الباب العشرون
الليلة الأولى:
حكى أنه كان بمدينة بغداد رجل من أولاد النعيم ورث من أبيه مالاً جزيلاً وكان قينة فأنفق عليها أشياء ثم اشترها وكانت تحبه كما يحبها ولم يزل ينفق عليها ماله وهو في أكل وشرب إلى أن لم يبق له شيء وأفلس فطلب معاشاً يعيش فلم يقدر على شيء، وكان الفتى في أيام سعادته يحضر القينة في صناعة الغناء لتزداد في صناعتها فبلغت في الصناعة الغاية التي لم يدركها أحد سواها وكان الفتى قد علم من صناعة الغناء مثلها وأوفى فاستشار بعض إخوانه ومعارفه فقالوا له ما نعرف لك معاشاً أصلح من أن تغنى أنت والجارية فتأخذ على ذلك المال الكثير وتأكل وتشرب وأنت كل يوم طيب العيش فأنف من ذلك وعاد إليها فأخبرها بما أشير به عليه وأعلمها أن الموت أحب إليه من ذلك فصبرت معه على الشدة ثم قالت لقد رأيت لك رأياً قال ما هو قالت تبيعني فإنه يحصل لك من ثمني ما إن تعيش فيه عيشا طيبا وتتخلص من هذه الشدة وأخلص أنا وأحصل على نعمة فإن مثلي لا يشتريه إلا ذو نعمة أكون السبب في رجوعي إليك قال فحملها على السوق فكان أول من أعرضها عليه فتى هاشميا من أهل البصرة ظريف أديب كريم النفس واسع الحال فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عينا فقال الرجل حين لفظت بالبيع وقبضت المال ندمت غاية الندامة وبكيت أشد بكاء وصارت الجارية في أقبح من صورتي وجهدت في الإقالة فلم يكن إلى ذلك سبيل وأخذت الدنانير في الكيس ومضيت لا أدري إلى أين أذهب لأن بيتي موحش منها وورد على من البكا واللطم والنحيب شيء لا أصفه قال فدخلت بعض المساجد وجلست أبكى فيه وأفكر فيما نابني وفيما عملت بنفسي فحملتني عيني وتركت الكيس تحت رأسي كالمخدة ونمت فلم أشعر إلا بإنسان قد جذبه من تحت رأسي ومضى يهرول فانتبهت فزعاً فطلبت الكيس فوجدته قد أخذ فقمت أريد أجري وراءه وإذا برجلي مربوطة في حبل والحبل في وتد فوقعت على وجهي ورأسي وقلت فارقت من أحب وذهب المال فكيف حالي فزاد بي الأمر إلى أن جئت إلى الدجلة ووضعت ثوبي على وجهي ورميت روحي في الدجلة ففطن الحاضرون لي وأن ذلك لغيظ نالنى فرموا أرواحهم خلفي فشالوني وسألوني عن أمري فأخبرتهم خبري فصرت بين راحم ومستجهل إلى أن جاءني شيخ منهم فأخذ بغصتي وقال لي يا هذا ذهب مالك وتذهب نفسك وتكون من أهل النار فثق بالله العظيم قم معي فأرني بيتك فما فارقني حملني إلى منزلي وقعد عندي حتى رأى السكون فيّ فشكرته وأنصرف فكدت أقتل نفسي فتذكرت الآخرة والنار فخرجت من بيتي هارباً إلى بعض أصدقائي القدماء فأخبرته بخبري وما جرى عليّ فبكى لي رحمة وأعطاني خمسين ديناراً وقال أقبل رأيي وأخرج الساعة من بغداد وأجعل هذه نفقة لك إلى حيث تجد قلبك تشاغل وأنت من أولاد الكتاب وخطك جيد وأدبك بارع فاقصد من شئت من العمال فأطرح نفسك عليه فلعله أن يستخلفك في شيء تنتفع به وتعيش معه ولعل الله عز وجل أن يجمع عليك جاريتك فعملت على هذا وجئت إلى الكتبين وقد قوي حالي وزال عني بعض الهم واعتمدت على أنني أقصد واسط لأنه كان لي بها أقرب فإذا زلال مقدم وجراية كبيرة وقماش فاخر ينقل إلى الزلال فسألتهم أن يحملوني إلى واسط فقالوا هذا الزلال لرجل هاشمي ولا يمكننا حملك على هذه الصورة فسألتهم أن يحملوني وأرغبتهم في الأجرة فقالوا إذا كان فقالوا إذا كان ولابد أخلع هذه الثياب التي عليك وألبس ثياب الملاحين وأجلس معنا كأنك واحد منا فرجعت واشتريت من ثياب الملاحين وجئت إلى الزلال بعد أن اشتريت خبزاً وما يصلح للسفر وجلست معهم فما كان إلا ساعة حتى رأيت جاريتي بعينها ومعها جاريتان يخدمانها فسهل على ما كان بي وقلت أراها وأسمع غناءها من هنا إلى البصرة واعتقدت أن أجعل قصدي البصرة وطمعت أن أدخل مولاها وأصير من ندمائه وقلت لعلها لا تخليني من المراد وكنت واثقاً بها فلم يكن أسرع من أن جاء الفتى الهاشمي راكباً ومعه عدة ركبان فنزلوا في الزلال وانحدروا فلما صار عند كلوادى أخرج الطعام وأكل والجارية وأكل الباقون على وسط الزلال وأطعم الملاحين ثم أقبل على الجارية فقال لها كم هذه المدافعة عن الغناء ولزوم الحزن والبكاء لست أنت أول من فارق مولا كان لها محباً فعملت ما كان عندها من أمري ثم ضربت ستارة في جانب الزلال واستدعى اللذين يأكلون ناحية جلس معهم خارج الستارة فسألت عنهم فإذا هم أخوته ثم أخرج الصواني فيها الخماسيات والحردادبات من المحكم مملوءة شراباً ففرقت عليهم وقدمت لهم الأنقال وما شاكل ذلك وما زالوا يرفقون بالجارية إلى أن استدعت وبالعود وأصلحته واندفعت تغني من البعيد الأول وهو:
بأن الخليط بمن عرفت فأدلجوا ... عمدا بمن أهواه لم يتحرجوا
وغدت كأن على ترائبي نحرها ... جمر الغضا في ساعة تتأجج
ثم غلبها البكاء ورمت العود وقطعت عن الغناء وتنغص على القوم مشربهم ووقعت أنا مغشياً على فظن القوم أني قد صرعت بعضهم يقرأ في أذني وأفقت بعد ساعة فلم يزالوا يدارونها ويرفقون بها ويسألونها إلى أن أصلحت العود واندفعت تغني في البعيد الثاني:
فوقفت أندب للذين تحملوا ... وكأن قلبي بالشفار يقطع
فدخلت دارهم أسائل عنهم ... والدار خالية المنازل بلقع
ثم شهقت شهقة كادت تتلف وارتفع بكاؤها وصرخت أنا ووقعت مغشياً عليّ وتبرم الملاحون مني وقالوا كيف حملتم هذا المجنون فقال بعضهم إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه فجاءني من ذلك أمر عظيم ثم وضعت على نفسي الصبر والتجلد وقلت أعمل الحيلة في أن أعملها بمكاني من الزلال لتمنع من إخراجي وبلغنا إلى قريب ضيعة فقال صاحب الزلال اصعدوا بنا إلى الشط فطرحوا القماش وطلعوا وكان مساء فطلع الملاحون وخلا الزلال فقمت حتى صرت خلف الستارة فغيرت طريقة العود عما كانت عليه إلى طريقة أخرى وكانت تعلمها مني فرجعت إلى موضعي من الزلال وفرغ القوم من حوائجهم في الشط ورجعوا والقمر قد انبسط فقال لها مولاها بالله عليك لا تنغصى علينا عيشنا ولم يزلوا إلى أن أخذت العود وجسته وشهقت حتى ظنوا أن روحها قد طلعت وقالت والله مولاي معي في الزلال فقال لها مولاها والله يا هذه لو كان معنا ما منعته من معاشرتنا ولعله كان يخف ما بك وننتفع بغنائك ولكن هذا بعيد قالت هذا مما لا أسمعه مولاي معنا الهاشمي فنسأل الملاحين قالت أفعل فسأل الملاحين وقال هل حملتم معكم أحداً قالوا لا وأشفقت أن ينقطع السؤال فصحت نعم هو ذا أنا فقالت كلام مولاي والله فجاءني الغلمان فحملوني إلى الرجل حملاً فلما رآني عرفني وقال ويحك ما هذا الزي وما الذي أصابك إلى أن