البروفيسور لطفي منصور - مَعَ قَصيدَةِ "تَرَقْرَقْ" لِزَيْتُونَةِ فِلِسْطِينَ الرّاسِخَةِ مَقْبولَة عَبْدُ الْحَليم

مِمّا يُمَيِّزُ الشَّاعِرَةَ مَقْبولّةَ، وَيَكادُ يَكُونُ سِمَةً مُلازِمَةً لَها هُوَ عِشْقُها الْمُلْتَهِبُ لِشِعْرِها. هذا الْعِشْقُ لَيْسَ لَهُ حُدُودٌ. تَتَعامَلُ مَعَهُ بِجِدِّيَّةٍ مُتَناهِيَةٍ، كَأَنَّهُ طِفْلٌ تُدَلِّلُهُ أوْ حَفيدٌ تُبَجِّلُهُ فَتَفْتَحُ لَهُ قَلْبَها، وَتَمْنَحُهُ حُبَّها وَفِكْرَها وَأَمَلَها، تَراهُ يَنْمُو وَيَنْشَأُ وَيَتَرَعْرَعُ مُتَأَلِّقًا مُبْتَهِجًا بَيْنَ يَدَيْها، فَيَزْدادُ وَلَعُها بِما تَبُوحُ وَبِما تُنْتِجُ، فَيَغْدو وَيَشُبُّ شِعْرًا شاعِرًا رَقْراقًا
كَجَدْوَلٍ يَنْسابُ بَيْنَ الْخَمائِلِ .
إِنَّ عِشْقَ الشّاعِرِ الأَصيلِ لِشِعْرِهِ دَليلٌ عَلَى شاعِرِيَّتِهِ الْمُتَدَفِّقَةِ. مُعْظَمُ الشُّعَراءِ الْفُحولِ
كَالْحُطَيْئَةِ وَجَريرٍ وَالْفَرَزْدَقِ وَبَشَّارٍ وَكَثيرينَ غَيْرِهِم اعْتَزُّوا بِشِعْرِهِم. وهذا الْمُتَنَبَِي يَقُول:
وَما الدَّهْرُ إلّا مِنْ رُواةِ قَلائِدِي
إذا قُلْتُ شِعْرًا أَصْبَحَ الدَّهْرُ مُنْشِدا
فَسارَ بِهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّرًا
وَغَنَّى بِهِ مَنْ لا يُغَنِّي مُرَدِّدا
وَقَدْ رَغِبْتُ أَنْ نَرَى كَيْفَ تُخاطٍبُ شاعِرَتَنا بِالإبْداعِ شٍعْرَها: مِنَ الْمُتَقارَب
- تَرَقْرَقْ تَهامَ كََطَلِّ الصَّباحْ
فَإِنِّي اعْتَراني هَواكَ الْمُباحْ
تَرَقْرَقْ، تَهامَ: فِعْلا أَمْرٍ. الْأَوَّلُ "تَفَعْلَلَ" مِنَ الفِعْلِ الرُّباعِيِّ الْمُضاعَفِ رَقْرَقَ، وَهُوَ التَّوَهُّجُ الْمُسْتَمِرُّ واللَّمَعانُ. فَشِعْرُها مُضِيءٌ كَالذَّهَبِ اًوِ الْماسِ ، فَالْكُلُّ يَسْمَعُهُ فَيَطْرَبُ.
تَهامَ: افتَخِرْ وَارْفَعْ رَأْسَكَ وَاعْتَزَّ، مِنَ الفِعْلِ الرُّباعِيِّ "تَهامَى". وَقَدْ أَحْسَنَتِ الشّاعِرَةُ بِتَوْظيفِ الْفِعْلِ الرُّباعِيِّ لِما فيهِ مِنَ الْقُوَّةِ والشِّدَّةِ.
وَتَشْبيهُ رِقَّةَ الشٍّعْرِ بِحُبَيْباتِ النَّدّى الصَّباحِيَّةِ رائِعٌ، فهوَ أساسُ الرَّقْرَقَةِ التي اعْتَرَتْ الشّاعِرَةَ فَباحَتْ بِحُبِّها لِجَمالِ هذا الشِّعْرِ.
- تَرَقْرَقْ فَإنَّكَ لِلرُّوحِ سَلْوَى
أيا شِعْرُ هَلْ بِكَ عَنِّي رَواحْ؟
لماذا يَتَرَقْرَقُ الشِّعْرُ ؟ إنَّهُ سَلْوَى الرُّوحُ، وَالتَّسْرِيَةُ عَنِ النَّفْسِ ، وَبَهْجَةُ الدُّنْيا كَأَيِّ فَنٍّ أَنيقٍ. انْظُروا هذا النِّداءَ لِلشِّعْرِ الذي جاءَ مَعَ الِاسْتِفْهامِ الإنْكاري: هلْ لَكَ رَواحٌ؟ لا.
- فَخُذْنِي إلَيْكَ وَدَفِّ الْحَنايا
لِيُقْفِلَ بَرْدِي مُهيضُ الْجَناحْ
الشِّعْرُ عادَةً يُطِلُّ عَلَى الشّاعِرِ، لَكِنّ شاعِرَتَنا هِيَ الَّتي تَخْطُبُ وُدَّ هذا الشِّعْرِ لِتَمَيُّزُهِ، فَهُوَ دِفْءٌ لِلْحَنايا الباردَةِ، فَتَشيعُ فيها الْأفْكارُ، وَيُغْلٍقُ أَبْوابَ الْجْمودِ الْفِكْرٍيِّ الْمُحَطِّمِ لِلْقَريحَةِ. إنَّها مَعانٍ تَحْتاجُ إلَى نَظَرْ.
- فَكَمْ قَدْ سَرَيْتَ بِلَيْلِ الْمُعَنَّى
فَذُبْتُ بِعِشْقِكَ حَدَّ الرَّواحْ
هذا الْبَيْتُ رِسالَةٌ لِلَّذينَ يَظُنُّونَ أَنّ نَظْمَ الشِّعْرِ حاجَةٌ سَهْلَةٌ. بَلْ هِيَ صَعْبَةٌ جِدًّا. سَرَى: سافَرَ لَيْلًا، والمَقْصُودُ السَّهَرُ الطَّويلُ لِأجْلِ قافٍيَةٍ أوْ لَفْظَةٍ تَعْتَرِضُ الشّاعرَ؛ والْمُعَنَّى التَّعِبُ مِنَ الْبَحْثِ لِاستقامَةِ الشِّعْرِ، فَيَذوبُ الجَسَدُ حَتَّى تَكادُ تُزْهَقُ الرُّوحُ، وَقَدْ صَدَقَتِ الشّاعِرَةُ الَّتي تُنَقِّحُ شِعْرَها، فَقَديمًا قالُوا: مِنَ الرَّجَز
الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَويلٌ سُلَّمُهْ
إذا ارْتَقَى فيهِ الَّذي لا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ
وَالشِّعْرُ لا يَسْطٍيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ
يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
- تّرَقْرَقْ فَلَيْسَ إلَيَّ رَفيقٌ
كَمِثْلِكَ حِبِّي يُداوي الْجِراحْ
حِبِّي: جَبيبي. هذه مَقْبولَةُ والشِّعْرُ. هو الْحَبيبُ، والْآسي الٍمُداوي، وَلا بَديلَ عَنْهُ، فَلِمَ لا يَتَرَقُرَقُ لَها؟
- فَإِنِّي أُحٍبُّكَ حَدَّ انْصِهاري
وَظٍلُّكَ يُرْخِي عَلَيَّ الْوِشاحْ
حُبٌّ حَتَّى الذَّوْبِ وَالانْصِهارِ، لَمْ يَعْتَرِضْني هذا الْمَعْنَى بِكُلِّ دِراساتي الشِّعْرِيَّةِ. الشّاعِرَةُ وَشِعْرُها شَيْءٌ واحِدٌ مُتَلاحِمٌ، خُلِقَتٌ لِتَكونَ شاعِرَةً مُفْلِقَةً. وَهُوَ سِتْرُها إذا سَقَطَ وِشاحُها.
وَبِهذا الْمَعْنَى يَقُولُ النّابِغَةُ:
سَقَطَ النَّصيفُ وَلَمْ تُرِدْ إسْقاطَهُ
فَتَناوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنا بِالْيَدِ
وَشَتّانَ ما بَيْنَ السَّتْرِ بِالْيَدِ والسَّتْرِ بِالشٍّعْرِ!!!
- لِأبْقَى أنادِي فَتَرْوِي فُؤادي
بِعٍطْرِ الْغَوادي وَزَهْرِ الْأُقاحْ
الْغَوادي: الغيومُ الْماطِرَةُ صَباحًا، وَهُوَ مِنْ أرَقِّ الْمَطَرِ.
أجَلْ شاعِرَتَنا الْمُفْلِقَةَ لا يَرْوي ظَمَأَكِ سِوَى هذا الشِّعْرِ الرّائِعِ الَّذي نَحْنُ بِحاجَةٍ لِمِثْلِهِ يَرْوِي ظَمَأَنا، فَزيدي وَجودي عَلَيْنا كَالْغادِياتِ.
تَمَّتْ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى