إيمان فجر السيد - لضبط مذاق الشوق..

تطبخ، بعد منتصف الليل، وهي ترقص، وقد حبست ثوبها الفضفاض تحت نهديها بالأستيك المحبوك بثوبها، تتقافز بين الأواني والصحون على وقع أغنيةٍ صاخبةٍ مرت كإعلانٍ على اليوتيوب، فجأةً ينقلب الإيقاع الصاخب إلى لحنٍ هادئٍ يأسر الروح؛ فترق ملامحُها وهي تتمايل بغنجٍ على الإيقاع:
"امتى الزمان يسمح يا جميل
وأقعد معاك على شط النيل".

ترقص برشاقةٍ فائقةٍ بينما تنظر إلى جسدها، الذي تتلاحق تضاريسه كموجٍ صاخبٍ، معكوسًا على باب الثلاجة المصلوبة أمامها، وذراعيها تعلو وتهبط كمن يتأرجح في الهواء، أما أصابع كفيها؛ فكانت تعزف لحنًا في الفراغ مابين حزنٍ يرتسم على ملامحها، ومرحٍ تحلق به ذراعيها اللتين كانتا تسترخيان تارةً، و تتشنجان تارةً أخرى، غير أنها تسرح؛ فتضيع منها أفكارها، تضيع وتشرد مع البخار الذي يتصاعد كثيفًا من ثقبٍ صغيرٍ، يعلو سطح الغطاء البلوري للوعاء الذي تطهو فيه آلامها ربما! فلا تدري هل هي من يرقص، أم البخار، وقد استبدل الغطاء برأسها، عابرًا محيط خصرها الذي عقد عليه حبيبٌ غائبٌ كل آماله؟!

تتابع رقصتها بخطواتٍ خفيفةٍ، تتماهى مع اللحن إلى أن تحاذي النافذة؛ فتتوقف، وقد تخضب وجهها بحمرةٍ شفيفةٍ، تكتب اسمه بسبابتها فوق زجاج النافذة الذي غشيه ضباب البخار، ثم تلثمه بقبلةٍ خجلى، تمحو القبلة، وقد دُغمِتِ الحروف، اسمه؛ فيتجلى لها ضوء القمر الذي انعكس ضياء بدره على أصيص زرعٍ صغيرٍ موجودٍ تحت نافذة الشرفة، اتخذت أوراقه شكل القلب، تترقرق الدمعة في عينيها، وقد راعها ذبول أوراقها الكبيرة، يبدو أنها نسيت أن تسقيها اليوم؛ فترجع إلى الخلف؛ لتحضر الماء، تقع عيناها على القِدر الذي نسيته فوق النار أيضًا، تقترب متوجسةً خوفًا من أن يكون قد استشاط، تتذوق طعم مرقه، تلسعها حرارته، وهي ترتشف الملعقة بصوتٍ عالٍ، تقلِب شفتها السفلى عاقدةً حاجبيها الكثيفين: أوه يبدو كطعام المرضى، لاطعم ولا نكهة ولا مذاق!
تقولها، وتضيف القليل من الملح والبهارات؛ لضبط مذاق الشوق؛ فتهفو روحها لطبع قبلةٍ ناعمةٍ، وقد ارتسم وجه حبيبها ثانيةً؛ لكن فوق سطح غطاء الوعاء البلوري هذه المرة، تخاف على شفتيها من لظى البخار؛ فتُحجم، وتكتفي أن ترسل له قبلةً في الهواء، تتكاثف وتتبخَّر مع البخار في هواء المطبخ.

يجول الدمع في عينيها الواسعتين، تبتلع غصتها، وتجلس على الكرسي المتهالك في زاوية المطبخ، تنظر عبر النافذة نحو الأفق، تتنهد بأسىً، وتتذكر حدثًا أسود مرَّ شريطه الآن أمامها، وقد وقعت أحداثه قبل عشر سنوات يوم رفض أبوها -وهي وحيدته- حبيب الصبا بسبب فقره، تزفر آهةً حرةً، هي الآن بعد وفاة والدَيها مرميةٌ على الرف؛ تندب سوء حظها، وتجتر مرارة وحدتها وظلم الأيام لها، تحاول أن ترتق وجعها، ترفع صوت الأغنية أكثر، تتمايل طربًا من جديدٍ، وقد تكاثف عرق جبينها، تسابقها ذاتي المشاكسة؛ فتنسى كل شيءٍ، تعود للرقص، أفتح دفتري لأكتب عنها؛ فأجدني أكتبها طفلةً جميلةً، تنضجُ أحلامها بين السطور، أعقد شرائط ضفائرها فواصلَ منقوطةٍ، ومساحاتٍ تصلح للفرح؛ فتتقافز أكثر، وأتقافز بين الهامش والمتن، لأكون، أو تكون ذروة النص -الذي سيسمونه الحياة؛ فلا أهتم- وحبكته المحكمة، أما قفلته، بعد تمام الإيقاع الذي تطرب له روحي/ روحها؛ فلن أكتبها إلا بلقائه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى