عبد علي حسن - السياب مأثرة الجيل الريادي

لا جدال على الانعطافة التأريخية التي أحدثتها حركة جيل قصيدة التفعيلة الريادية بتحوّل النسق الشعري من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص ، ليحقق النص وحدته الموضوعية والعضوية ، على يد مجموعة من الشعراء أدركوا بأن الوقت قد حان لمحايثة المتحوّل الأجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية ، وليبدأ عصر قصيدة المدينة بعد هيمنة قصيدة البداوة لقرون طويلة تخلّلها خروج أوّلي للموشحات في العصر العباسي وبعض محاولات الخروج على النسق العمودي كالبند وسواه الذي عُد الخلفية التأثرية للشكل المقترح ، وبذلك بدأ التشّكل الجديد لمعيارية نجومية الشعر العربي وفق جهد جيلي وإدراك لضرورة التجديد ، فبعد أن ظهرت التجارب الشخصية خلال مسيرة الشعر العربي منذ شعر ماقبل الإسلام وحتى منتصف القرن الماضي ، مقترنة بمدى ماتمكنت منه تلك التجارب لتحقيق نجومية امتلكت كل مقوّمات الفعل الشعري لتجاوز ماسبق ، على أن تلك النجومية الشخصية لم تغادر منطقة البيان البلاغي وضخّ أقصى مايمكن من صور البيان والبديع والمحسنات اللفظية اهتم بها النقد البلاغي العربي منذ الجرجاني والقزويني والقرطاجني وسواهم من النقاد البلاغيين ، لذا كان المتحوّل الجديد الذي احدثه جيل الروّاد في منتصف القرن الماضي بقطع النظر عن وجود تأثير خارجي ، لم يكن متوقفاً عند حدود النسق الشكلي فقط وانما تجاوز ذلك إلى مقاربة الواقع ومشاكله عبر صيرورات مضمونية ابتعدت بل قوّضت نسقية الأغراض الشعرية كالغزل والرثاء والمديح والاخوانيات التي قام عليها شعر العمود العربي ، وقد كان للشاعر بدر شاكر السياب المكانة المتقدمة في هذا التحول ، فكان لبنية القناع الأسطوري حضوره الفاعل في استثمار موجهات الأسطورة في كتابة النص الشعري الجديد وإيجاد معادل موضوعي بين الأسطورة وحركية الواقع ، كما كان لإستخدامه المفردة العامية نزوعاً لاهتمام الشعر الجديد بظاهرة التغريب ، فضلاً عن تكريس هيمنة الوظيفة المرجعية في الرسالة النصية التي تداخلت مع هموم الواقع ومحاولات تمثلها لمشاكل وهموم المواطن الطبقية والوطنية .
لقد أسهمت تجارب الرواد الٱخرين الملائكة وبلند والبياتي إضافة إلى السياب في صياغة الرؤية الجمالية والمعرفية لجيل حمل لواء التمرد والتجاوز ، إلّا أن النموذج السيابي ظل حاضرا وممتداً في العديد من تجارب الشعراء العراقيين والعرب للعقود القادمة خاصة العقد الستيني الذي عدّت تجارب شعراءه طوراً جديداً في المشروع الحديثي للشعر العربي ، غير أن هذا المشروع قد تمثّل النموذج السيابي باتجاه تشكّل مشروع جديد وفقاّ لما تفرزه الواقع العراقي والعربي من أحداث ووقائع استدعت نمطاً جديدا على مستوى الشكل والمضمون أضاف الكثير من التقنيات والمناطق الجديدة التي تمت مقاربتها دون أن تقطع خيوط الوصل بينها ونموذج شعراء الريادة وخاصة النموذج السيابي ، حتى دخول قصيدة النثر إلى حاضنة المشهد الثقافي العراقي ، إلّا أن قصيدة التفعيلة ظلّت أمينة في نهل مايمكن من النموذج السيابي الذي امتدّ تأثيره إلى بنية الشعر العربي عموما ، وبذلك فإن المشروع التحديثي الذي أسهم السياب بشكل مائز في تأثيث فواعل تجاوزه وتأثيره ، فإن استمرار تأثيره في اللاحق من التجارب تؤكد غنى وصحة مشروع الرواد ، واعتماد شعراءه على مرجعية راكزة وواعية لعملية التحول في النسق الشعري ، وبعد مرور 56 عاماً على رحيل السياب فإن تجربته ونموذجه لايزال مشروع دراسة وبحث سواء على المستوى الأكاديمي أو النقدي وحتى الشعري .
عبد علي حسن
ك اول/ 2021



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى