أكد وإشبيليا الجبوري - الموسيقى انتزاع مشقة تفاوت روح إرادة المعرفة المضنية.. عن اليابانية أكد الجبوري

لقد شغل موضوع تصنيف الموسيقى وموسيقى الشعوب بين الفلاسفة والباحثين في مجالاتها المتعددة طوال عصور أزدهار الحضارة منذ حضارة وادي الرافدين إلى يومنا هذا. والامر لاشك فيه أن أي تصور لتصنيفات الموسيقى، إنما يكشف عن فلسفة المقامات، معينة لصاحبة التصنيف إثر تفاوتاتها، بحيث يصدر هذا التفاوت المصنف عن فكرة منهجية تظهر بوضوح خلال تحديد الاصول والفروع في التصنيف الموسيقى لهذا أو ذاك.

وثمة فكرة جديرة بالنظر إلى وراء أهتمام العلماء بتصنيفات الموسيقى وهي التعرف على صلة الشعوب وارتباطها فيما بينها، الأمر يسمح لفريق من الفلاسفة والعلماء المتخصصين في تخصصات متقاربة المجال، بأن يتناولوا بالدراسة وقائع وواحداث ونشأة واحدة، وكل منهم يعالجها من زاوية تخصصه، مع أيجاد محاولة وجود نظرة مشتركة ومتكاملة من ناحية أن أساليب البحث ومجال بحثها انما تدور حول مشكلة واحدة، أو ظاهرة أو واقعة بعينها. ولقد أكهر الفلاسفة في تصنيفاتهم ـ وجهة التحديد في اليونان القديمة ـ تدرج الفلسفة المعروفةفي تناول موضوعاتها من حيث البساطة والتعقيد، حتى أنتهى تصنيفهم إلى فلسفات الطبيعة الانسانية وعلومها، فوجد في الموسيقى من بعضهم، أنها أكثر تعقيدا، ومن ثم فهي تحتاج إلى تضافر المعارف الاخرى، التي يمكن لفت صياغتها في سلم التفاصيل الفلسفة عن مدركاتها العقلية والنفس، والمتجهة نحو التعقيد شيئا فشيئا.

لهذا كله أتضحت لنا أهمية دراسة الموضوع ومؤثراته، تحت عنوان ( موسيقى الشعوب)؛ وفروعه حلقة تمتد إلى حلقات المنهج العلمي العام، طلبا مشاركة الجميع في أغناءه (على موقع الناقد العراقي، لتعم الفائدة) وتمتد المنفعة والإضاح في مجال البحث، لكن، سعيت ، وهنا غايتي في هذا المتناول أن ألقي الضؤ على ومضات عن التفاوت المعرفي، كي ألحقه بحلقات عن الشعوب وموسيقاهم بعد الحلقة الرابعة، وعليه، وجدت هذا حيزا لفترة لابأس بها، متصلة مع الحلقة الماضية، حتى لا نتغيبها، من المدخل.

حين شاءت الموسيقى أن تلج مناهج المعرفة كما إشرنا في الحلقة السابقة، وحين تفاوتت، جاءت مسجلة طبيعة المعرفة، ما ينبغي أن يكون ذاتها، مؤشرا على سائر الأنشطة المعرفية، في ذاك العصر الذي نبحث فيه. وبذلك يستطيع الباحث أن يرى هذا التفاوت تصنيفا، يدخل تناوله ضمنا لهذه المادة أو غيرها في سائر فروعها، ولذلك بمساعدة هذا العرض، حينئذ، تناولتها الفلسفة اليونانية. وكما اشرنا أعلاه، أن التفاوت، بما أنه جاء مسجلا طبيعة مستوى المعرفة، فقد وجدت الموسيقى نفسها بين رأيين متعارضين؛ الاول من يرجع الموسيقى معرفة مكمنها الاحساس، ويزعم أصحاب هذا الرأي بأنها جزئية متغيرة مثله، أمثال بروتاغراس أو الهيرقليطيين. بينما الرأي الآخر، يضع الموسيقى معرفة مكمنها في العقل، ما يجعل موضوعها الماهية المجردة، أمثال سقراط. ما حدا بالاول؛ زافا ما نطق كل جهاته، وحق به الثاني رأيه ما أحق به وأيده بكل قوته، فراح يطلب لها أصولا من العقل وفرع منه النتائج، حتى أقام لها مسندا لا يخرج عن المذهب العقلي الروحي بناءا شامخا، يرى نورها في رأسه نور الحق والجمال احلال الاحلال.

