د. محمد عبدالله القواسمة - جابر عصفور وتجربة التأثر بطه حسين

من يطّلع على مسيرة الناقد والمفكر العربي الدكتور جابر عصفور الذي فارقنا في نهاية العام الماضي 2021م يدهشه تعلقه بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وتوجهه إلى تبني فكرهه التنويري إن في حياته الفكرية أو العملية.

وبدأ هذا التعلق لدى الدكتور جاير منذ الصبا عندما وقع بين يديه كتاب طه حسين" الأيام"، فقد كان له تأثير السحر فيه؛ إذ يقرر كما يقول في ذكرياته أن يكون مثل طه حسين وأن يسير في طريقه، في احترامه العقل وعدم مهادنة المتعصبين في أفكارهم.

ويستمر هذا التعلق بطه جسين حين يصير جابر عصفور معيدًا بكلية الآداب جامعة القاهرة، فيلتقيه قبل وفاته بمدة قصيرة برفقة معلمته سهير القلماوي التي كانت تلميذة وفية لطه حسين، وهي التي أشرفت على رسالة جابر للماجستير "الصورة الفنية لدى شعراء عصر الإحياء"، وأطروحته للدكتوراه "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب". ويقول وهو يسرد تلك الذكريات أن طه حسين قال للدكتورة سهير القلماوى بعد اللقاء إنه سوف يكون له شأن كبير في النقد الأدبي. وهكذا كان.

لقد أعجب جابر عصفور بطه حسين؛ لانحيازه إلى العقل في التعامل النقدي مع التراث العربي، وفي مواقفه الفكرية والعملية التي تمثلت في دعوته عندما صار وزيرًا للمعارف إلى مجانية التعليم، وأنه حق للجميع كالماء والهواء. كما دافع عن التقدم والاستنارة ونادى بالثورة على الجهل والفقر والمرض. لقد التهم كتبه الإبداعية والفكرية، وتمسك بالمنهجية التي تعلمها من طه حسين، المنهجية العقلانية المبنية على الحفر في الأعماق، والشك في ظواهر الأمور والأحوال، كما بدت في كتابه "في الشعر الجاهلي"

هكذا شرع جابر عصفور في الاهتمام بدراسة طه حسين بوصفه رمزًا للتنوير وتثوير العقل. فظهرت دراسته" المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين" 1983. وكانت أول دراسة شاملة تتبنى المنهج البنيوي في نقد النقد العربي، وتنبئ بأن مؤلفها صاحب مشروع تنويري امتدادًا لطه حسين.

وتبلور هذا المشروع في أعمال كثيرة لجابر عصفور كلها تتبنى الفكر التنويري، كما ظهر في عناوينها فضلًا عن محتوياتها، فنقرأ على سبيل المثال عناوين: "التنوير يواجه الظلام" 1993، و"محنة التنوير" 1993، و"دفاعًا عن التنوير"1993، و"هوامش على دفتر التنوير"1994، و"أنوار العقل" 1996، و"نقد ثقافة التخلف"2008.

لم يقتصر الراحل في توجهه الثقافي التنويري على الكتابة والتأليف، بل تعدى ذلك إلى مجال التدريس وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات والمؤتمرات، وفي الوظائف التي تبوأها في إدارة مؤسسات ثقافية مهمة من ضمنها توليه وزارة الثقافة مرتين آخرها في الأيام الأخيرة للرئيس حسني مبارك، والتي أثارت حوله عواصف من سخط بعض المثقفين وغضبهم.

وقد قاده همه التنويري إلى أن يقف مواقف لم يكن كثيرون راضين عنها، منها: رفضه للحجاب، والطلاق الشفاهي، وما جاء في المادة الثانية من الدستور المصري التي تنص على أن دين الدولة الإسلام. ففي رأيه أن الحجاب لم يرد فرضه في القرآن الكريم، وهو متروك للمرأة لها أن ترتديه أو تنبذه، وأن الطلاق قضية مهمة لابد من توثيق حالاته، أما عما نص عليه الدستور بإسلامية الدولة المصرية فرأى ضرورة إلغاء المادة التي تنص على ذلك؛ لأنها تخلق نوعًا من التمييز العنصري بين المصريين، وتجعل بعضهم يحسون بأنهم أفضل من غيرهم، مما يتسبب في نشوء العداوات والفتن الطائفية. كما انتقد الأزهر لعدم قدرته على إحداث تغييرات جذرية تساهم في تجديد الخطاب الديني.

ما يهمنا تحت ووطأة الإحساس بالحزن على رحيل هذا المفكر والناقد العربي المهم بأن نشير، فيما يتصل بعلاقته بعميد الأدب العربي، بأنها كانت علاقة فكرية قوية، تكللت بحمل جابر عصفور رسالة التنوير التي بدأ بها طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي. وقد تجلى فيها داعيًا تنويريًا، صاغ نقدًا معاصرًا مستفيدًا من المناهج الغربية الحداثية في دراسة التراث الأدبي والفكري العربي على ضوء منهجية طه حسين التي دعت إلى ضرورة استخدام العقل، والعناية بالتراث وتجديده.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى