عبدالرحيم التدلاوي - تقنيات الكتابة في مجموعة "قهقهات الجدران" للمبدع الحسين الناصري

تسعى مجموعة "قهقهات الجدران" للمبدع الحسين الناصري، والحائزة على جائزة غاليري الأدبية، دورة العربي بن جلون، والصادرة في طبعتها الاولى سنة 2021 عن منشورات غاليري الأدب، إلى قراءة الواقع بمختلف تجلياته، وتجلية أعطابه، بقصص تجمع بين شديدة التقتير، حيث تبلغ درجة النحافة فيها إلى سطرين، وسمينة في غير إفراط حيث لا تتجاوز الصفحة الواحدة، معتمدة على رصد المفارقات، وعلى السخرية في رصد الأعطاب؛ ومتخذة من نفسها موضوعا لسخريتها، في لعبة مرآوية تقول الواقع وهي تقول نفسها، ومرتكزة على التنويع في الأسلوب وفي زاوية النظر، إذ اعتمدت توظيف ضمير المتكلم حينا، وضمير الغائب حينا آخر، وضمير المخاطب أحيانا، وهو تنويع في زوايا النظر يهدف بالأساس إلى الإلمام بالموضوعات المعالجة. وتجدر الإشارة إلى عنصر أساس ترتكز عليه المجموعة، ألا وهو الحكائية التي كثيرا ما يغفلها المتعاطي لهذا الجنس، وفي ذلك يقول الناقد سعيد بوعيطة: إن أول صفة يفترض ألا تخلو منها القصة القصيرة جدا هي صفة الحكائية، على اعتبار أن أية كتابة سردية لا بد وأن تنطلق من الفكرة ومعالجتها من خلال أحداث مركزة، تؤديها عوامل وشخوص؛ أحبذ: شخصيات؛ معينة وغير معينة، في فضاءات محددة أو مطلقة. وذلك عبر منظور سردي معين، وضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعة وبطئا. مع انتقاء سجلات لغوية وأسلوبية معينة، للتعبير عن رؤية فلسفية ومرجعية معينة. ولعل هذا ما يميز نصوص المجموعة "قهقهات الجدران" للقاص الحسين الناصري.
في قصة "الأميرة والوحش" ص49، نجد السارد يتطرق لموضوع مؤلم، يتعلق بمرض السرطان الذي التهم شعر وجسد الطفلة، لكنه لم يتمكن من القضاء على شغفها وحبها للحياة، بدليل ممارستها اللعب، رغم أن هذا اللعب كان القنطرة لرسم ما حل بها.
ومن هنا وجاهة العنوان الذي تم استمداده من المجال السينمائي، ليسقط على الأميرة/الطفلة، والوحش/المرض.
وكثيرا ما برع القاص في صياغة عناوين مناسبة لقصصه؛ هذه العناوين التي جاء معظمها مفردا ونكرة سيرا على ما تم نهجه من رواد القص الوجيز.
ولعل المثير في العناوين، كونها وإن جاءت في معظمها مفردة ونكرة إلا القليل المعتمد على الإضافة بمختلف أنواعها، أن النص الأول والأخير جاءا معرفين ب"أل"، كما لو تم تأطير المجموعة بالمعروف المنفتح على المجهول الذي يغري بالقبض عليه.
وإذا كانت السخرية هي السمة الغالبة على القصة القصيرة جدا، والمجموعة تنحى هذا المنحى إذ ترد كلمة السخرية فيها بكثرة، وآية ذلك قصة "تيه" ص19.، إلا أن ما يميزها عن كثير من الإضمامات، أنها اتخذت نفسها موضوعا للسخرية، فيما يعرف بالميتاحكي؛ وهي سخرية تسعى إلى نقد الإسهال الذي يعرفه هذا الجنس الذي يتطلب جهدا وذكاء، كما في قصة "إغراق" ص 12، حيث جاء العنوان معضدا لفعل الإسهال المرفوض جملة وتفصيلا، إذ يقول السارد بضمير المتكلم: في مصنع للقصص القصيرة جدا، وقفت مشدوها أمام كثافة الإنتاج وسرعته...
ثم يطلب قالب القصة القصيرة جدا، ويحصل عليه، لكنه في المنزل، يخيب فعله، إذ يقول موضحا:
في البيت، وبعد أن قمت بتشذيبها، لم أخرج منها سوى بهذه القصة الحزينة جدا.
لقد اعتمد القالب القصصي، واستعمله لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال، الحصول على قصة حزينة جدا لا قصيرة جدا، وهو تغيير في التعبير يروم التعبير عن نقد الإسهال.
القصة القصيرة جدا كما في المجموعة، تتطلب جهدا وذكاء، وهو ما تبرزه قصة "الكاشفة" ص 11، التي تخبرنا على لسان السارد برفضها لكل من يروم ودها متملقا، فهي لا تريد إلا المغامر الذي يبحث عن الكشف والاكتشاف، والإتيان بالجديد والمبهر والمدهش، فهي صعبة وتريد من يستطيع ترويضها، يقول السارد في نهاية القصة:
أحدهم أراد أن يخطب ودها، بالغ في انحناءته، فكانت القفلة صادمة جدا !
مرة أخرى، نجد السخرية في التعبير الفاسح مجال التأويل أمام القارئ. فالانحناءة تبعتها قفلة، أي خاتمة صادمة، لأن المبالغة في الانحناء مذلة تستوجب الركل.
ويرتفع منسوب السخرية اللاذعة في قصة "النقض الذاتي" ص58 حيث يقول السارد معبرا عن الانفعال بسبب ضيق تقبل النقد الذي يصير نقضا:
انتقدته فبصق في وجهي.. قلت: كيف تبصق في وجهي ايها النص الرديء؟ !قال: هكذا أوصاني كاتبي.
وفي الاتجاه نفسه نجد قصة "نعي" ص57 التي ترصد العلاقة المتوترة بين الناقد والمبدع، وغضب النص منهما معا معلنا..
أما في قصة "تجنيس" ص28، فإنها تخبرنا بألم مخاض كتابة القصة القصيرة جدا، فهي جنس ليس بالسهل، ولا يمنح نفسه إلا لمن يعتلي صهوته عن جدارة واستحقاق، ومخاضها شبيه بمخاض المرأة الحامل، فألمها يشبه ألم كتاب القص الوجيز. وكذلك قصة "صيد" ص68 التي تعبر عن الأمر ذاته.
وعودة إلى العنونة، نجد عنوان قصة "عيد" ص 14 كاشفا، إذ من دونه ستبقى القصة معلقة وقد تبعد التأويلات عن المقصدية النصية، وتجعلها منحرفة وبعيدة عن الغرض المرجو.
قصة "عيد" تعمل على رصد موقف محزن لطفل يبحث في القمامة عن الفرحة يوم العيد. والمفارقة صادمة فعلا، بين لحظة فرح يعبر عنها بالعيد، ولحظة بؤس يعبر عنها بالبحث في القمامة.
الانمساخ:
تقوم بعض قصص المجموعة بنقد بعض السلوكات المنحرفة بأسلوب السخرية كما أسلفنا، ومتبلا بالمسخ الذي يطال الشخصيات، كما في قصة "أنكر {الأصوات} ص46، فقد عبرت القفلة عن هذا الانمساخ بفعل النهيق. وليست هي القصة الوحيدة التي اعتمدت هذا الفعل، فهناك قصص أخرى سارت في هذا الاتجاه من مثل قصة "تخصيب" ص65. وقصة "ظل" ص59.
البناء الهرمي:
وهو تقنية تعتمد على النزول من الأعلى إلى الأسفل، بالانتقال من العام إلى الخاص، للتعبير عن أهمية الجزء في الكشف والمعرفة، كما في قصة "عقدة" ص69، حيث يرصد أزمة نفسية دفعته إلى اللجوء في البداية إلى الطبيب النفسي، ثم ينزل درجة باتجاه الراقي، ودرجة نهائية باتجاه النفس لاستبطانها، ومعرفة سر مرضها، لتكتشف أن معاناتها النفسية بسبب العامل الاقتصادي الذي حتم عليها العيش في سكن ضيق يسمى بالاقتصادي، وما هو إلا إقصائي.
وقد لعب البناء الهرمي في التعبير عن الانسحاق الطبقي، إذ جاءت الفقرة الأخيرة المعبرة عن هذا الاقصاء في الأخير، أي بعد طابقين يقفان شامخين فوق طبقة الذات المكلومة اقتصاديا ونفسيا.
التناص:
يستثمر القاص في مجموعته النص المقدس، يستدعيه لا من أجل تعضيده أو نقده، بل جعله فرصة لنقد بعض الممارسات، كما في قصة "يتم" 56 التي استدعت حديثا نبويا يحث على مسح رأس اليتيم، لكنها تنحو باتجاه مخالف، بيد أنه لا يضاده بل كانت تهدف إلى الفضح والنقد، ف رأس اليتيم الذي وجدته الشخصية مصفوف الشعر بعناية، لا يستوجب مسحا فهو مرتاح نفسيا وجسديا، بخلاف رأسها الأصلع اليتيم الجدير بالمسح.
ونقد الغدر كما في قصة "سيرة" ص34 التي تستدعي قصة موسى عليه السلام وعصاه المباركة، لكن القصة جعلت طلب الأخذ مبطنا بشر أكدته النهاية، بخلاف قصة موسى عليه السلام الذي كان طلب الأخذ يحمل بشرى وخيرا.
مجموعة "قهقهة الجدران" للمبدع الحسين الناصري، جديرة بالقراءة ومساءلة نصوصها، والغوص في أعماقها لاستجلاء أبعادها الفنية والجمالية، فهي تحتوي الكثير الذي يطلب التجلية، وقد صيغت بلغة عربية مشرقة، تنحو، أحيانا، باتجاه الشاعرية، من دون إفراط. وما قمنا به هو غيض من فيظ.



1641996093312.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى