وداد معروف - بيت العنكبوت

انتهت من تناول قطعة الشيكولاته التي حرصت علي تناولها في صباح كل يوم عصيب كهذا اليوم، دست الأوراق في حقيبتها وأسرعت بمغادرة المؤسسة التي تعمل بها، قطعت المسافة من مكان عملها (بيت العنكبوت ) كما تسميه دائما وهي تستعرض في مخيلتها رحلتها خلف كل توقيع من هذه الوجوه العكرة التي ابتليت بالوقوف أمامها
لاح لها المبني الكئيب من بعيد تثاقلت الخطوات وانقبض الصدر: لكن ما من بد من الدخول، دلفت إلى حديقته الجرداء الخالية من أي زروع وقد جلس عليها بعض الموظفين هربا من مكاتبهم التي تشبه سوق الأحد بأصناف من البشر لا تنتهي، نحيلا جاف العود، أشار إليها بأصابعه الطويلة كي تثبت حضورها في دفتر الزيارة، كتبت سماء ياسين وفى خانة سبب الزيارة كتبت مراجعة ملفات مؤسسة (نور الحق،) تأملها طويلا ثم قال: أرى وجهك قد تورد وأَنار بعدما انتقلت من هنا إلي مؤسستك الجديدة .
وهي تزم شفتيها عن ابتسامة ضنت بها:
مع كل عودة لمراجعة الملفات ينطفىء الأحمر و يثمر الأصفر في وجهي، نظر إليها ولم يعلق, مع كل بسطة من درجات السلم تقف في النافذة المطلة علي الطريق السريع تستروح الهواء وتعبئه في صدرها لتستعين به على تحمل المكوث في بيت العنكبوت، حتي السلم يعج بالبشر ما بين صاعد وهابط، جلست أمام صاحب أول توقيع، انتظرت دورها في المراجعة، هون عليها الوقت بعض الحوارات مع زملائها القدامى وكلما مر عليها أحد ألقى عليها التحية وبادلها بعض عبارات المجاملة، طالعت الجدران القديمة العتيدة وقد تدلت عليها خيوط العنكبوت، فعاملة النظافة مشغولة بفرش بضاعتها في السوق المجاورة لتلك المؤسسة بعد أن كسرت عين كبيرهم بكيسين كبيرين من الخضروات كل يوم، امتلأ أنفها برائحة الرطوبة المنتشرة في المكان، لم تفلح النافذة التي جلست قبالتها أن تشق لحم العتمة المقبضة التي خيمت علي الوجوه التي اعتلت تلك المقاعد، و جاء دورها أخيرا، قدمت مستنداتها وأوراقها، راجعها مديرها بكل دقة، أغلق الملف ووقع بالمطابقة، أشار إليها أن تصعد لرئيس الشئون المالية ليضع توقيعه، وكالعادة وقفت في انتظار دورها ، يأتي بشر ويخرج بشر ويؤخر أوراقها، يده لا تكف عن التوقيع ولسانه لا يتوقف عن السخرية من كل غاد ورائح، همست له بلطف لينهي توقيع أوراقها، انطلقت حنجرته صارخة: قفي كما أنت أنا الذى أقول متى أوقع ومتى أمتنع عن التوقيع .
عقد الذهول لسانها هنيهة ثم قالت:
لست طفلة كي تنهرني هكذا .... دخل العشرات وخرجوا ويدي ممدودة بأوراقي لم تتناولها مني .
نظر إليها بكراهية واستمر بالتوقيع.. مضي وقت طويل وهي على هذه الوقفة حتى خفت الأقدام عن الدخول أمسك بورقها وفضّه وتأمّله ورقة ورقه واستدعى الموظف الذى راجع لها ووبخه لقبوله هذه المطابقة وأخرج من درجه منشورا بالتعليمات التي يلجأ إليه كلما استغلق فهم إحدى المؤسسات أو تأخرت أو قللت من دفع الإتاوة، وبوجه أبيض شاحب وعيون بلا أهداب نهرها قائلا: اذهبي معه يا أبلة ليفهمك ما المطلوب، خرجت وهي كارهة لنفسها أن ألجأها الفقر لتقف أمام تلك الوجوه الكئيبة، انتحى بها صبيه جانبا وقال لها ناصحا: لن يوقع هذه التسوية ما لم يرسل له المدير نصيبه من المجموعات المدرسية، همّت بالرد لاحقها قائلا: وطبعا حقي أنا أيضا محفوظ أيأكل هو وأتفرج أنا؟ بابتسامة ساخرة قالت: لا طبعا لا يصح .
غافلته وصعدت لأحدهم تظنه أفضلهم تستشيره في الأمر عله يردعه: وبصوت تعلوه التقوى قال لها :
لا شأن لي بهذه الأمور، لا يحدثني فيها أحد فصدري يضيق منها... دبري أمرك، عادت لمؤسستها، ألقت الأوراق أمام مديرها وهمت بالانصراف فجاء صوته هادرا: حرامي... بطنه يجري فيها الحمار، قالت له بثبات: كنت تعطيه .. فلماذا امتنعت هذه المرة ؟ قال: نعم .. كنا نعطيه ولكنه لا يفوّت ولو مرة واحدة، كان هنا أول أمس وطلب أن أحضر له وجبة غذاء فلما هممت بطلبها خطف النقود من يدي وقال وصلت، خذي هذا المبلغ وأوصليه له، ارتجفت وقالت أتجعلني حلقة في مسلسل الرشوة بينكم؟
ليست رشوة وإنما إتاوة ندفعها لننهي أعمالنا لدى هذا البلطجي
وهي في طريق عودتها لكبير بيت العنكبوت تذكرت فتوات الأربعينيات التي قرأت عنهم في روايات نجيب محفوظ، ونابيبتهم الغليظة وقارنت بينهم وبين قلم فتوات المكاتب, كلاهما استقوى بنبوته لكن فتوات المكاتب تميزوا عليهم بأنهم أكثر دناءة ووضاعة مع أجسام معلولة ووجوه صفراء شاحبة يقبلون من الرشوة كل شيء، علبة كانز .. كيس خضار .. علبة بسبوسة .. فلا تثريب عليهم، أما كبيرهم فلا تملأ عينيه العامشتان إلا النقود ، دخلت عليه وبدون كلام ، أسقطت المبلغ في درجه المفتوح دائما، وضعت الأوراق أمامه وبهدوء شديد وقع عليها وهو صامت، جاءها صوته وهي تهم بالانصراف بلهجة آمره: أخبري (مسعود )ألا يفعلها مرة أخرى، هزت رأسها أنها ستخبره ... ناداها: ( سماء )
اقتربي أخبرك، عادت له وبصوت واعظ شفيق قال:
انتبهي له فهو حرامي .. هل هذا المبلغ هو كل المجموعات ؟ لقد فرض إتاوة على المعلمين كي يعفيهم من تسجيل عشرات الآلاف في الدفاتر، بطنه واسعة يجري فيها الحمار، وعند هذه الجملة ابتسمت، تفحص ابتسامتها بدهشة وقال: أخشى عليه من ذمته الواسعة، أنت طيبة ، انتبهي لمستنداتك جيدا، وعند الباب وجدت صبيه واقفا يترقب، أخرجت ورقة من فئة العشرين ودستها في يده، ابتسم عن أسنان سوداء وقال: لماذا تتأخرون في الفهم ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى