روجيه غريب - لحظات و أماكن

شعلة

في بداية ثورات الربيع العربي شاهدت البوعزيزي يُضرم النار بجسده و يهرع بلا وجهة على الطرقات ،
منذ ذاك الحين و أنا أفهم أنَّ الثورة هي أن تشعل فتيل النار في داخلك،
و تركض عبثاً في جميع الاتجاهات.

نجاة

كما أن الشمس تشع كل إشراق
قد هُيأَ للقلب
أن يكون قلباً
كانت الرؤية مجروفة خارج نطاق التبصر
كانت الأيدي مسنونة الأصابع
و الليل كعادته سارحاً على اختلاجات الندى
كان السهم المشتعل انتشاراً لحرارة الوجهة.
*
في الفم صوت لا يستسيغ النطق
و ذاك الوحي يستفرغ على حواف البوح
"بدو كأنهم سمعوا صرخات قادمة من عالم مفتت أو أهازيج احتفالات تنبأ بخلاص عوالم أخرى"

ومضة

لوهلة أتذكر حارات الشام القديمة بأعمدتها المسقوفة و شتلات الحدائق المنمقة التي تداري العيون بجماليتها الأخاذة و حسن تكوينها، أفرك عيناي: إني أعرف هذه المباني جيداً !
هذه الحالة تسمى ديجافو، لا أدري نوستالوجيا مصحوبة بأمنيات متخيلة ربما.
أريح الصدمة بين أساطير الهجرة ، ما زلت في وسط المدينة و برلين كبيرة جداً كقصيدة يتناوب على خطّها أجيال متعاقبة.
هل سنبقى على الهوامش؟
*
تسوق

في وسط السوبرماركت تكلمني عجوز ألمانية : و ليش مطول دقنك هيك؟ شو اسمك أنت ؟
ذهلت و ضحكت بصوت عالي ليس لأنها تتدخل بحريتي الشخصية و هذا ما يحرمه القانون الألماني بل لأنها كانت تتكلم اللهجة الحلبية الثقيلة و تطلق النكات السورية اللطيفة
حدثتني عن سنينها التي قضتها متنقلة بين حلب و الرقة حيث شيدت في التسعينيات برفقة زوجها الطبيب السوري مشفىً للأطفال ثم انتقلوا للعيش هنا بعد أن قُصفت مشافي عديدة مؤخراً.
دفعت ثمن إقامتي و أشيائي و وعدتها بزيارة مختلفة علَّ ميزان ما في أرض موازية ينصفنا.
*
صمت

الأطفال في محطات القطار هم الأخطر دائماً ،إضافةً أنه ليس لأي بالغ الحق في محاكمتهم أو تأديبهم فإن الطفل هو الأقدر دائماً على رؤية الحقيقة و النطق بها ، إنهم يتحسسون أصناماً روبوتية تنتقل مثقلة بهموم بيروقراطية و أخرى حياتية عبر الأنفاق دون أدنى أكتراث بعفوية العيش
يجوب طفل أشقر الممرات برفقة صديقه "علي" حيث تغلبا على مظاهر العنصرية بطبيعة فطرية عفوية و باشرا سويةً بتسمية أمراض البالغين و إعطاء حلول لمشاكل الجميع متفوقين على مراكز طب نفسي عريقة في المدينة.
بضعة وصفات طفولية للتغلب على الأرق و العنصرية و آثار الرأسمالية:
- أذهب في عطلة حتّى لو ترتب دين عليك.
- أعطِ وردة لتلك الصبية الشقراء.
- أذهبا أيها المغفلان و ألعبا التنس بعد الظهيرة.
- لا تقرأ هنا فالقطار يهتز و كتابك تجاريٌّ و أنت بذلك لا تفعل سوى الهروب.
- أذهب للعمل فثيابك رثة.
-لن تنفعكِ ألف عملية تجميل ما دامت روحك مشوهة.
*
هالوين

في ٣٠ أكتوبر من كل عام يظهر لي سوبرمان و باتمان و العديد من الأبطال الخارقين و أشباح المداخن و سانتا كلوز ، وجوه مخيفة و أخرى بالغة الجمال في محاولة تقليد شخصيات سينمائية وأخرى خيالية.
آلاف أنواع المكياج و التزين و التبرج يتم استهلاكها في هذا اليوم ، أقنعة و عصارات دم و أسلحة مزيفة و أزياء غير مألوفة
مهرجانات و حفلات تعم برلين شرقاً و غرباً،
الجميع يشربون و يأكلون و يضحكون و يمارسون الطقوس اليومية المعتادة بوجوه و ملابس مختلفة.
كما كل عام أعتدت الخروج في هذا اليوم بملابسي نفسها و وجهي ذاته و رائحة عطري التي لا تتغير ، لكن لسبب ما، لا زلت اللاجئ الذي يخيف كل الأبطال و المتنكرين دون أن أتكلم حتى !
فوجهي يحمل ندوب الرعب ، و علامات الكوكب العصري !
أو ربما تذكرهم ملامحي بمجازر لا يقوون على تخيلها حتى !
*
حواس

