د. محمد عبدالله القواسمة - الشعر صناعة أي صناعة؟

يكاد يجمع النقاد القدماء والمحدثون على أن الشعر صناعة مثل غيرها من الصناعات. وكان اليونان القدماء يعدون الشعر من الفنون الجميلة كالنخت والتصوير والرقص، وكانت كلمة شاعر تعني صانع. ولا يبتعد هذا المعنى للشعر عند العرب؛ ففي اللغة العربية الشعر هو العلم، وتدخل في معنى العلم الصنعة. ومن هنا جاء قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته". ورأينا قدامة بن جعفر ينظر إلى الشعر بانه صناعة عقلية لا وجدانية، ويضيف الفارابي على قوله بأنه صناعة التزويق، ويوافقه ابن طباطبا على ذلك ويشبه صناعته بصنعة النقاش التي تقوم على استخدام الأصباغ. ثم يأتي بعد هؤلاء عبد القاهر الجرجاني ليرى النظم صناعة، مثل صناعة الخواتم والأساور من الفضة والذهب. ويؤكد أبو هلال العسكري في كتابه "الصناعتين" أن الشعر صناعة، ويرى ضرورة أن يكون للشاعر راوية للشعر كي لا يعتور النقص صناعته. ويرى الجاحظ " الشعر صناعة وضربًا من النسج وجنسًا من التصوير"

وفي العصر الحديث نجد النقاد لم يخرجوا عن فهم الشعر بأنه صناعة. والصناعة كما هو معروف لها قواعدها وقوانينها ومصطلحاتها، وتعني الاتقان والجودة والقدرة على الإثارة الدهشة. فهذا شوقي ضيف يفهم الشعر بانه صناعة، ولكنه لا يأخذ بقول القدماء بالطبع والتطبع، وينفي صفة الارتجال عن الشعر.

وإذا كان الشعر صناعة فإننا نرى تفاوت الشعراء في اتقانها والتعامل معها: فمنهم من كانت صناعته جيدة ومتقنة، محافظة على التوازن الفكري والإبداع الفني، حتى مع التزامهم ببعض القيود التي لم يعرفها الشعر العربي كالمعري في لزومياته، وأبي تمام حين جعل الجناس ضرورة في شعره، والبحتري في حرصه على الجرس الداخلي في قصائده. ومنهم من كانت صناعته رديئة فاقدة المعنى، غريبة الألفاظ، تتزاحم فيها المحسنات البديعية، وتجنح صورها إلى العجائبية التي تتقصد لذاتها. وهذا النوع من الشعر هو الشعر المتكلف، الذي يظهر غالبًا عند الشعراء عديمي الموهبة. وربما يأتي به شعراء موهوبون على سبيل إظهار المقدرة والتفاخر بالذات، كما في قول الأعشى :

وَقــَـدْ غــَـدَوْتُ إلى الحانوتِ يَــتــْـبَـعـُـني شـــــــاو ٍ مشــل ٌّ شــلول ٌ شــلشل ٌ شــــــــــــــولُ

وفي مقابل هذا النوع من الشعر المتكلف يوجد الشعر المبتذل، حيث تتحول الصنعة الشعرية إلى كلام خال من المعنى، لا فائدة منه، يقوم على التلاعب اللفظي كأنه حركات بهلوانية في سيرك. ونجد هذه الظاهرة متبلورة في أنواع مختلفة من الشعر، وبخاصة في شعر العصرين: المملوكي والعثماني. من هذه الأنواع: المشجر الذي ينظم على شكل شجرة، والهندسي الذي ينظم على أشكال هندسية (دائرة، مثلث)، وشعر الألغاز والأحاجي، والشعر المهمل والمعجم، والفكاهي وغير ذلك.

ونورد على سبيل المثال أمثلة من الشعر الفكاهي، والشعر المهمل والمنقط، فمن الشعر الفكاهي الذي يقصد منه الإضحاك والتسلية، قول ابن دانيال:

أصبحت أفقر من يروح ويغتدي ما في يدي من فاقة إلا يدي

في منزل لم يحو غيري قاعدًا فإذا رقدت رقدت غير ممدد

ومثل هذا ما قيل في البديهيات مثل قول الشاعر ابن سودون الذي اشتهر بهذا النوع من الشعر:

البحر بحر والنخيل نخيل والفيل فيل والزراف طويل

والأرض أرض والسماء خلافها والطير فيما بينهن يجول

ومثل قوله:

إذا ما الفتى بالناس قد سما تيقن أن الأرض من فوقها السما

وأن السما من تحتها الأرض لم تزل وبينهما أشياء إن ظهرت ترى

ومن القصائد المهملة التي تخلو حروفها من النقط قول الشاعر:

الحمد لله الصمد حال السرور والكمد

الله لا إله إلا اللــــــه مولاك الصمد

أول كل أول أصل الأصول والعمد

ومن القصائد المعجمة التي حرص صاحبها على أن تكون حروفها منقطة مع ضياع المعنى:

بين جنبي شقة خشنت في قضيض تبيتني خشن

والخلاصة أن الشعر صناعة تحتاج إلى موهبة وصقل، وجودة التصوير والخيال، والترابط بين المعاني والألفاظ، واتقان العرض، وبعث الحياة في الوزن والقافية. والابتعاد عن الابتذال والتكلف. إن ما نخشاه أن يفقد الشعر رسالته الفنية والفكرية، ويتحول هذا الفن الوجداني الجميل إلى مجرد ألفاظ معقدة أو متنافرة، وتعابير لا معنى لها، وصور مكررة. فلا يجب أن يقودنا الاهتمام بالشكل إلى اهمال المعنى أو تجاهله. الشعر كما الحياة لا قيمة له إذا افتقد المعنى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى