ما بين صدور الحكم بإعدامه واليوم المقرر لتنفيذ الحكم انشغل بطل رواية فيكتور هوجو الشهيرة بكتابة مذكراته، وكأنه قرر اجترار حياته قبل أن تنتهي، كذلك كان مدركا لحقيقة أن الرواية ستظل ناقصة، لأنه لن يتمكن من كتابة شعوره بعد تنفيذ حكم الإعدام.
وفي صيف عام 2013 تلقي الكاتب الهولندي “بيتر شتاينس” نبأ الحكم عليه بالإعدام، فقد أثبتت الفحوص والتحاليل الطبية إصابته بمرض نادر يسمى “التَّصَلُّب الجانِبِيّ الضُّمورِيّ”، يؤدي في النهاية إلى موت المصاب به خلال فترة ما بين ثلاث إلى خمس سنوات، وهكذا وجد شتاينس نفسه يعيش تجربة بطل “فيكتور هوجو” لكنه لم يكتب مذكراته الشخصية، أو لعله كتبها على طريقته. فاختار عددا من الكتب وأعاد قراءتها ونشر مراجعاته لها تحت عنوان “قراءات بصحبة التَّصَلُّب الجَانِبِيّ الضُّمُورِيّ”.
القراءة وهلم جرا
بيتر شتاينس المولود في 6 أكتوبر 1963 في روتردام، في منزل به مكتبة ضخمة، قضى طفولته وصباه على ضفاف نهر فال؛ بالقرب من الجسر الذي كتب عنه الشاعر الهولندي الشهير “مارتينوس نيهوف”، هكذا نشأ محبا للكتب وللقراءة عموما، وهو ما انعكس على نوعية دراساته وأطروحاته، فقد تخصص في التاريخ وأعد أطروحة حول تاريخ العقليات الرومانية، وقام بتدريس تاريخ العصور الكلاسيكية القديمة في جامعة أمستردام، وفي نفس الوقت درس الآداب وأعد أطروحة ثانية عن “صورة أمريكا عند بوب ديلان وراندي نيومان ولو ريد”. بعدها قرر أن يترك الجامعة في خريف 1989 ليعمل محررا ثقافيا بالجريدة التي واظب على متابعتها منذ كان طالبا في الثانوية، وهي جريدة “إن آر سي هاندلسبلاد”، وقد تدرج فيها حتى أصبح رئيسا للملحق الأدبي، ثم تركها في فبراير 2012، وأصبح مديرًا للمؤسسة الهولندية للآداب، خلال هذه الفترة أصدر ثمانية عشرة كتابا، بدأها في عام 1991 بكتاب عن التذكارات المنسية هو “السيد فان ديل ينتظر إجابة”، وفي 2003 نَشَرَ كتابه الأكثر مبيعًا “القراءة وهلم جرا”، وهو دليل للأدب العالمي أعاد إصداره في عام 2015، بالتعاون مع ابنته “يِت”، بعنوان “دليل شتاينس إلى الأدب العالمي”، وكان قد أصدر في 2014 كتاب “صُنع في أوروبا، الفن الذي يربط قارتنا”، وآخر كتبه هو “مغزي القراءة” الصادر في طبعته الهولندية قبل رحيل صاحبه في 29 أغسطس 2016.
الحياة تنتهي قريبا
يضم كتاب “مغزى القراءة” لبيتر شتاينس الذي نقله إلى العربية المترجم المصري “محمد رمضان حسين”، وصدر في القاهرة مؤخرا عن دار “مصر العربية” للنشر والتوزيع، اثنين وخمسين مقالا كتبها صاحبها مستغلا أن المرض لم يؤثر على أصابعه بعد، يقول تشاينس في المقدمة “على الرغم من اضطراري تناول طعامي عبر أنبوب، والتقاطي أنفاسي من آلةٍ، والتحدثُ بواسطة آيباد، إلا أنَّ أصابعي لا تزال تتحرك بسرعة على لوحة المفاتيح”.
ويذكر أيضا: “وَصَلَ تشخيص حالتي المرضية؛ مشاكل في الصوت، وأزمات التنفس أثناء الجري، وكلامي المتلعثم، تَبَيَّن أنَّ كل هذا نتيجة مرض التَّصَلُّب الجانِبِيّ الضُّمورِيّ، حيث تموت الخلايا العصبية التي تُغَذِّي العضلات”، هكذا وصف بيتر شتاينش حالته الصحية التي جعلته يوقن بدنو أجله، أدرك أن أيامه الباقية قليلة فقرر أن يقضيها فيما يحب، أن يقرأ الكتب وأن يكتب عما يقرأ، وخلال ستة أشهر فقط بدأ فصول كتابه مغزى القراءة، وفيها ربط مسار مرضه بالكتب التي قرأها لكتاب أصبحوا رفقاء رحلته مع المرض.
هذا الربط بين تطور الحالة المرضية للكاتب وبين الكتب التي يقرأها جعل من الكتاب وثيقة أدبية عن هذا المرض، الذي لا يوجد له حتى الآن علاج فعال، لأن كونه نادرا يعني أن العائد منه لن يحقق ربحا لشركات الأدوية وبالتالي لم تنفق أموالها لتطوير الأبحاث الخاصة به. لذلك يشعر المصاب به كأنه وقع في ثقب أسود وأن الموت قادم لا محالة، لذلك يبدأ الكتاب بفصل عن “ كأس سم سقراط”، فعندما جاء الجلاد بالكأس القاتل، لم يتردد سقراط في شربِه ثانيةً واحدةً، مهما ألح عليه طلابه في ذلك. برر لهم قائلا: “لأنني لا أطمع في شيءٍ أكسبه إذا تَعلَّقت ببضع لحظاتٍ إضافية، سوى مُجَرَّد شعوري بالسخرية من نفسي، إذا تمسكت بالحياة وأردتُ أن أُنْقَذ؛ حيث لم يَبْقَ شيء”. ويرى شتاينس أن وفاة سقراط تُشبه نسخة فائقة السرعة من مُعدَّل مسار التَّصَلُّب الجَانِبِيّ الضُّمُورِيّ؛ لذلك وضع سقراط في الاعتبار.
كذلك يرى أن أوسكار وايلد في “صورة دوريان جراي” قدم أكثر وصف مُوحٍ للشيخوخةِ المفاجئة الموجودة في الأدب. وهو قد وصل للشيخوخة مبكرا، فقبل شهرين من مرضه ركض دون مشاكل في ماراثون باريس، لكن المرض جعل شيخوخته تأتي متسارعة.
وفي مقال عنوانه “ مُرَشَّح بجدارةٍ لفقدان الوزن” يتحدث عن فرانز كافكا، وكيف أن العديد من قصصه المُكتملة تنتهي بتَناقُضٍ؛ فتجعلنا نُمعن التفكير أنَّه في بعض الحالات، يُزيد هذا التناقُض من المحتوى العبثي، وفي حالات أخرى التأثير الفلسفي. كذلك تختلف قصته المُفَضَّلة لكافكا في كلِّ مرةٍ يعيد قراءته، ولكن بعد مرضه المميت هذا، يفضل “فنان الجوع”؛ وهي قصة عن رجل يحتفل بالنجاح بعد طقوس أربعين يومًا من الصوم، لكن فنان الجوع غير راضٍ عن هذا؛ لأن الجوع بالنسبة له هو “أسهل شيء في العالم” يريد المزيد؛ التَّضوُّر جُوعًا حتى الموت. ولكن عندما يُحقق حلمه أخيرًا، يُصبح فن الجوع موضةً قديمةً، ولا يُشَجِّعه أحد على انتصاره. شتاينس لا يرى نفسه مثل فنان الجوع لكنه مُرَشَّحٌ مثالي لفقدان الوزن. إذ فقد في تسعة أشهر، أكثر من ربع وزنه.
وهكذا توالت المقالات التي لم تكن مجرد سردا مؤثرا لوقائع الاقتراب من موت متوقع، لكن نظرة استثنائية على الأدب العالمي، والقراءة ومغزاها ومعنى الأدب، وإِدْرَاكِ الحياة، ويصف الكاتب مقالاته بأنها كانت سببًا وجيهًا لإعادة قراءة عدد من كُتبه المُفَضَّلة مرةً أخرى.
كذلك أتاحت الكتابةُ “فرصةً متابعة رائعةً ودقيقة لحالة تدهور جسدي ورحلتي مع المؤسسات الطبية. قد لا تُعطي الكتبُ إجابةً مُحَدَّدةً عن إمكانية منح الأدب العزاء في المواقف الصعبة، لكن بالنسبة لي قد ثبت بالتأكيد أنَّ الكتابةَ عن الأدب مُعزِّيةٌ للغاية”.