صرت إلى هذه الحالة قال فصدقته عن أمري وبكيت وأعلى نحيب الجارية من خلاف الستارة وبكى هو وإخوته بكاءً شديداً رقة لنا قال لي يا هذا والله ما وطئت الجارية ولا سمعت لها غناء إلا اليوم وأنا رجل موسع ولله الحمد وإنما وردت بغداد لسماع الغناء وطلب أرزاقي من أمير المؤمنين وقد بلغت الأمرين مما أردت ولما علمت أني أريد الرجوع إلى وطني قلت أسمع من غناء بغداد شيئاً فاشتريت هذه الجارية لأصبر بها عند مغنيات لي بالبصرة وإذا كنتما على أن هذه الجارية إذا وصلت إلى البصرة أعتقتها وأزوجك إياها وأجري عليكما ما يكفيكما وزيادة ولكن على شريطة أنني إذا أردت الاجتماع تضرب لها ستارة وتغني من خلفها ونحن مع بعضنا لا تبخل علينا بذلك وأنت من جملت إخواني وندماني ففرحت بذلك ثم أدخل رأسه إلى الجارية وقال يرضيك ذلك فأخذت تدعو له وتشكره ثم استدعى غلامه فقال خذ بيد الغلام ومده بثياب وبخره وقدمه إلينا بعد أن يأكل شيئاً وفعل لي الغلام ما أمر به وعدت إليه فحط بين يدي مثل ما بين أيديهما من الشراب والنقل ثم اندفعت الجارية تغني بانبساط وهو:
عيروني بأن سفحت دموعي ... حين هم الحبيب بالتوديع
زعموا أنني تهتكت في الحب? ... ب ما أريد غير مطيع
لم يذوقوا طعم الفراق ولا ما ... أحرقت لوعة الأسى من ضلوع
كيف لا أسفح الدموع على رسم ... عفا بعد ساكن وجموع
هب إن كتمت حالي لا تخفي ... زفرات المتيم المصدوع
إنما يعرف الغرام لمن لا ... ح عليه الغرام بين الربوع
فطرب القوم من ذلك طرباً شديداً وزاد فرح الفتى بذلك فلما رأيته على ما هو عليه من الفرح أخذت العود من الجارية وأصلحته وضربت به في أحسن صنعة وغناء واندفعت أقول:
أسأل العرف إن سألت كريما ... لم يزل يعرف الغنى واليسارا
فسؤال الكريم يورث عزا ... وسؤال اللئيم يورث عارا
وإذا لم يكن من الذل بد ... فالق بالذل إن لقيت الكبارا
ليس إجلالك الكريم بذل ... إنما الذل أن تجل الصغارا
ففرح القوم وزاد فرحهم وأنسوا بي غاية الإيناس ولم نزل على مسرة وسرور وغبطة وحبور وأنا أغني ساعة وهي تغني ساعة كذلك على أن جئنا إلى بعض الشطوط فارسي الزلال وصعد من الزلال كل من فيه وقضوا حوائجهم وصعدت أنا أيضاً وكنت سكراناً فقعدت أبول فأخذتني عيني فنمت وطلع القوم وانحدر الزلال ولم يعلموا بي وهم سكارى وكنت دفعت النفقة التي معي إلى الجارية ولم يبقى معي حبة واحدة وأن القوم انحدروا ووصلوا إلى البصرة ولم أنتبه أنا إلا من حر الشمس فجئت إلى الشط فلم أرحسا وقد كنت أجللت الرجل أن أسأله بمن يعرف وأين داره من البصرة فبقيت على شاطئ نهر معتلا كأول يوم بدأت في المحبة وكأن من كنت فيه مناما واجتازت بي سماوية فحملت فيها ودخلت إلى البصرة وما كنت دخلتها قط فنزلت خانا وبقيت متحيراً لا أدري ما أعمل ولم يتجه لي معاش إلى أن أجتاز بي يوما إنسان كنت أعرفه ببغداد فتبعته لأكشف له حالي وأسترفده ثم أنفت من ذلك ودخل منزله فعرفته وجئت إلى بقال على باب الخان الذي نزلته فأعطيته دانقا وأخذت منه دواة وورقة وجلست أكتب إليه رقعة فاستحسن خطي البقال ورأى ثوبي دنساً فسألني عن أمري فأخبرته أني رجل غريب فقير قد تعذر على التصرف وما بقي معي شيء فقال تعمل معي كل يوم بنصف درهم وطعامك وكسوتك وتضبط لي حساب دكاني فقلت له نعم قال لي اصعد فصعدت وخرقت الرقعة وجلست معه ودبرت أمره وضبطت دخله وخرجه فلما كان بعد شهر رأى الرجل دخله زائداً وخرجه ناقصاً فحمدني وبقيت معه كذلك شهوراً ثم جعل لي كل يوم درهما ولم يزل حالي يقوى معه على أن حال الحول فناله مني الصلاح فدعاني على أن تزوجت بابنته وشاركني في الدكان ففعلت ودخلت بزوجتي ولزمت الدكان والحال يقوى إلا أني في خلال ذلك مكسور النفس ميت النشاط ظاهر الحزن وكان البقال يشرب فربما جذبني إلى مساعدته فأمتنع وأظهر ذلك حزناً مني واستمرت بي الحال على هذا سنتين وأكثر فلما كان في بعض الأيام إذا قوم يجتازون بطعام وشراب وكل أحد على ذلك فسألت الشيخ عن القصة فقال لي هذا اليوم عيد الشعانين يخرج أهل الطرب واللعب والشراب والقينات إلى نهر الأبلة فيرون النصارى ويشربون ويتفرجون فدعتني نفسي إلى هذا وقلت لعلي أقف لأصحابي على خبر فقلت للبقال كنت أريد النظر إلى هؤلاء قال لي شأنك وأصلح لي طعاماً وشراباً وسلم إلى غلاما وسفينة فخرجت فأكلت وبدأت بالشراب حتى وصلت إلى الأبلة وابتدأ الناس ينصرفون وعزمت على الانصراف وإذا أنا بالزلال بعينه في وسط الناس سائراً في نهر الأبلة فتأملت وإذا بأصحابي على سطحه ومعهم عدة مغنيات فحين رأيتهم لم أتمالك فرحاً وصحت بهم فلما رأوني عرفوني وأخذوني إليهم وقالوا لي أنت حي وعانقوني وفرحوا بي وسألوني عن قصتي فأخبرتهم بها على أتم شرح وقالوا إنا لما فقدناك في الحال وقع لنا أنك قد سكرت ووقعت في الماء وغرقت فخرجت الجارية من ثيابها وكسرت عودها وقطعت شعرها ولطمت وجهها وأقبلت على البكاء والنحيب ولم نقدر نمنعها من ذلك ووردنا البصرة فقلت لها ما تحبين أن يعمل بك فقد كنا وعدنا مولاك بوعد تمنعنا المروءة من استخدامك بعده وسماع غناك قالت يا مولاي تملكني من القوت اليسير ولباس ثياب الشعر السواد وأن اعمل قبرا في جنب من الدار وأجلس عنده وأتوب عن الغناء فملكناها من ذلك وهي جالسة عنده إلى الآن فأخذوني معهم ومضوا بي فلما دخلت إلى الدار ورأيتها على تلك الصورة ورأتني شهقت شهقة عظيمة من ظننت أنها تعيش فاعتنقنا عناقاً طويلاً ثم افترقنا ثم قال مولاها تأخذها قلت نعم أعتقها كما وعدت وزوجني بها ففعل ذلك ودفع إلينا ثياباً كثيرة وفرشاً وقماشاً وآلة وحمل إليّ خمسمائة دينار وقال هذا مقدار ما أردت أجريه عليك في كل شهر منذ أول دخول البصرة وقد اجتمع طول هذه المدة فخذه والجراية متسابقة في كل شهر وشيء آخر لكسوتك وكسوة الجارية والشرط في المنادمة وسماع الجارية ومن وراء السترة وقد وهبت لك الدار الفلانية قال فحملت إلى الدار فإذا قد غمرت بالفرش والقماش وجميع ما أصاحبه وحملت إليها الجارية وجئت إلى البقال فحدثته الحديث وسألته أن يجعلني في حل من طلاقه لابنته بغير ذنب ودفعت إليه مهرها وما يلزمني من أمرها وأقمت مع الهاشمي على ذلك الحال سنين وصرت رب ضيعة ونعمة وعادت حالتي إلى قريب ما كنت فيه أنا والجارية وفرج الله الكريم عنا وسهل لنا الأمور بالإحسان وهذا ما كان من حديثهم والحمد لله حمداً كثيراً.
.../...
* من كتاب: مطالع البدور ومنازل السرور المؤلف: علي بن عبد الله الغزولي البهائي الدمشقي (المتوفى: 815هـ
.
Albert Girard
(1595, Saint-Mihiel –8 December 1632, Leiden)
الليلة الأولى:
حكى أنه كان بمدينة بغداد رجل من أولاد النعيم ورث من أبيه مالاً جزيلاً وكان قينة فأنفق عليها أشياء ثم اشترها وكانت تحبه كما يحبها ولم يزل ينفق عليها ماله وهو في أكل وشرب إلى أن لم يبق له شيء وأفلس فطلب معاشاً يعيش فلم يقدر على شيء، وكان الفتى في أيام سعادته يحضر القينة في صناعة الغناء لتزداد في صناعتها فبلغت في الصناعة الغاية التي لم يدركها أحد سواها وكان الفتى قد علم من صناعة الغناء مثلها وأوفى فاستشار بعض إخوانه ومعارفه فقالوا له ما نعرف لك معاشاً أصلح من أن تغنى أنت والجارية فتأخذ على ذلك المال الكثير وتأكل وتشرب وأنت كل يوم طيب العيش فأنف من ذلك وعاد إليها فأخبرها بما أشير به عليه وأعلمها أن الموت أحب إليه من ذلك فصبرت معه على الشدة ثم قالت لقد رأيت لك رأياً قال ما هو قالت تبيعني فإنه يحصل لك من ثمني ما إن تعيش فيه عيشا طيبا وتتخلص من هذه الشدة وأخلص أنا وأحصل على نعمة فإن مثلي لا يشتريه إلا ذو نعمة أكون السبب في رجوعي إليك قال فحملها على السوق فكان أول من أعرضها عليه فتى هاشميا من أهل البصرة ظريف أديب كريم النفس واسع الحال فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عينا فقال الرجل حين لفظت بالبيع وقبضت المال ندمت غاية الندامة وبكيت أشد بكاء وصارت الجارية في أقبح من صورتي وجهدت في الإقالة فلم يكن إلى ذلك سبيل وأخذت الدنانير في الكيس ومضيت لا أدري إلى أين أذهب لأن بيتي موحش منها وورد على من البكا واللطم والنحيب شيء لا أصفه قال فدخلت بعض المساجد وجلست أبكى فيه وأفكر فيما نابني وفيما عملت بنفسي فحملتني عيني وتركت الكيس تحت رأسي كالمخدة ونمت فلم أشعر إلا بإنسان قد جذبه من تحت رأسي ومضى يهرول فانتبهت فزعاً فطلبت الكيس فوجدته قد أخذ فقمت أريد أجري وراءه وإذا برجلي مربوطة في حبل والحبل في وتد فوقعت على وجهي ورأسي وقلت فارقت من أحب وذهب المال فكيف حالي فزاد بي الأمر إلى أن جئت إلى الدجلة ووضعت ثوبي على وجهي ورميت روحي في الدجلة ففطن الحاضرون لي وأن ذلك لغيظ نالنى فرموا أرواحهم خلفي فشالوني وسألوني عن أمري فأخبرتهم خبري فصرت بين راحم ومستجهل إلى أن جاءني شيخ منهم فأخذ بغصتي وقال لي يا هذا ذهب مالك وتذهب نفسك وتكون من أهل النار فثق بالله العظيم قم معي فأرني بيتك فما فارقني حملني إلى منزلي وقعد عندي حتى رأى السكون فيّ فشكرته وأنصرف فكدت أقتل نفسي فتذكرت الآخرة والنار فخرجت من بيتي هارباً إلى بعض أصدقائي القدماء فأخبرته بخبري وما جرى عليّ فبكى لي رحمة وأعطاني خمسين ديناراً وقال أقبل رأيي وأخرج الساعة من بغداد وأجعل هذه نفقة لك إلى حيث تجد قلبك تشاغل وأنت من أولاد الكتاب وخطك جيد وأدبك بارع فاقصد من شئت من العمال فأطرح نفسك عليه فلعله أن يستخلفك في شيء تنتفع به وتعيش معه ولعل الله عز وجل أن يجمع عليك جاريتك فعملت على هذا وجئت إلى الكتبين وقد قوي حالي وزال عني بعض الهم واعتمدت على أنني أقصد واسط لأنه كان لي بها أقرب فإذا زلال مقدم وجراية كبيرة وقماش فاخر ينقل إلى الزلال فسألتهم أن يحملوني إلى واسط فقالوا هذا الزلال لرجل هاشمي ولا يمكننا حملك على هذه الصورة فسألتهم أن يحملوني وأرغبتهم في الأجرة فقالوا إذا كان فقالوا إذا كان ولابد أخلع هذه الثياب التي عليك وألبس ثياب الملاحين وأجلس معنا كأنك واحد منا فرجعت واشتريت من ثياب الملاحين وجئت إلى الزلال بعد أن اشتريت خبزاً وما يصلح للسفر وجلست معهم فما كان إلا ساعة حتى رأيت جاريتي بعينها ومعها جاريتان يخدمانها فسهل على ما كان بي وقلت أراها وأسمع غناءها من هنا إلى البصرة واعتقدت أن أجعل قصدي البصرة وطمعت أن أدخل مولاها وأصير من ندمائه وقلت لعلها لا تخليني من المراد وكنت واثقاً بها فلم يكن أسرع من أن جاء الفتى الهاشمي راكباً ومعه عدة ركبان فنزلوا في الزلال وانحدروا فلما صار عند كلوادى أخرج الطعام وأكل والجارية وأكل الباقون على وسط الزلال وأطعم الملاحين ثم أقبل على الجارية فقال لها كم هذه المدافعة عن الغناء ولزوم الحزن والبكاء لست أنت أول من فارق مولا كان لها محباً فعملت ما كان عندها من أمري ثم ضربت ستارة في جانب الزلال واستدعى اللذين يأكلون ناحية جلس معهم خارج الستارة فسألت عنهم فإذا هم أخوته ثم أخرج الصواني فيها الخماسيات والحردادبات من المحكم مملوءة شراباً ففرقت عليهم وقدمت لهم الأنقال وما شاكل ذلك وما زالوا يرفقون بالجارية إلى أن استدعت وبالعود وأصلحته واندفعت تغني من البعيد الأول وهو:
بأن الخليط بمن عرفت فأدلجوا ... عمدا بمن أهواه لم يتحرجوا
وغدت كأن على ترائبي نحرها ... جمر الغضا في ساعة تتأجج
ثم غلبها البكاء ورمت العود وقطعت عن الغناء وتنغص على القوم مشربهم ووقعت أنا مغشياً على فظن القوم أني قد صرعت بعضهم يقرأ في أذني وأفقت بعد ساعة فلم يزالوا يدارونها ويرفقون بها ويسألونها إلى أن أصلحت العود واندفعت تغني في البعيد الثاني:
فوقفت أندب للذين تحملوا ... وكأن قلبي بالشفار يقطع
فدخلت دارهم أسائل عنهم ... والدار خالية المنازل بلقع
ثم شهقت شهقة كادت تتلف وارتفع بكاؤها وصرخت أنا ووقعت مغشياً عليّ وتبرم الملاحون مني وقالوا كيف حملتم هذا المجنون فقال بعضهم إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه فجاءني من ذلك أمر عظيم ثم وضعت على نفسي الصبر والتجلد وقلت أعمل الحيلة في أن أعملها بمكاني من الزلال لتمنع من إخراجي وبلغنا إلى قريب ضيعة فقال صاحب الزلال اصعدوا بنا إلى الشط فطرحوا القماش وطلعوا وكان مساء فطلع الملاحون وخلا الزلال فقمت حتى صرت خلف الستارة فغيرت طريقة العود عما كانت عليه إلى طريقة أخرى وكانت تعلمها مني فرجعت إلى موضعي من الزلال وفرغ القوم من حوائجهم في الشط ورجعوا والقمر قد انبسط فقال لها مولاها بالله عليك لا تنغصى علينا عيشنا ولم يزلوا إلى أن أخذت العود وجسته وشهقت حتى ظنوا أن روحها قد طلعت وقالت والله مولاي معي في الزلال فقال لها مولاها والله يا هذه لو كان معنا ما منعته من معاشرتنا ولعله كان يخف ما بك وننتفع بغنائك ولكن هذا بعيد قالت هذا مما لا أسمعه مولاي معنا الهاشمي فنسأل الملاحين قالت أفعل فسأل الملاحين وقال هل حملتم معكم أحداً قالوا لا وأشفقت أن ينقطع السؤال فصحت نعم هو ذا أنا فقالت كلام مولاي والله فجاءني الغلمان فحملوني إلى الرجل حملاً فلما رآني عرفني وقال ويحك ما هذا الزي وما الذي أصابك إلى أن صرت إلى هذه الحالة قال فصدقته عن أمري وبكيت وأعلى نحيب الجارية من خلاف الستارة وبكى هو وإخوته بكاءً شديداً رقة لنا قال لي يا هذا والله ما وطئت الجارية ولا سمعت لها غناء إلا اليوم وأنا رجل موسع ولله الحمد وإنما وردت بغداد لسماع الغناء وطلب أرزاقي من أمير المؤمنين وقد بلغت الأمرين مما أردت ولما علمت أني أريد الرجوع إلى وطني قلت أسمع من غناء بغداد شيئاً فاشتريت هذه الجارية لأصبر بها عند مغنيات لي بالبصرة وإذا كنتما على أن هذه الجارية إذا وصلت إلى البصرة أعتقتها وأزوجك إياها وأجري عليكما ما يكفيكما وزيادة ولكن على شريطة أنني إذا أردت الاجتماع تضرب لها ستارة وتغني من خلفها ونحن مع بعضنا لا تبخل علينا بذلك وأنت من جملت إخواني وندماني ففرحت بذلك ثم أدخل رأسه إلى الجارية وقال يرضيك ذلك فأخذت تدعو له وتشكره ثم استدعى غلامه فقال خذ بيد الغلام ومده بثياب وبخره وقدمه إلينا بعد أن يأكل شيئاً وفعل لي الغلام ما أمر به وعدت إليه فحط بين يدي مثل ما بين أيديهما من الشراب والنقل ثم اندفعت الجارية تغني بانبساط وهو:
عيروني بأن سفحت دموعي ... حين هم الحبيب بالتوديع
زعموا أنني تهتكت في الحب? ... ب ما أريد غير مطيع
لم يذوقوا طعم الفراق ولا ما ... أحرقت لوعة الأسى من ضلوع
كيف لا أسفح الدموع على رسم ... عفا بعد ساكن وجموع
هب إن كتمت حالي لا تخفي ... زفرات المتيم المصدوع
إنما يعرف الغرام لمن لا ... ح عليه الغرام بين الربوع
فطرب القوم من ذلك طرباً شديداً وزاد فرح الفتى بذلك فلما رأيته على ما هو عليه من الفرح أخذت العود من الجارية وأصلحته وضربت به في أحسن صنعة وغناء واندفعت أقول:
أسأل العرف إن سألت كريما ... لم يزل يعرف الغنى واليسارا
فسؤال الكريم يورث عزا ... وسؤال اللئيم يورث عارا
وإذا لم يكن من الذل بد ... فالق بالذل إن لقيت الكبارا
ليس إجلالك الكريم بذل ... إنما الذل أن تجل الصغارا
ففرح القوم وزاد فرحهم وأنسوا بي غاية الإيناس ولم نزل على مسرة وسرور وغبطة وحبور وأنا أغني ساعة وهي تغني ساعة كذلك على أن جئنا إلى بعض الشطوط فارسي الزلال وصعد من الزلال كل من فيه وقضوا حوائجهم وصعدت أنا أيضاً وكنت سكراناً فقعدت أبول فأخذتني عيني فنمت وطلع القوم وانحدر الزلال ولم يعلموا بي وهم سكارى وكنت دفعت النفقة التي معي إلى الجارية ولم يبقى معي حبة واحدة وأن القوم انحدروا ووصلوا إلى البصرة ولم أنتبه أنا إلا من حر الشمس فجئت إلى الشط فلم أرحسا وقد كنت أجللت الرجل أن أسأله بمن يعرف وأين داره من البصرة فبقيت على شاطئ نهر معتلا كأول يوم بدأت في المحبة وكأن من كنت فيه مناما واجتازت بي سماوية فحملت فيها ودخلت إلى البصرة وما كنت دخلتها قط فنزلت خانا وبقيت متحيراً لا أدري ما أعمل ولم يتجه لي معاش إلى أن أجتاز بي يوما إنسان كنت أعرفه ببغداد فتبعته لأكشف له حالي وأسترفده ثم أنفت من ذلك ودخل منزله فعرفته وجئت إلى بقال على باب الخان الذي نزلته فأعطيته دانقا وأخذت منه دواة وورقة وجلست أكتب إليه رقعة فاستحسن خطي البقال ورأى ثوبي دنساً فسألني عن أمري فأخبرته أني رجل غريب فقير قد تعذر على التصرف وما بقي معي شيء فقال تعمل معي كل يوم بنصف درهم وطعامك وكسوتك وتضبط لي حساب دكاني فقلت له نعم قال لي اصعد فصعدت وخرقت الرقعة وجلست معه ودبرت أمره وضبطت دخله وخرجه فلما كان بعد شهر رأى الرجل دخله زائداً وخرجه ناقصاً فحمدني وبقيت معه كذلك شهوراً ثم جعل لي كل يوم درهما ولم يزل حالي يقوى معه على أن حال الحول فناله مني الصلاح فدعاني على أن تزوجت بابنته وشاركني في الدكان ففعلت ودخلت بزوجتي ولزمت الدكان والحال يقوى إلا أني في خلال ذلك مكسور النفس ميت النشاط ظاهر الحزن وكان البقال يشرب فربما جذبني إلى مساعدته فأمتنع وأظهر ذلك حزناً مني واستمرت بي الحال على هذا سنتين وأكثر فلما كان في بعض الأيام إذا قوم يجتازون بطعام وشراب وكل أحد على ذلك فسألت الشيخ عن القصة فقال لي هذا اليوم عيد الشعانين يخرج أهل الطرب واللعب والشراب والقينات إلى نهر الأبلة فيرون النصارى ويشربون ويتفرجون فدعتني نفسي إلى هذا وقلت لعلي أقف لأصحابي على خبر فقلت للبقال كنت أريد النظر إلى هؤلاء قال لي شأنك وأصلح لي طعاماً وشراباً وسلم إلى غلاما وسفينة فخرجت فأكلت وبدأت بالشراب حتى وصلت إلى الأبلة وابتدأ الناس ينصرفون وعزمت على الانصراف وإذا أنا بالزلال بعينه في وسط الناس سائراً في نهر الأبلة فتأملت وإذا بأصحابي على سطحه ومعهم عدة مغنيات فحين رأيتهم لم أتمالك فرحاً وصحت بهم فلما رأوني عرفوني وأخذوني إليهم وقالوا لي أنت حي وعانقوني وفرحوا بي وسألوني عن قصتي فأخبرتهم بها على أتم شرح وقالوا إنا لما فقدناك في الحال وقع لنا أنك قد سكرت ووقعت في الماء وغرقت فخرجت الجارية من ثيابها وكسرت عودها وقطعت شعرها ولطمت وجهها وأقبلت على البكاء والنحيب ولم نقدر نمنعها من ذلك ووردنا البصرة فقلت لها ما تحبين أن يعمل بك فقد كنا وعدنا مولاك بوعد تمنعنا المروءة من استخدامك بعده وسماع غناك قالت يا مولاي تملكني من القوت اليسير ولباس ثياب الشعر السواد وأن اعمل قبرا في جنب من الدار وأجلس عنده وأتوب عن الغناء فملكناها من ذلك وهي جالسة عنده إلى الآن فأخذوني معهم ومضوا بي فلما دخلت إلى الدار ورأيتها على تلك الصورة ورأتني شهقت شهقة عظيمة من ظننت أنها تعيش فاعتنقنا عناقاً طويلاً ثم افترقنا ثم قال مولاها تأخذها قلت نعم أعتقها كما وعدت وزوجني بها ففعل ذلك ودفع إلينا ثياباً كثيرة وفرشاً وقماشاً وآلة وحمل إليّ خمسمائة دينار وقال هذا مقدار ما أردت أجريه عليك في كل شهر منذ أول دخول البصرة وقد اجتمع طول هذه المدة فخذه والجراية متسابقة في كل شهر وشيء آخر لكسوتك وكسوة الجارية والشرط في المنادمة وسماع الجارية ومن وراء السترة وقد وهبت لك الدار الفلانية قال فحملت إلى الدار فإذا قد غمرت بالفرش والقماش وجميع ما أصاحبه وحملت إليها الجارية وجئت إلى البقال فحدثته الحديث وسألته أن يجعلني في حل من طلاقه لابنته بغير ذنب ودفعت إليه مهرها وما يلزمني من أمرها وأقمت مع الهاشمي على ذلك الحال سنين وصرت رب ضيعة ونعمة وعادت حالتي إلى قريب ما كنت فيه أنا والجارية وفرج الله الكريم عنا وسهل لنا الأمور بالإحسان وهذا ما كان من حديثهم والحمد لله حمداً كثيراً.
.../...
* من كتاب: مطالع البدور ومنازل السرور المؤلف: علي بن عبد الله الغزولي البهائي الدمشقي (المتوفى: 815هـ
.
Albert Girard
(1595, Saint-Mihiel –8 December 1632, Leiden)