عندما أشتم رائحة قديمة أهرع في منتصف الحفل، أقفز عن الهرج و أتتبع أريج الماضي،
هي الذاكرة الأقوى و الأكثر أصالة،
حياتي مليئة بأعشاب غريبة و قديمة كغابة منسية على ضفاف حضارة بائدة.
و عطر الثورة الذي لم نتنعم بعبقه حتى، بقي على الحافة بين الملموس و المحسوس كتَوقٍ عتيق.
ومأساتنا الأزلية التي لن تنتهي أنّ عبق الحرية عندما يُفعِمُ البلد و لو لوهلة فلا فرار من حتمية الهوس به كواجب محبب و توهان نحو المجهول.
الآن دون الاستعانة بتقنيات الواقع الافتراضي، أستطيع أن أشتم الصور و الأنغام حتى، فعبير البزورية و محلات العطارين يصلها أنفي على بعد آلاف الأميال.
*
خيبة

تكلمني فتاة أثناء احتفال في بيت أحد الأصدقاء ، و تحدثني بالإنجليزية عن سنوات الضياع في أزقة أوروبا و عن تبعيات العولمة على مأساة الألم البشرية ..
أخبرتها عن أهمية العذابات الإنسانية في تاريخ الحضارة و عن جمالية النقص و قُبح الكمال .
قالت : أعرف أنك عربي و أنا أيضاً مغربية ، هل نتكلم العربية ؟؟
أجابت روحي بلا تردد و هل هناك محادثة مقدسة يمكن لها أن تُجرى بغير العربية!!
عبثاً أضعنا الوقت في محاولة الوصول المقدس فلم نستطع أن نتفاهم ولا حتى الفصحة جبرت خواطرنا ..
قررنا أن نزيل القداسة و نتابع أحاديثنا الإنجليزية المحدَّثة كاعترافٍ بغزو ثقافي و استسلام لوحدة لن تتحقق !
لا زال ذاك الشعر الأسود الملتف كمتاهة لولبية يذكرني بواقع معيشي لا تنقله الأخبار اليومية ولا العاجلة منها ..
*
سفر

عندما اشتدت الحرب من كل الاتجاهات، قدمت لي عائلتي القبلات و بضعة نصائح ضاعت في البحر لاحقاً و تيكيت للخروج من الجحيم.
لم أعرف من الوجهات سوى بضعة أسماء دول كنت قد لمحتها على الخريطة مسبقاً ،
عندما هاجرتُ حزمتُ دموعَ أمّي و تنهداتِ أبي .. و تركتُ شقيقاتي وحيداتٍ بِلا رائحةٍ
الندمُ يَقتطِعُنيْ الآنَ : لماذا لمْ أَكُنْ عِطراً ؟
كنتُ أعرفُ أنَّ البيتَ لهُ أحزانٌ مِثلَنا ..
كنتُ أعرفُ أنَّ الدرجَ كانَ يعبُرُني بحرفيةٍ عندما أتدعثرُ
كنتُ أعلمُ أنَّ حقيبتي ستنساني ..
لكنْ لمْ أدركْ إلى الآنَ أنِّني لمْ أُهاجر.
*
تموّج

أصدقائي الذين أتوا بطائرة إلى بلاد اللجوء، يذهبون في العطلة للاستجمام بقارب مطاطي على الراين
ما زلت أخاف الغرق في غرفة نومي عندما يطوف الكوكب علينا
كيف نخبر البحر أننا على اليابسة نغرق !!

*
مصير

في موسم الهجرة يتوجب على الطيور أن لا تحلق فرادى ، أن تسلك مسار السرب و تلحقه و تحاول جاهدة قدر المستطاع أن تحابي الفراغ و تتوسط ال "نحن" في الطريق إلى المجهول .
هكذا جرت العادة أن تتحايل الطيور على نفسها و تتمايل تبعاً لإيقاع الآخرين فإن أصابت الوجهة نجا الجميع إلى أمان جديد و تنعموا بمكافأة البقاء
و إن ضاعت الدفة ماتت قصصهم و آهاتهم على حافة منسية في الأثير العظيم.
في موسم الهجرة بقي النسر داركو وحيداً حين استفاق من علوه و حملق في اتجاهات السماء ليتبع أبناء ريشه دون جدوى ، كان قد أبتعد بما يكفي ليلامس أعالي الغيم ، صدمته غير مفسرة بعد علمه أن السماء خدعة و أنه ليس موجةً موجّهةً كما أخبره الأسبقون،
ريش محترق و دخان يجوب الأرض على الضفة الأخرى من النجوم ،حيث عاين إخوته يُشوون بحرارة بركان الواقع،هناك حيث أرتأى السرب أنه المسار الصحيح.
تابع داركو أهواءه يشق أقاصي الوجود ، و غدت أساطير الهجرة منفى وطن غريب حيث لن يبقى و لن يذهب
حيث عُلِّق كباقي النجوم العائمة في فلك السماء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى