنه حين روى له عيسى كثيرا من شعر شعراء العرب في العصر الجاهلي لم يعجبه هذا الشعر ولكنه انتشى حين أنشده عيسى قصيدة لأبي نواس مسرفة في الفحش والمجون فها هو ذَا إبليس مهما حاول أن يتنكر في صورة شخص خير فإنه لا يستطيع مع ذلك أن يخفي حقيقته الشريرة فهو لا تعجبه أشعار الجاهليين التي لا إسراف في مجونها فليس فيها غزل بالغلمان ولا دعوة للتمرد كما هو الشأن في شعر أبي نواس الذي أعجب إبليس به
إنها مهارة كبيرة من بديع الزمان في أن يظهر إبليس في هذه المقامة يبدو خيرا من النظرة السطحية لها ولكننا حين نتتبع تصرفاته فيها بتأمل شديد وأهدافه من وراء هذه التصرفات ندرك أنه لم يفارق شره المعهود عنه وإن كان حاول أن يظهر لنا في هذه المقامة بصورة مخالفة للمعروف عنه
وما أروع بديع الزمان وهو يرسم لنا صورة الشيطان بمكره في هذه المقامة ويفجر منها الفكاهة بعرض المفارقات العديدة بها ورسمه الكاريكاتوري للشيطان الذي يبالغ في عمل الخير خداعا منه ولكنه لا يستطيع مع ذلك أن يخفي نواياه الشريرة من أعماله التي يبدو ظاهرها فيه خير ونفع
ومن صفات المقامة كما ابتكرها بديع الزمان -إلى جانب ما سبق ذكره- وجود المحسنات البديعية فيها بكثرة خاصة السجع والجناس والمقابلة ومزج الشعر بالنثر فيها وتضافر عناصر الفكاهة بها لا سيما المفارقة ورسم المواقف الطريفة والتنكر والتكرار والحوار الطريف والصور المثيرة للضحك وغير ذلك
أما عن المقامة الإبليسية وصورة الشيطان فيها فنقول إن النادرة الجنس النثري السابق على المقامة والذي خرجت المقامة من رحمه لم يظهر فيها الشيطان بشكل واضح ولكن كان ذكره فيها بصورة هامشية وغالبا ما يأتي ذكره فيها بتشبيه بعض الناس في سلوكهم الشرير بالشيطان وقل أن نرى الشيطان حاضرا مجسدا في النادرة وذلك لأن النادرة تهتم بأحوال الناس في حياتهم العادية ولذَا لا تهتم بعرض الخوارق من الأمور والشخصيات المرتبطة بالعوالم الخفية والغيبية ومن ذلك الشيطان
ولعل بديع الزمان أن يكون أول أديب صور لنا الشيطان في عمل قصصي قديم وذلك في المقامة الإبليسية وتبعه بعد ذلك في توظيف الشيطان في أعمال قصصية أبو العلاء المعري في رسالة الغفران وابن شهيد الأندلسي في رسالة التوابع والزوابع
ويضطلع إبليس في المقامة الإبليسية بدور البطولة فيها في حين لا يركز الضوء فيها بشكل قوي على أبي الفتح الإسكندري الذي يضطلع بدور البطولة في باقي المقامات إلا القليل منها كالمقامة البغداذية
ويفاجئنا الهمذاني في هذه المقامة بصورة إبليس فيها فهو يبدو فيها من النظرة الأولى لهذه المقامة مخالفا للمتعارف عليه من أنه مصدر الشر والإغواء للناس فنرى في بداية المقامة عيسى بن هشام يسير وسط جنان زاهية ويبحث عن ناقته التي فقدها ويشعر عيسى ببعض الرهبة في سيره في هذه الجنان لأنه لا يرى أحدا من الناس فيها يؤنسه ويخفف عنه وحشته وفجأة يظهر أمامه شخص يحاول أن يخفف من إحساسه بالرهبة في هذا المكان وحين يسأله عيسى عن ناقته التي فقدها يدله على مكانها ويطلب إلى عيسى أن ينشده بعض الشعر لأنه هو نفسه شاعر ولا يكشف هذا الشخص عن شخصيته إلا عندما ينشد قصيدة معروفة أنها لجرير فيدعي أنه هو نفسه مؤلفها وحين يعارضه عيسى في ادعائه هذه القصيدة أنها له يكشف له عن حقيقته وأنه إبليس أبو مرة وأنه هو الذي ألف هذه القصيدة وأوحاها لجرير لأنه -حسب قوله -لكل شاعر شيطان يلهمه الشعر وأنه هو الذي ألهم جريرا هذه القصيدة
وبالطبع نضحك من هذه المفارقات الكثيرة في هذه المقامة فبدلا من أن يظهر إبليس في الخرابات- كما هو المشهور عنه وعن قبيله -نراه في هذه المقامة يظهر في حدائق بديعة وبدلا من أن يقوم بإضلال عيسى وإغوائه -كما هو المشهور عنه -إذا به هنا هو الذي يطمئن عيسى ويثبته حين يراه فزعا لإحساسه بالرهبة في هذا المكان وكذلك بدلا من أن يعمل على جلب الشر لعيسى وإفساده لسعيه في البحث عن ناقته إذا به هنا هو الذي يدل عيسى على مكان ناقته الشاردة عنه
وبالطبع نضحك حين نرى إبليس رأس الفساد ومنبع الشر في هذا العالم يظهر بهذه الصورة المخالفة لحقيقته وكما نعلم فصدور الشيء من غير المتوقع منه مدعاة للضحك فما بالنا والذي يقوم بأعمال يبدو ظاهرها خيرا هو إبليس
ولا يكتفي إبليس في هذه المقامة بما قام به من أعمال تبدو خيرا في ظاهرها مع عيسى بن هشام بل نراه بعد ذلك يتسول عليه أبو الفتح الإسكندري ويبره إبليس بأن يعطيه عمامته ويتباهى أبو الفتح عند ذلك بأنه تسول على إبليس رأس الشر والفساد ونال منه عمامته
ونتساءل لم صور الهمذاني إبليس في هذه المقامة بهذه الصورة ؟وما هدفه من ذلك ؟إننا في الحقيقة لو دققنا النظر في تصرفات إبليس في هذه المقامة لرأينا له أهدافا تتناسب مع المعروف عنه من شر وإن كان هنا يتستر في إخفاء هذا الشر بعمل أعمال تبدو خيرية في ظاهرها
فإبليس إن كان دل عيسى على مكان ناقته الشاردة عنه فلم يسلك في إدلاله عليها الأسلوب المباشر بل اتبع اللغز في هذا ومن هنا نرى أنه لا يستطيع أن يفعل الخير مجردا ولا بد معه من أن يتعب من يوجه إليه نصحه ثم إنه حين روى له عيسى كثيرا من شعر شعراء العرب في العصر الجاهلي لم يعجبه هذا الشعر ولكنه انتشى حين أنشده عيسى قصيدة لأبي نواس مسرفة في الفحش والمجون فها هو ذَا إبليس مهما حاول أن يتنكر في صورة شخص خير فإنه لا يستطيع مع ذلك أن يخفي حقيقته الشريرة فهو لا تعجبه أشعار الجاهليين التي لا إسراف في مجونها فليس فيها غزل بالغلمان ولا دعوة للتمرد كما هو الشأن في شعر أبي نواس الذي أعجب إبليس به
إنها مهارة كبيرة من بديع الزمان في أن يظهر إبليس في هذه المقامة يبدو خيرا من النظرة السطحية لها ولكننا حين نتتبع تصرفاته فيها بتأمل شديد وأهدافه من وراء هذه التصرفات ندرك أنه لم يفارق شره المعهود عنه وإن كان حاول أن يظهر لنا في هذه المقامة بصورة مخالفة للمعروف عنه
وما أروع بديع الزمان وهو يرسم لنا صورة الشيطان بمكره في هذه المقامة ويفجر منها الفكاهة بعرض المفارقات العديدة بها ورسمه الكاريكاتوري للشيطان الذي يبالغ في عمل الخير خداعا منه ولكنه لا يستطيع مع ذلك أن يخفي نواياه الشريرة من أعماله التي يبدو ظاهرها فيه خير ونفع