وفي صيف عام 2013 تلقي الكاتب الهولندي “بيتر شتاينس” نبأ الحكم عليه بالإعدام، فقد أثبتت الفحوص والتحاليل الطبية إصابته بمرض نادر يسمى “التَّصَلُّب الجانِبِيّ الضُّمورِيّ”، يؤدي في النهاية إلى موت المصاب به خلال فترة ما بين ثلاث إلى خمس سنوات، وهكذا وجد شتاينس نفسه يعيش تجربة بطل “فيكتور هوجو” لكنه لم يكتب مذكراته الشخصية، أو لعله كتبها على طريقته. فاختار عددا من الكتب وأعاد قراءتها ونشر مراجعاته لها تحت عنوان “قراءات بصحبة التَّصَلُّب الجَانِبِيّ الضُّمُورِيّ”.
القراءة وهلم جرا
بيتر شتاينس المولود في 6 أكتوبر 1963 في روتردام، في منزل به مكتبة ضخمة، قضى طفولته وصباه على ضفاف نهر فال؛ بالقرب من الجسر الذي كتب عنه الشاعر الهولندي الشهير “مارتينوس نيهوف”، هكذا نشأ محبا للكتب وللقراءة عموما، وهو ما انعكس على نوعية دراساته وأطروحاته، فقد تخصص في التاريخ وأعد أطروحة حول تاريخ العقليات الرومانية، وقام بتدريس تاريخ العصور الكلاسيكية القديمة في جامعة أمستردام، وفي نفس الوقت درس الآداب وأعد أطروحة ثانية عن “صورة أمريكا عند بوب ديلان وراندي نيومان ولو ريد”. بعدها قرر أن يترك الجامعة في خريف 1989 ليعمل محررا ثقافيا بالجريدة التي واظب على متابعتها منذ كان طالبا في الثانوية، وهي جريدة “إن آر سي هاندلسبلاد”، وقد تدرج فيها حتى أصبح رئيسا للملحق الأدبي، ثم تركها في فبراير 2012، وأصبح مديرًا للمؤسسة الهولندية للآداب، خلال هذه الفترة أصدر ثمانية عشرة كتابا، بدأها في عام 1991 بكتاب عن التذكارات المنسية هو “السيد فان ديل ينتظر إجابة”، وفي 2003 نَشَرَ كتابه الأكثر مبيعًا “القراءة وهلم جرا”، وهو دليل للأدب العالمي أعاد إصداره في عام 2015، بالتعاون مع ابنته “يِت”، بعنوان “دليل شتاينس إلى الأدب العالمي”، وكان قد أصدر في 2014 كتاب “صُنع في أوروبا، الفن الذي يربط قارتنا”، وآخر كتبه هو “مغزي القراءة” الصادر في طبعته الهولندية قبل رحيل صاحبه في 29 أغسطس 2016.
الحياة تنتهي قريبا
يضم كتاب “مغزى القراءة” لبيتر شتاينس الذي نقله إلى العربية المترجم المصري “محمد رمضان حسين”، وصدر في القاهرة مؤخرا عن دار “مصر العربية” للنشر والتوزيع، اثنين وخمسين مقالا كتبها صاحبها مستغلا أن المرض لم يؤثر على أصابعه بعد، يقول تشاينس في المقدمة “على الرغم من اضطراري تناول طعامي عبر أنبوب، والتقاطي أنفاسي من آلةٍ، والتحدثُ بواسطة آيباد، إلا أنَّ أصابعي لا تزال تتحرك بسرعة على لوحة المفاتيح”.
ويذكر أيضا: “وَصَلَ تشخيص حالتي المرضية؛ مشاكل في الصوت، وأزمات التنفس أثناء الجري، وكلامي المتلعثم، تَبَيَّن أنَّ كل هذا نتيجة مرض التَّصَلُّب الجانِبِيّ الضُّمورِيّ، حيث تموت الخلايا العصبية التي تُغَذِّي العضلات”، هكذا وصف بيتر شتاينش حالته الصحية التي جعلته يوقن بدنو أجله، أدرك أن أيامه الباقية قليلة فقرر أن يقضيها فيما يحب، أن يقرأ الكتب وأن يكتب عما يقرأ، وخلال ستة أشهر فقط بدأ فصول كتابه مغزى القراءة، وفيها ربط مسار مرضه بالكتب التي قرأها لكتاب أصبحوا رفقاء رحلته مع المرض.
هذا الربط بين تطور الحالة المرضية للكاتب وبين الكتب التي يقرأها جعل من الكتاب وثيقة أدبية عن هذا المرض، الذي لا يوجد له حتى الآن علاج فعال، لأن كونه نادرا يعني أن العائد منه لن يحقق ربحا لشركات الأدوية وبالتالي لم تنفق أموالها لتطوير الأبحاث الخاصة به. لذلك يشعر المصاب به كأنه وقع في ثقب أسود وأن الموت قادم لا محالة، لذلك يبدأ الكتاب بفصل عن “ كأس سم سقراط”، فعندما جاء الجلاد بالكأس القاتل، لم يتردد سقراط في شربِه ثانيةً واحدةً، مهما ألح عليه طلابه في ذلك. برر لهم قائلا: “لأنني لا أطمع في شيءٍ أكسبه إذا تَعلَّقت ببضع لحظاتٍ إضافية، سوى مُجَرَّد شعوري بالسخرية من نفسي، إذا تمسكت بالحياة وأردتُ أن أُنْقَذ؛ حيث لم يَبْقَ شيء”. ويرى شتاينس أن وفاة سقراط تُشبه نسخة فائقة السرعة من مُعدَّل مسار التَّصَلُّب الجَانِبِيّ الضُّمُورِيّ؛ لذلك وضع سقراط في الاعتبار.
كذلك يرى أن أوسكار وايلد في “صورة دوريان جراي” قدم أكثر وصف مُوحٍ للشيخوخةِ المفاجئة الموجودة في الأدب. وهو قد وصل للشيخوخة مبكرا، فقبل شهرين من مرضه ركض دون مشاكل في ماراثون باريس، لكن المرض جعل شيخوخته تأتي متسارعة.
وفي مقال عنوانه “ مُرَشَّح بجدارةٍ لفقدان الوزن” يتحدث عن فرانز كافكا، وكيف أن العديد من قصصه المُكتملة تنتهي بتَناقُضٍ؛ فتجعلنا نُمعن التفكير أنَّه في بعض الحالات، يُزيد هذا التناقُض من المحتوى العبثي، وفي حالات أخرى التأثير الفلسفي. كذلك تختلف قصته المُفَضَّلة لكافكا في كلِّ مرةٍ يعيد قراءته، ولكن بعد مرضه المميت هذا، يفضل “فنان الجوع”؛ وهي قصة عن رجل يحتفل بالنجاح بعد طقوس أربعين يومًا من الصوم، لكن فنان الجوع غير راضٍ عن هذا؛ لأن الجوع بالنسبة له هو “أسهل شيء في العالم” يريد المزيد؛ التَّضوُّر جُوعًا حتى الموت. ولكن عندما يُحقق حلمه أخيرًا، يُصبح فن الجوع موضةً قديمةً، ولا يُشَجِّعه أحد على انتصاره. شتاينس لا يرى نفسه مثل فنان الجوع لكنه مُرَشَّحٌ مثالي لفقدان الوزن. إذ فقد في تسعة أشهر، أكثر من ربع وزنه.
وهكذا توالت المقالات التي لم تكن مجرد سردا مؤثرا لوقائع الاقتراب من موت متوقع، لكن نظرة استثنائية على الأدب العالمي، والقراءة ومغزاها ومعنى الأدب، وإِدْرَاكِ الحياة، ويصف الكاتب مقالاته بأنها كانت سببًا وجيهًا لإعادة قراءة عدد من كُتبه المُفَضَّلة مرةً أخرى.
كذلك أتاحت الكتابةُ “فرصةً متابعة رائعةً ودقيقة لحالة تدهور جسدي ورحلتي مع المؤسسات الطبية. قد لا تُعطي الكتبُ إجابةً مُحَدَّدةً عن إمكانية منح الأدب العزاء في المواقف الصعبة، لكن بالنسبة لي قد ثبت بالتأكيد أنَّ الكتابةَ عن الأدب مُعزِّيةٌ للغاية”.