يدعي الرأي الاول أن الموسيقى معرفة عن أحساس ظاهرة وحدها متغيرة أبدا، وليس لها موضوع تستقر فيه. ولا قوة تصدر عنها، ولكن ما سبق وتبع تنقضان هذه الدعوى، كالذاكرة والتأثير عنها، من حيث إن الأستذكار تأويل استعاري، ولو كان مجازات الاحساس كل المعرفة، كما يشاع، لأصبحت جميع الآراء صادقة على السواء، المتناقض منها ومحمول التضاد، ولأمتنع القول إن شيئا ما، ماهيته كذا أو مجازاته كذا على الاطلاق، ليس فقط على الموسيقى في نظرياتها، بل يشغل ما للسياسة والأخلاق أيضا، فيستحيل على العلم والعمل، ولكنهما ممكنان، فالقول مردود به، وهو، على أعتبار أنه نكران الفكر كملكة خاصة، أي أنه ليس بالضرورة يكفي فهم اللغة، حال رؤية ألفاظها أو سماعها، بل إن الاحساس ينبه قوة في النفس، لولاها، ما نم فهم أبدا، وتظهر هذ القوة بوح وضوحها أجلى فيما سنورده في أفعال عقلية صرفة، ليس للأحساس دخل فيها، هذا ما يغمر الطرف الثاني من أنقطاع ليصل انفكاك الانفكاك.

إذ أن العقل لا يرسخ عنده بأن الموسيقى أحساس، بل يعتبره إدنى مراتب المعرفة عنده، لأنه يطلب كعادته بطلب، الوضوح والثبات، ويعين عن قوله عن الشيء، بمحدد مستعرف عنه، إي إنه ماهية معينة دائمة، يقف الفكر عندها، ويطمئن إليها، فيجد ما للموسيقى في الاحساس "غير محددة"، [لا نهاية] منبثقة من المادة والحدوث لأجل أصله، تحول وتغير دون تعقل المعرفة فيه، تماما، فتقتصر النفس على أن تبدي فيه [رأيا]، حينها يكون الموسيقى معرفة عن تأليف إحساسات حاضرة أو مشار عنها. فالموسيقى معرفة عند [الرأي]، تمثل ذاته، إن كان صدق أم تزييف، وفي النفس ـ الموسيقى معرفة ـ أحلال أقتناع (أو) أعتدال لاحتمال الاحلال في التكليف، وهو على أية حال، معرفة، غير محل احلال بالعلة، فلا يبرهن ارتباطها، ولا الارتباط يبلغ اليقين ولا يعلم للغير، لأن الموسيقى تعلم التعلم، والتعلم متصل، التعليم تبيان الأمر بعللها، ولا يبقى ثابتا، بل يتغير بتغير موضوعه، في تناقضه وعلاقاته. والطب موسيقى، والحرب موسيقى والفنون الادبية الجميلة موسيقى، والعلوم الطبيعية موسيقى والسياسة موسيقى، وهي جميعا موضوعات رأي لا علم، أن جعلنا لكل وحدة منفصلة عن الموسيقى. فالموسيقى رأي، والرأي الصادق " نفحة إلهية" أو إلهام لا إكتساب، وهو قلق في النفس يدفعها إلى طلب العلم. العقل للموسيقى صديق، والحق إلهام معارف، تأليفه في كل فن خاصة حجة، لم فيه من حسن العروض، وسلاسة الاسلوب، وجودة التلخيص، وقوة اليقين، والموسيقى تعد في بحثها أهم المراجع فنا وأورثها إلهاما، يرقي بالنفس قلقها تفتن، حيث طلب جديد العلم، يفرز وليمة دعواه إلهاما وتظهر.

ان ما ترتقي الموسيقى معرفة بالنفس عن المحسوسات، يكون بملاحظة ما بينها من علاقات، تستحث العقل معرفة، على التوسع بالتفاضل، مثل أن ترى الشيء؛ الواحد كبيرا بالاضافة إلى آخر، صغيرا إلى آخر ثالث لشبيها آخر، أو مناقضا، أو مباينا معتدلا، أو غير معتدلا بالتساوي، حينها تتسائل الموسيقى، عن الوجود والاضافة، والكمية والكيفية، وهي العلاقات التي تؤلف الانغام بعضها مع بعض في سياق حكامه عليها، وإدراك العلاقات ومضاهاة الأشياء، فعلان، متمايزان عن الأحساس، وقد سبق إن الحواس ليست مدركة بذات أنغامها، ولكنها أدوات تتحرك وتدرك النفس بواسطتها، أي إنها تتلقى منها أنفعالات تركيبها، في أحكام، فأن الموسيقى معرفة العلم ليس الأحساس، بل حكم الموسيقى معرفة النفس على الأحساس. فالاتصال للانقطاع مرجعه فنا، يلزمه تعطش الانفاس، حين تنتقل قلقة، ووثابة بذاتها، وزمن الانقطاع فيها هو أتصال غزير التأمل تتجسم أنشطة الوظائف والاستعداد يجيد مدخلها منطقيا ومنهجيا في تناولها لهذه الوظيفة في سائر مؤثرات أعمالها لا تنضوي دخيلة بل مشاركة تحت لواء أية وظيفة.

وهذا ما استشفوه العلماء المسلمين في المنهج العلمي القائم على الاستقراء، وقد ظهر ذلك ضمنا في أبحاثهم، الاأن جميع فروع العلم المعروفة في العصر الاسلامي، غير العلوم الشرعية، أسموها بالعلوم الدخيلة، كانت تنضوي كلها بين شاطيء الفلسفة، فأبحاث الفارابي، ابن سينا، والبيروني، وابن حيان، وابن الهيثم في الطبيعة والفلك والبستاني والخيام ...الخ مثل أبرع فيه الفلاسفة.

ترقى الموسيقى معرفة بالنفس مرتبة ثانية، حال خوضها في التجسيم، بدراسة الهندسة والفلك لذلك التأمل (او) خطاب التأويل الاستعاري، تستغني فيها عن التجربة، بل المجازية فيها استخدام المنهج الفرضي، أي البرهان الذي يضع المقدمات ويستخرج النتائج؛ فأن لهذه التأويلات الاستعارية معارف موضوعات متمايزة عن المحسوسات، فليس لحساب للمقامات حساب (عد) الجزئيات كما يفعل في الاسواق عند التجار،، بل الموسيقى معرفة العلم، الذي يبحث عن الأعداد ـ المقامات ـ أنفسها، بغض النظر عن المعدودات؛ ليست "هندسة ضبط النغمة"، بأنها هندسة مسح الاراضي، بل النظر في أشكال المقامات أنفسها، أعدادها، تنوعها، الوانها، كما يمتاز الفلك عن ملاحظة الكواكب، في تفسير الظواهر السماوية بحركات دائبة، تبينها الملاحظة البحتة، ولا تقع إلا على حركات منتظمة، وهنا، يتمايز الموسيقي الذي يكشف النسب العددية، التي تقوم بها الالحان، عن المتمرس العازف الذي يضبط النغم بالتجربة، فهذه الموسيقى معرفة، تضع أمام العقل صورا حسية كلية، تتكرر في حركة الجزيئات، وقواعدها ضرورية، ونسبية عددها محصور، فتطلب علة الشمولية والضرورة، وعلة النسق في المعقولات النغمية محسوساتها.

نعم، قد تستعمل الموسيقى معرفة النفس صورها المحسوسة، في هذا، مقام من المعرفة. لكن، لا كموضوع، بل كواسطة (مثلما يفعل مصممون الخلايا في علوم التكنولوجيا الحديثة للفضاء)، وذلك لتنبيه المعاني المتماثلة لها، وبعد حين من التأمل، تستغنى عن كل معونة حسية، وتستغرق في المعاني، تتأملها، مستقيمة خالصة.

ثم أن الموسيقى معرفة، تدركها النفس، وتعلمها، وأن مقاماتها ترنو للجزئية الخفية حسية، لا تكفي أنفسها، وإنها تحفز العقل، أن يرقى درجات معرفية تليقه، يرى من أنها تقوم على أصول لا يبرهن عليها، وأن قوانينها تتجاوز الجزئيات الزائلة، وتنطبق على موضوعات دائمة ثابتة، وهذا انفكاك الانفكاك للتواصل، لان النفس في الموسيقى معرفة، ترى الحق فيها أصدق، مهما كان العقل للموسيقى معرفة صديق لها.

وأخيرا، هنالك للموسيقى معرفة علم أعلى أو فلسفة أولى، ترفع معرفة أعلى من العقل؛ من الحادث إلى المطلق، ومن الزائل إلى الدائم؛ وهنا جوهر الموسيقى أستدلالها، تحيل الانسان معرفة شبه إله، لأن موضوعها الامور الدائمة، والاصول الكلية تنتهي إلى قاعدين: قاعدة عدم التناقض، وقاعدة السببة الاول، واضح بنفسها، متغيرة، لا يقاوم عليها برهان ثابت، ولا أعتراض، و ان يقوى استمساكنا بها، استمرار، نظرنا إلى ما يترتب على إنكارها من نتائج العقل، هي النتائج التي أنتهي بروتوغاراس وما يدعيه الهيرقليطيون حرصهم، من إنكارهم الموسيقى معرفة عدم للعلم والعمل، بل تألق، وأن الاحساس ظاهرة وحدها متغيرة أبدا، لها موضع الكواكب تدور عليه وتعمل.

إما قاعدة السببية، فإنها تفسر التغير، وهو على شكلين: قاعدة السبب بالفاعلية، والسبب بالغائية، ولا ينبغي الاشتغال بهذا الاول، كما ذهب اليه السقراطيون، لان وحدته وجود لأجله، ويجب التهيؤ له بالفضيلة، التي تخلص الموسيقى معرفة النفس من الشهوات، وتعدها معرفة لقبول الحق عن طيب مطمأن الرضا والخاطر؛ فإن الموسيقى معرفة يطلبها الحق، و والحق لا ينكشف للنفس، وهي منشطرة على نفسها، بل الموسيقى معرفة للنفس المخلصة العارفة، تتوجه بالحق إليها جوهرا بكليته باقية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• المكان والتاريخ: لندن ـ 12.26.21
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى