فتحي عثمان - شيء من النرجسية

للنرجسية سمعة سيئة في تشكيلة الصفات الشخصية وذلك بسبب ربطها الجائر بالغطرسة رغم أنها تنبع من دوافع حميدة وإنسانية وهي: الاهتمام والرعاية والكرامة. فوليد الانسان هو الأكثر ضعفا بين مواليد المخلوقات الأخرى: فصغير الغزال يبدأ في الركض بعد نصف ساعة من مولده، وصغير سمك القرش يبدأ في السباحة فور خروجه من بطن أمه. أما صغير البشر فيقع أسير "اعتماد كامل" يحتاج فيه للرعاية التامة والاهتمام والحنان، ولربما يفقد حياته المبكرة إذا فقد هذه الحاجات تماما. ومن هنا يبدأ حب الذات وهو امتداد طبيعي لغريزة البقاء: إذ أن الرعاية الأولية هي ضمان البقاء، والحصول على أكبر قدر منها ومن الاهتمام يضمن تجاوز مرحلة الضعف البشري الأول، من ضعفنا البيولوجي هذا تنبع النرجسية. ويؤكد هنري جيمس بأن المحرك الأساسي للسلوك البشري هو الشغف "بالتقدير". والتقدير هو محط الكرامة، وهي صفة تميز الإنسان عن سائر المخلوقات.
وكسائر العادات والصفات للنرجسية استعداد كبير للانحراف والتشوه، ويتجلى هذا في التركز المرضي على حب الذات، وحتى هذه الدرجة لا تشكل ازعاجا، ما لم تندلق على الآخرين دافعة إياهم مرة بعد أخرى للاغتسال من أدران النرجسيين أو "النراجسة". وهناك بعد أخر للنرجسية وهو البعد الأضعف المتمثل في استدرار الاهتمام مثل حالة ادعاء المرض الدائم، وادعاء الأمراض الخطيرة بشكل خاص استجداء للمزيد من الاهتمام والرعاية.
مظاهر النرجسية المتجاوزة للأنا تظهر كذلك في العدوان اللفظي والجسدي، والبارانويا وانتفاخ الذات وأخيرا التجسد الأكثر إيذاء لها هو في السيطرة على الآخرين: ومضرب المثل للحالة الأخيرة في التاريخ قائدين مجنونين وهما امبراطور روما نيرون وحاكم الاتحاد السوفياتي السابق جوزيف ستالين، وقصتهما حكاية طويلة من النرجسية في رحلتها من الطبيعي إلى المرضي.
وتتجاوز "غريزة حفظ الذات" المولدة للنرجسية نظرية داروين لآفاق فلسفية كبيرة. يمكن اعتبار النزوع الإنساني إلى الخلود والخطيئة الأولى المرتبطة بالأكل من شجرة الخلد معززا لحفظ الذات وإدخالها أروقة الخلود المنشودة. في قصة الفلسفة يشير زكي نجيب محمود إلى الفيلسوف جورج سنتيانا والذي حاول تفسير محاولة الضمير الدائمة للثورة على الطبيعة بأن النفس البشرية مرتبطة بما هو خفي ونزاعة إلى الخلود لأنها في طبيعتها ذاتها قريبة من المثالي الخالد، وتتجاوز الطبيعة دوما نحو الخلود. وهنا لا يمكن فصل النرجسية عن دوافع تأبيد الذات في سماوات الخلود.
ولربما يفسر الوجود البشري "اليتيم" في الكون رغبة جنسنا في الحصول على الرعاية والاهتمام من قبل كائنات أخرى "حنونة" تقلل عنا وحشة الوجود الوحيد وتشعرنا بالكرامة، ولكن تظل مخاوفنا قائمة، فنحن، كما قال أحدهم: نخاف من الكائنات الفضائية، ونصورها كوحوش، لأننا نظنها سوف تعاملنا كما نعامل بعضنا بعضا.
وتمثل "العزلة الحكيمة" والتي تتيحها صحبة أحادية الجانب مع الكتاب جنة من أذى تحولات النرجسية.
وكل عام وأنتم "وذواتكم" بخير وعافية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى