يسرى أبو العينين - لست وحدى بالبيت.. قصة قصيرة

- ربما تستطيع اليوم أن تذهب لصرف المعاش ..
حين فتح عينيه على ندهتها من الغرفة المجاورة كانت ساعة الحائط ذات البندول النحاسى تشير إلى التاسعة ..
صمت للحظات وهو يستمع لصوت الرعد فى الخارج , انقبض قلبه لأن المطر لم يتوقف طيلة الأيام الماضية .. رد علها بأن الأمر ليس بهذه السهولة التى تعتقدها وراح ينهض على مهل من فوق سريره .. خلع الروب الصوف الذى يرثى له من فوق حمالة الملابس , وتحسس ياقته الستان المتآكلة ثم إشتم رائحتة مقنعا نفسه بأنها لاتزال طيبة وزكية ..
كان يفعل هذا دائما متعمدا ليتذكر لومها المتواصل عندما كان يهم بارتداء هذا الروب .. لم يكن أبدا يرغب فى تغييره , ولم يستجب لإلحاحها الدائم بضرورة شراء روب جديد .. لم يكن أبدا يهتم لذلك .. كان لديه شعور عادى يتملكه فى كل مرة يفكر فى شراء واحد غيره أو حتى محاولة شراء أى ملابس جديدة , فقد كان عليه أن يتراجع بحزم لاعتقاده الجازم إنه سيموت قريبا ..
تسلل الصباح من خصاص الشبابيك ضبابيا كئيبا كعادة صباحات الشتاء فى هذا الوقت من شهر ديسمبر .. فرك عينيه وهو يتثاءب ولبس نظارته الطبية , ثم ضغط على زر جهاز التسجيل , فانساب صوت أم كلثوم قويا وشجيا , وراح يتردد فى جنبات المكان كعصافير ملونة , راحت تضرب الهواء بأجنحتها فيتحرك الهواء كنسيم الصيف العليل .
قربك نعيم الروح والعين ونظرتك سحر
وإلهام
مضى إلى المطبخ بطيئا وهو يتكئ على عصاه .. صاح
- لم يعد إلا تلقيمة شاى تكفى لكوب واحد .
خرج صوته عاليا حتى تسمعه .. فى الشهور الأخيرة لاحظ أن ثمة ضعف أصاب سمعها وجعلها تطلب منه أن يتحدث بصوت عالي , لهذا حين هم بالخروج من غرفته رفع صوت جهاز التسجيل على آخره .
وقف أمام موقد الغاز ينتظر غليان الماء فى براد الشاى وهو يتمايل من فرط انسجامه مع أم كلثوم .. وكان الضجيج الذى يحدثه الصوت تهتز له جدران الشقة دون أن يبالى من غضب الجيران .. لكنه كان بين وقت وآخر يتوقف ليفكر بضيق , أن عليه أن ينتظر يومين آخرين إلى أن يهدأ هذا الطقس اللعين حتى يتمكن من الخروج ويصرف المعاش .. اتجه إلى حجرتها وهو يحمل كوب الشاى وطبق صغير عليه قطعة من الخبز المحمص وحبة زيتون واحدة .. قبل ذلك كان قد عرج على غرفة الصالون كعادته وهو يخطو إليها .. لدقائق ألقى نظرة الحسرة على الأثاث القديم الذى أصابه البلى , وستائر القطيفة الزرقاء المسدلة على النافذة المقفولة الشيش والزجاج التى بهت لونها .. لطالما فكر فى وقفته هذه أن البيوت التى لا يجلس فيها بشر هى أكثر الأماكن تأثرا بالزمن , والضوء الشحيح المنسل من الخارج قد أضفى على الأركان عتمة كئيبة , فبدت مثل وجه رجل عجوز ينتظر الموت .
فى الطرقة المفضية إلى غرفتها كانت ساعة الحائط ذات البندول النحاسى لا تزال تشير إلى التاسعة .. أما هو فكان يتعمد أن لا ينظر إليها .. لقد تعود أن يفعل ذلك طيلة الشهور الماضية , فقد كان الوقت الذى توقظه فيه هو الوقت الذى ينظر فيه إلى هذه الساعة فقط ليتأكد أنها التاسعة ، فيما عدا ذلك كان يترك نفسه طيلة اليوم بدون معرفة الوقت .
بجوار الساعة كانت صورتها فى برواز خشبى كبير .. ضحك حين تذكر أنها لم تكن ترغب ساعتها فى الوقوف أمام الكاميرا بسبب الآلام التى كانت تعانى منها آنذاك , لكن تحت إلحاح الأولاد رضخت لإرادتهم مرغمة ولهذا جاءت ابتسامتها على غير ما تحب , باهتة و مزيفة .. انقبض قلبه , لكن صوت أم كلثوم وهى تعيد المقطع الأول من الأغنية أعاده إلى حالة الأنسجام الذى بدأ بها صباح اليوم .
إنت اللى شاغل البال وانت اللى
قلبى وروحى معاك
ألقى على صورتها تحية الصباح التى تعود عليها من زمن بعيد قبل أن يدفعه شوق الليل الذى يسهده ويؤلمه إلى غرفتها .. طل من فتحة الباب وهو يعيد بصوت جهير وغير موزون مقطع الأغنية ، حيث كانت تتبدى أمامه فى تلك اللحظة بابتسامتها الساحرة , المفرحة , إمرأة تفتح قلبها وذراعيها للحياة رغم ضعفها الشديد وشحوب وجهها ..
- لسه فاكر .. قالتها وهى تبذل جهدا ضنينا لكى تحافظ على ابتسامتها التى كادت أن تتحول إلى ضحكة ..
كانت الكلمات تخرج من شفتيها متقطعة خافتة بفعل أنفاسها المتلاحقة والتى لم تكن تتوقف , وراح هو فى تلك اللحظة يتوقف عن الغناء ويبذل جهدا كبيرا حتى لا يبكى .. ضغط على أصابع يديها وهمس فى أذنها أن الطقس فى الخارج غير ملائم للخروج , وطمأنها أن لا تقلق فكل ما يحتاجه موجود فى البيت بما فى ذلك الأدوية التى تحتاجها , ثم عقب ضاحكا وهو يعود برأسه إلى الوراء , أنه أيضا يشعر وكأن البرد يسكن أطرافه وجعله يشعر أنه يمشى على بحيرة من الثلج .. ضغطت هى الأخرى على يده وأسكنتها فوق صدرها محاولة أن توقف تلاحق أنفاسها حتى تستطيح أن تتحدث إليه ..
- كان يجب أن لا تقوم من سريرك .

سنوات طويلة وهو يسعى فى كل صباح إلى غرفتها , تصاحبه إليها هذه الغنوة التى عشقا سماعها معا حين كانا فى مقتبل حياتهما .. كان يجلس أمامها على طرف السرير ويديه مشبوكة فى يدها , قطرات المطر لاتزال تخبط فى شيش الشباك وانقباض قلبه جعل صوت أم كلثوم بعيدا وخافتا .. الضوء الشحيح جعل الحجرة تبدو وكأنها مخزن للأشياء القديمه .. العتمة تكبو فى الأركان , والملابس المبعثرة فى الغرفة تبدو ساكنة ومهملة فى حزنها الأبدى .. لا أحد غيره دخل هذه الغرفة منذ فترة طويلة , كان يعرف أنها لا تحب أن يراها أحد وهى على هذه الحالة .. كما أن الخادمة التى تشرف على توفير احتياجاته وتزوره من حين لآخر لتنظيف البيت منعها بشدة من رؤيتها .. وها هى كل الأشياء فى أماكنها كما هى بوضع يدها , لم تمسها يد غريبة ولم يحاول أحد إعادتها لأماكنها .. قال فى سره وهو ينهض " تقريبا منذ أجازة الأولاد الأخيرة " .. واستغرب حين تذكر أن الأجازة الأخيرة للأولاد كانت فى هذا الصيف الأخير .. ظل واقفا قليلا , ساهما فى تفاصيل هذه الحسبة المفاجئة .. إنشغل فى أفكاره لدرجة أنه لم يعد يسمع صوت التسجيل , وبدا صوت أم كلثوم كأنه آت من مسافات بعيدة كبصيص ضوء يومض بوهن ثم يختفى .. نظر إليها فأخرجه من شروده وجهها السماوى وهو فى غفوته الملائكية .. سألها إن كانت تريد شيئا .. أومأت بعينيها إشارة للرفض , قبل أن تروح مرة أخرى فى وسنها , ودون أن يتكلم ثانية قفل عائدا إلى غرفته .
جلس على حافة سريره ساهما فى براويز صور أولاده الموجوده أمامه على الحائط المقابل , فها هو بعد أن انتهى من مروره اليومي الذى لم يتوقف عنه يوما , يجلس كعادته وهو يتكئ على عكازه حزينا على غير العادة .. ليس بسبب صوت المطر المتواصل ولا اللون الرمادى لفراغ المكان حوله , إنما كان بسبب التفكير فى الموت .
منذ زمن طويل وهو على هذه الحال , بعيدا عن الناس , ووحيدا مع جسد زوجته الخالى من الحياة .. لقد ضيع راضيا السنوات الأخيرة من حياته أمام بقايا جسد المرأة الوحيدة التى أحبها راضيا بمصيره المحتوم .. ومقتنعا بأن هذا الذى يقوم به تجاهها إنما هو خاتمة عظيمة لحياته , حتى كانت الأجازة الصيفية الأخيرة لأولاده ..توقفت كتابة الخطابات لصالح المحادثات التليفونية , لأن أجهزة الإتصال تنوعت وانتشرت وأختصرت المسافات والجهد , ثم سرعان ما راحت هى الأخرى تتباعد تدريجيا وتحل محلها الرسائل القصيرة عبر أجهزة الإتصال المحمولة .. كان الشعور بالوحدة يتعاظم ويدفعه لأتفه الأسباب للبكاء , كما كان يجعله أكثر تفكيرا فى الموت ليس بسبب الموت نفسه ولكن خوفا من أن يموت وليس هناك أحد بجانبه .
فى آخر أيام الصيف الماضية وبعد أن سافر الأولاد , كان يقوم من نومه كل يوم على ندهتها الواهنة الآتية من غرفتها حيث تشير ساعة الحائط دائما إلى التاسعة تماما ليبدأ يومه معها على صوت أم كلثوم , ثم يعود من عندها إلى غرفته لقراءة الجرائد التى كانت تجمعها الخادمة وتقدمها له أثناء زيارتها الأسبوعية للبيت .. وفى تلك الأيام التى كانت تنخفض فيها درجات الحرارة , كان يشتهى كبقية الناس لطراوة النسيم فى الشرفات , فكان يحمل زوجته ويضعها فوق كرسيها المتحرك ثم يدفعها إلى جوار سور الشرفة لتتأمل الحياة وتنشغل بها , أما هو فكان يصنع كوبين من الشاى ويضعهما فوق سور الشرفة .. يتمدد باسترخاء على الكرسى الخيزران وهو يرشف من كوب الشاى ثم يقرأ الجرائد بإمعان وهو يحادثها من وقت لآخر عن أهم أحداث الوطن .. الشئ الوحيد الذى كان يضايقه فى كل مرة يخرج فيها إلى الشرفة , هى جارته الأرملة التى تخطت عامها الخمسين التى كانت لا تكف عن مضايقته وكان هو يتعمد أن ينظر إليها وهى تراقبه من وراء زجاج نافذة بيتها فيما كانت تصوب إليه من عينيها سهام من الدهشة والإستغراب كانت تصل إليه كومضات البرق .
لهذا حين أتى الشتاء , كان أقل ضيقا , واستسلم لأحزانه التى فرضتها العزلة بحب شديد .. سعيدا بمشواره اليومى الذى يبدأ من ندهة التاسعة صباحا , ومستمتعا بأغانى أم كلثوم التى كان يختارها بعناية فائقة تناسب الحالة المزاجية التى كانت تفرضها ظروف الصباحات الشتوية .. مع هذا كان من الممكن أن يمر هذا اليوم مثله مثل بقية أيام الشهور الماضية لولا أن الخادمة التى كانت قد تأخرت عليه ثلاثة أسابيع كاملة بسبب المطر الذى لم يتوقف .. فتحت باب الشقة ودخلت عليه حجرته , سرعان ما تسمرت فى مكانها أمام الباب وهى تصرخ :
- يا ربى .. إنك تموت يارجل ..
قالتها وهى تلقى الجرائد على طول يدها, ثم راحت تجرى فى اتجاه الجيران وهى تولول .. طرقت أبواب الشقق المجاوره ثم عادت مسرعة إليه .. كانت تصرخ من هول منظره .. فقد تحول إلى شخص آخر غير هذا الذى كانت تعرفه , كان شاحبا بلون الموت وكأن الحياة خلت من عينيه التى كانت تغشاهما سحابات الحزن .. لقد فقد نصف وزنه وكأنه لم يتناول طعاما أياما طويلة .. طالت لحيته , وبانت صلعته حتى أن شعر رأسه كان يتساقط أمامها بمجرد تعرضه لصراخها ..
وقف على حيله متكئا بكلتا يديه على عصاه وثمة ارتجافة على امتداد ساقيه بدت واضحة أمام كل الجيران الذين تجمعوا على صراخ الخادمة .. أجبروه على الجلوس قبل أن تخذله ساقيه , وراحو يحسمون جدلهم فيما يمكن أن يفعلوه .. راح يجلس غارقا فى استغرابه وهو يلقى بجبهته على كلتا يديه اللتين كانتا تستندان على عكازه .. شعر بالخيبة حين تأكد له أنهم كانوا يراقبون تصرفاته من الشرفات القريبة , ومزقه إحساس ثقيل بالعار عندما عرف أنهم يتابعون إحتفاله اليومى الخاص بالتاسعة صباحا , لقد بدا مذهولا وهو يطوف بنظراته بين الناس المحتشدة حوله , جيران كثيرون يعرفهم وغرباء لم يرهم من قبل .. وراح ضجيج بلا معنى يتواتر من حوله وبالكاد كان يسمع نتف من جمل هنا وهناك .. " يا الله إنه يمر بحالة إكتئاب واضحة " .. " محنة صعبه لم يتحملها المسكين " , " الوحدة القاتلة التى يعيش فيها هى السبب " .
لم يكن ليصدق أن الزمن استطاع أن يفعل به هكذا .. طوفان من الرعب يفتت مفاصله , وفى لحظة موت خاطفة عبرت تفكيره , أدرك أن الفصل الأخير من حياته قد ختم لتوه .. مر بعينه على الجدران وأوجعه أن يكون هذا لونها بعد هذه السنوات الطويلة .. كان الليل قد هبط على زجاج نافذة الغرفه التى كانت تئن تحت ضربات المطر الذى لم يتوقف .. حلت لحظة من الصمت لم يعرف سببها , انتبه فجأة على قرارهم الذى حسموه فيما بينهم , قالوا أن عليه أن ينتقل للعيش فى دار لرعاية المسنين لأنه لا يجب أن ييقى وحيدا فى البيت .
نظر إليهم من تحت نظارته باستغراب شديد .. وقال وهو فى أوج ذهوله :
- أنا لست وحدى بالبيت .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى