مقتطف نزار حسين راشد - الطريق إلى أورشليم.. (رواية)

اليوم موعد العيادة المتنقلة، تجمعت النساء قبل حضور السيّارة، فرصة للاستراحة من العمل الذي لا ينتهي في البيت والحقل، والتنفيس عن حنقهن المكبوت على الرجال وظلمهم وتسلطهم وبث شكواهن بين بعضهنّ بلا تحفظ، أما النميمة فيوفرنها للجلسات الثنائية الخاصة، حيث أنها لا بُدّ أن تطال إحداهن،
أخيراً فتح باب العيادة، وملأ الطبيب بقامته الباب، وشهقت امرأة واضعة سبابتها على فمها وفاتحة عينيها على وسعهما:
- أشقر وأحمر. هذا ليس الدكتور منصور.
بينما وقف الطبيب السويدي يراقب هذا الجمع النسائي غير المنظم، ولم يفته مغزى حركات النساء وهن يتعازمن وكل واحدة تقدم الأخرى، مؤثرة إياها على نفسها، إلى أن عقدن أمرهن أخيراً على تقديم كبيرات السن!
ابتسم الطبيب أخيراً وأوعز إلى الممرضة أن تجعلهنّ ينتظمن في طابور، وهكذا رتبت النساء أنفسهن، الأكبر سناً فالأصغر.
وعبّر الطبيب عن دهشته بصوتٍ مسموع قاصداً أن يسمع الممرضة:
-لماذا قال لي الدكتور منصور أنّ هؤلاء القرويين فوضويون جدّاً؟ يبدو لي أنّ لهم معاييرهم الخاصة، هذا كل ما في الأمر
توالى دخول النساء واحدة تلو الأخرى، وتوالت طمأنات الطبيب لهن:
- صحة تمام! صحة تمام-
عدا بعض الحالات التي أظهر الفحص أنها بحاجة لعناية وبعض الدواء!
كلهن يرتدين الزي الموحد حسب تعبير الطبيب، الثوب المطرز وغطاء الرأس الأبيض، ما عدا واحدة وقفت في آخر الصف، وكأنه كان بود النساء أن يخفينها عن الأعين، لأنها كانت سافرة الرأس، ترتدي التنورة وقميص نسائي بأزرار، لبس بنات المدينة في نظرهن، واللبس الأوروبي في نظر الطبيب، الأمر الذي أثار استغرابه، وحين خاطبته بالإنجليزية، زاد استغرابه أكثر، وربما اعتقد أنها ضيفة أو طارئة على هذا المجتمع الريفي، ولكنه لم يعلق على اختلافها عن الأخريات بشيء، وبدل ذلك طلب إليها أن تراجعه في عيادته الدائمة في المدينة المجاورة لمزيدٍ من الفحوصات، وحين رأى القلق في عينيها طمأنها بقوله:
- لا شيء خطير، ارتفاع بسيط في ضغط الدم، ربما يكون عارضاً و لا شيء، ولكننا يجب أن نطمئن على أية حال.
وداد عادت إلى القرية بعد وفاة والدها الذي كرٍّس لها حياته بعد وفاة والدتها، وألحقها بمدرسة أجنبية، نفس المدرسة التي يدرس فيها أبناء الموظفين الأجانب، زملاؤه، في شركة النقل البحري التي يعمل بها.
وداد التي كان القرويات يلقبنها: دمية الطين، بسبب تناسق جسدها وانسدال شعرها، وهذا اللقب هو في الحقيقة تعديل على اللقب الأصلي الذي أطلقته إحداهن عليها: لعبة الجبصين، حين نبهتها أخرى إلى أن الجبصين أبيض، ولا يتفق مع سمرة بشرتها، وهكذا اتفقن وهن يتضاحكن أن يستبدلن اللقب إلى دمية الطين.
في الحقيقة كانت سمرة وداد سمرة فاتحة، ولم تكن بشرتها بتلك الدكنة، ولكنهن كن يشبعن غرورهن وينفسن عن غيرتهن منها.
في تلك الليلة نامت وداد نوماً قلقاً، شابته أحلامٌ متقطعة
دعوة الطبيب لها لمراجعته، فتحت ذهنها على احتمالات كثيرة، أكثر من ذلك شجعتها على أن تفكر في مغادرة القرية إلى الأبد، كل ما عليها أن تستجمع عزيمتها التي ظلت فاترة ومستسلمة لقدرها حتى ذلك الحين.
وحين نهضت من نومها أخيراً، هبت الأفكار في رأسها كطيورّ فزعة، ولكنها أخذت تهدأ شيئاً فشيئاً، إلى أن استكنّت وادعة أخيراً، بعد أن استقرّ رأيها على أن تطلب من الطبيب أن يساعدها على تقديم طلب للهجرة.. أو على الأقل الحصول على عمل يعيدها إلى جو المدينة الذي ألفته، أو ربما أفضل من ذلك يخرجها من وحدتها إلى الأبد... احمرّ وجهها خجلاً، ولكنها بالتأكيد لمحت تلك النظرة في عينيه، النظرة التي لا تخطيء في قراءتها النساء، وربما كان ارتفاع الضغط مجرد ذريعة، ليقابلها في عيادته!
ولكن إن حصل ذلك هل سيقبل أن يسقط الحاجز الأخير ويعتنق الإسلام، دينها الذي لن تتخلى عنه أبداً لأنه دين حق، والطبيب هو الأولى بالتضحية، التاريخ يقول ذلك، فهم قد صدّروا لنا كل شيء، باستثناء الدين، وسرقوا منّا كل شيء باستثناء العفة التي حفظناها ولو حتى بين رجلينا، وداد تتذكر وقوفها أمام مدرس اللغة الإنجليزية الإنجليزي حين قال معرّضاً أن العفة ليست بين الرجلين كما تفهمونها!
وحينئذ وقفت وداد بحزم لتقول له: بل إنها كذلك لأننا لو فقدناها هناك فسنفقدها في كل مكان آخر!
فبهت الذي كفر، هكذا فكرت وداد في حينه!
وداد واثقة أن لا شيء سيقف في طريقها، وأن العواطف البشرية ستسير في مجراها الطبيعي ملتفة حول كل الصخور التي ستقف في طريقها!
.......
كانت على موعدٍ مع الطبيب، ولكن ما إن وضعت قدمها على أرض القدس وهي تترجّل من الحافلة،وحتى قبل أن تلحقها الرجل الأخرى،شعرت برعشة تلك الملامسة تسري في جسدها، الحميمية بينها وبين هذه المدينة التي حنت على طفولتها، بكل معالمها،التي تطول الألفة بينك وبينها، إلى ما وراء حدود الوقت، إلى خلف الزّمن، إلى المالانهاية.
بينها وبين القدس أسرار، لا تترجم إلى أي لغة،تستقيل على أبوابها كل اللغات، وتتحول إلى خطابٍ مفتوح، كهذا الهواء الذي فتحت له رئتيها، وعبّته بنهمٍ لا يرتوي.
نسيت موعدها مع الطبيب تماماً، وهامت في شوارع القدس، تتلمّس التفاصيل التي رافقت طفولتها. كانت
هي ترى في القدس ما تريد أن تراه، وليس ما يراه الناس الذين وفدوا من القرى والأنحاء لقضاء حاجاتهم من البيع والتسوق والعلاج، وحين عبرت مخيّلتها تلك الفكرة، تذكّرت موعدها مع الطبيب،أجل، هذا ما جاءت لأجله، العلاج.
لقد شعرت أن هذا الطبيب السويدي، يضمر لها نيّةً ما،وغالباً ما يصدق حدسها، حتماً سيقدّم لها عرضاً ما، وليست المسألة مسألة علاج، فهي لا تعاني من شيء، وحتى الطبيب لم يحدّد لها شيئاً ما،قال فقط سنجري بعض الفحوص، ومع ذلك فهي لا تظنّ أن لديه نيّة سيئة، فهذا الأشقر الأحمر كما وصفته قريبتها القروية، عدا عن وجهه الطفولي البريء لا يشعرك بأي تهديد.
أخرجت الورقة من جيبها لتتأكّد من العنوان، رغم أنها حفظته، أوه، باب العمود، أكثر من ألفة وأكثر من وطن.
دخلت إلى العيادة بحذر، وأدارت عينيها لتتحقّق من وجوده، حين فاجأها صوته من أحد أركان العيادة:
تأخرت كثيراً-
آه آسفة! لم أتمكن من الحضور في الموعد.
وأردفت:
-هل هناك ما يخيف في حالتي يا دكتور؟
طفت على وجهه ابتسامة.
-هل لديك فكرة عن التمريض؟
-دورة قصيرة فقط!أستطيع إعطاء الحقن.
-يبدو ذلك كافياً.هل لديك أي مانع من العمل معي،أو لنقل معنا،فنحن منظمة دولية في كل الأحوال.
-ذلك عرض لن أرفضه،فانا أتوق إلى الرجوع هنا حيث نشأت،القرية ليست إلا ملاذي الإخير الآمن،أما ما دمت سأعمل،فسأشعر حتماً بالأمان،وذلك سبب كافٍ لأترك القرية.
-حين رأيتك هناك،أدركت أنك مختلفة خاصة وأنك تتقنين الإنجليزية.
رأت وداد أن تختصر الموضوع برمته:
متى أستطيع أن أبدأ العمل؟-
من صباح الغد إذا أردت! إلا إذا اردت وقتاً لترتيب أمورك!
لا أملك إلا حقيبة ملابسي،ولكن هل توفرون لي المسكن فيما لو انتقلت إلى هنا؟
بالطبع هناك سكن خاص بالعاملين لدينا، ستحصلين على غرفة في سكن الممرضات،في الحقيقة لم أشر إلى ذلك،لأني اعتقدت أنك مستقرة في القرية،ونظراً لقرب المسافة لم أعتقد ان التنقل سيشكل مشكلة!
-لا بأس إذن !سأنتقل منذ الغد.
وأنا سأجري الترتيبات اللازمة!
فقط أحضري في الموعد!
-لن أتأخر هذه المرة، فالأمر أكثر جدّية هذه المرّة!
تبادلا الابتسام واستأذنت وداد وغادرت.
لا تدري ما سيخبؤه لها المستقبل، وإن كان الطبيب سيقع في حُبّها،كما خطر لها حين زار قريتهم بعيادته المتنقلة، وطلب إليها أن تراجعه دون كل الحاضرين. المهم أن الفرحة لا تسعها بعودتها إلى القدس، عشّ طفولتها الآمن، حيث ستعيش هنا إلى آخر العمر ربما! أما الباقي فمجرد تفاصيل.
.........
كان صباحاً بهيجاً،ذلك الصباح الذي استهلّت وداد فيه عملها في عيادة الدكتور "توماس"،قرقعة أواني التعقيم الفولاذية،وقعت في أذنيها كمعزوفة موسيقية،أما روائح الصباح الهاربة من الأفران والمطاعم،الكعك المخبوز والفلافل المقلية،وأبخرة الخضار المغلية،حملت حواسّها إلى حدود النشوة،وشحنت جوارحها بالطاقة،كانت تتحرك كالنحلة حسب تعليمات المساعدة التي أوكل إليها الدكتور توماس مهمة تدريبها على أعمال العيادة.

الدكتور منشغل عنها تماماً بمراجعيه وأعماله اليومية،مما يمنحها وقتاً لتفكّر وتتأمّل وترسم احتمالات المستقبل كما يحلو لها،لا تشعر حتى بانقضاء اليوم،فزمن القدس بالنسبة لها،كالدخان لمدمن الحشيش،ضحكت في سرّها على هذا التشبيه،واسترسلت في أفكارها،هل يمكن أن يكون هناك علاقة بين القداسة والعقارات المخدرة،هل يمكن أنها تنبه نفس مراكز الدماغ،ربما تسأل الدكتور توماس عن ذلك!

ولكن الدكتور توماس ربما يعرف عن تأثير العقارات،ولكن ماذا يعرف عن الإحساس بالقداسة؟ وهل لذلك علاقة بحرق البخور في المعابد،هل لإيقاظ الإحساس بالقداسة،أو تهيئة الحواس للشعور بها؟

في ذلك اليوم انتهى العمل مبكّراً،واستأذنت المساعدة بالانصراف،أراح الدكتور توماس جلسته على كرسي العيادة وناداها::

-وداد إجلسي!

جلست جلسة مشدودة عاقدةً يديها،فطلب إليها بلطف أن تسترخي في جلستها!

منتهى التهذيب،فكّرت وداد،وتساءلت في سرّها عما ينوي أن يحدثها به،إلى أين سيوجّه دفّة الحديث،وهل يمهّد لشيءٍ ما؟ وهل سيلفّ ويدور ليوصل لها رسالةً ما،تتعلّق بعلاقته بها ربّما،وهذا كان أوّل ما خطر لها حين طلب إليها مراجعته في العيادة،في أوّل زيارة له لقريتهم بعيادته المتنقّلة!
ولكنّه قاطع هواجسها،ليفاجأها بالقول:
كل شيء يعجبني هنا،السكينة التي تبعثها هذه المدينة في النفس،حتى أنّك لا تريد أن تغادرها،وإن غادرت فما أسرع ما تريد أن تعود،شعورٌ غامض يدفعك لذلك،لقد عدت إلى السويد بلدي عدّة مرات ،وفي كُلّ مرّة كنت أقطع إجازتي لأعود إلى هنا، هل تصدقين؟

-بالطبع يا دكتور فهذه هي القدس،قلب العالم،لا يمكن مقارنتها بمدينة أخرى!.تردّ وداد!

ولكنّ الدكتور يسترسل وكأنه لم يسمعها:

حتى الناس،إنهم طيبون لدرجة لا تصدّق،حتى أولئك القرويون،ملابسهم مهلهلة حقّاً ولكنّهم حريصون على النظافة لدرجة لا تصدّق،كطبيب يثير ذلك إعجابي ،حقّاً ربّما لو كنت عارض أزياء لنظرت باستصغار إلى عدم الأناقة الفاضح هذا،ولكن لحسن الحظ فأنا طبيبُ!

تداعب شفتيه ابتسامة ويصوب نظراته نحوها ويضيف:

-وداد!أنا أريد أن أكون واحداً منكم بالفعل! وتردّ وداد منتهزة الفرصة:

أنت بالفعل كذلك يا دكتور،وتكمل وقد استولى عليها حسٌّ مفاجيء بالدعابة:

وإذا أردت سأجعلك واحداً من أبناء قريتنا وربما نمنحك اسماً جديداً

ولكنّ الطبيب يردّ بجدّية،متجاوزاً دعابتها:

ربما هذا ما أريده بالفعل،وربما من خلالك أنت بالذات،فربما أنت فرصة ألقاها القدر في طريقي ليغيّر مسار حياتي!
يستحوذ على وداد صمت عميق،ترى ما الذي يقصده بالضبط،ما هي الرسالة التي يريد أن يبلغها إياها،أم أنه أبلغها بالفعل،ولم تبق إلا كسوة التفاصيل،لتُلبس ذلك الحديث العاري،الملامح: لتُنطق ذلك الوجه المبهم.
يواصل الدكتور الصمت وينتهي حديث اليوم عند هذا الحد،تنهض وداد مستأذنة بالمغادرة،ويأذن لها الطبيب بإشارة من يده،تلملم نفسها على عجل وتغادر دون إبطاء،غارقة في بحر أفكارها،الذي تعلو أمواجه وتهبط،ولكن دون أن يساورها أي خوف أو خشية،لقد انفتح في حياتها باب جديد،لا تدري إلى أين سيفضي،ولكن في مدينتها القدس ،حضنها الآمن فلن يخونها القدر أبداً!
.........
الآن باتت وداد على يقين من أن الطبيب،يضمر شيئاً ما بخصوصها،شيءٌ حاك في نفسه منذ رآها للمرة الأولى،وها هو يلقي لها بمقدماته،ويمهد الطريق للخطوة النهائية،وهي واثقة تماماً الآن،ثقة تقرب من اليقين،أنه سيصارحها بعواطفه،ولكن كيف سيضع ذلك في عبارات،وما هي الطريقة التي سيصيغ لها مشاعره بها،خاصة أنه تفصلهما حواجز شاسعة،أولها الدين،وثانيها الثقافة ونمط الحياة،وآخرها العمر،فهو يكبرها بعشر سنوات على الأقل.
ولكن الأمر لا يقلقها أبداً،فها هي تأتي كل يوم إلى العيادة،وتمارس عملها بحماس كبير،ولا يبدو أن وجودها أثار أي نوعٍ من ردة الفعل لدى المساعدة،فهي متزوجة وأم أولاد،وآخر ما تفكر فيه هو علاقات الآخرين العاطفية ،وحتى لا يبدو عليها أنها قرأت في الجو شيئاً غير عادي.
وداد لا تجزم هل سيطول الأمر أم يقصر،قبل أن يبوح الطبيب لها بمكنونات صدره،ولكنها واثقة من شيء واحد،أن زمام المبادرة سيبقى في يدها،طريقة حياتها مع والدها،عززت لديها الاستقلالية والقدرة على اتخاذ قراراتها بنفسها،وكثيراً ما كان يقول لها:
عندما لا أكون معك فأنت والدة نفسك،خذي قرارك وكأنك أنت أبو نفسك!
كانت عباراته هذه تضحكها،ولكنها فهمتها وطبقتها ببراعة على أية حال،الأمر الذي كان يغبط والدها بل يدفعه إلى المبالغة في الاعتماد عليها،دون أن تغيب يده الحانية أو حضوره الطاغي في حياتها رغم هذه المسافة المصطنعة بينه وبينها،كأن ذلك كله دورة تدريبية،نجحت في إيتاء أكلها.
أما السؤال الذي كانت تهرب منه فهو ما هو موقفها هي من الطبيب،أو بشكل أدق ما هو شعورها نحوه؟
لقد تعودت على التقتير في إبداء عواطفها،حتى لا تتعرض للاستغلال من الآخرين،هكذا علمها والدها،وها هي تطبق هذا التكتيك الآن، حتى بينها وبين نفسها.
ولكن ما يبعث في نفسها الطمأنينة أنها مرتاحة لهذا الطبيب،وليس لديها أي سوء ظن بخصوصه،هذا هو الانطباع الذي تركه لديها،ولذا فهي تواصل طريقها باطمئنان.
أخيراً جاء اليوم الموعود،استبقاها بالطبيب بعد انصراف المساعدة مبّكرةً كالعادة،وهو الامتياز الدائم الذي منحها إياه،مكافأةً على تفانيها في العمل،واستفادت بدورها منه دون أي توانٍ.
جلس على كرسيّه كالعادة،وجلست هي قبالته إلى زاوية المكتب،واستندت بمرفقها إلى حافته،ولكنها أنزلت يدها،حين اكتشفت أن وضع يدها يحجب جزئيّاً وجه الطبيب،في حين أنها تريد أن تقرأ تعابير وجهه بدقّة وتمعُّن.
ابتسم الطبيب مشيعاً الموّدة في الجو وافتتح حديثه بالقول:
لو كنّا في ستوكهلم لدعوتك إلى الغداء أو إلى جلسة هادئة في ركن رومانسي،أما هنا في مجتمعكم المحافظ،الذي لا يسمح للفتاة بالخروج مع رجل لا تربطها به علاقة شرعية!هكذا تسمّونها أليس كذلك؟
لم تُجب وداد بشيء وتتركه يكمل كلامه:
ولذا فأنا مضطرٌ أن أقول لك بدون أية طقوس أنني معحب بك!
توقّف لبرهة ليرى أثر كلامه ،وتصفّح وجهها بعينيه،شعرت أنه لا بُدّ لها أن تقول شيئاً،ولكنّه أسكتها مشيراً براحة يده بلطف،وبهيأة اقرب للاعتذار استأنف حديثه:
-لا جمل معترضة! قال ذلك شافعاً قوله بضحكة وتابع:
-أعرف أن هناك عقبات عليّ أن أجتازها أولّها الدين،وأنا مستعدٌ لذلك،لا ضير في أن أصبح مسلماً،فقد اطلعت على الكثير من جوانب هذا الدين،ولم أجد فيه ما يدعو إلى النفور منه،أما بالنسبة للعائلة وهي مقدّسة عندكم كما رأيت،فهذه مهمتك،إذا لاقى عرضي لديك القبول...
صمت قليلاً ليقول بعد هنيهة:
والآن ما رأيك؟لقد قلت كل شيء أردت أن أقوله دفعة واحدة!لم أعطك حتى الفرصة لتقولي شيئاً،ببساطة حتى لا أسمع رفضك قبل أن أضع بين يديك كل ما لدي!
يقطع صمته مرّة أخرى ويعلن بانفعال هذه المرّة:
-وداد! انا أحبك!لقد أحببتك من أول مرة وقعت فيها عيناي عليك! وكان علي أن أراك مرة أخرى،ولذا تذرّعت بضغطك العالي،ولم يكن ذلك إلا كذبة،ولكنها كذبة عاشق معذور!
ساد صمت طويل جدّاً،أو أنه بدا كذلك،حتى نطقت وداد أخيراً:
-أنا أرتاح إليك،أرتاح لوجودي إلى جانبك،ولا مانع لدي أن أرتبط بك،فالمرأة تحب الإرتباط برجل يشعرها بالأمان،هذا أثمن ما يمكن ان يقدّمه الرجل لامرأة يحبها! أما عن الحب فأنا لا أستطيع أن أسبر مكنونات قلبي،ومع ذلك سيكون أمامنا وقتٌ كافٍ لنكتشف ذلك،في فترة الخطوبة!
قفز الطبيب من وراء مكتبه،وكأنه يودّ احتضانها وتقبيلها،ولكنه بدلاً من ذلك جلس قبالتها على زاوية المكتب الأخرى وقد انفرجت شفتاه عن ابتسامة واسعة،لم يحاول الإمساك بيديها حتى،ولكنه احتضنها بعينيه،بحميمية تعزّ عن الوصف.
وفكّرت وداد لو أنه احتضن يديها،ربما لأحسّت بصدق مشاعره،ولكن هذا رجل يعرف المحاذير جيداً،وهذه نقطة هي حتماً لصالحها،وربما قريباً بل قريباً جدّاً سيحتضنها هي وليس يديها فقط،وفي أعمق أعماقها شعرت أنها ستكون سعيدة سعادة حقيقية مع هذا الرجل الذي طلع عليها من وراء ظهر الغيب!
.....
تعرف وداد جيّداً أن أمامها هوّة كبيرة،عليها أن تقفز فوقها،هوّة العادات والتقاليد التي تبقّت بعد أن حُلّت إشكالية الدين،وحتى تضمن النّجاة،قرّرت أن تبني جسراً فوق هذه الهوة،جدّها لأمها هو من تبقى من العائلة،الباقون إما توفاهم الله،أو اختاروا الهجرة،أو يعملون في بلدان الخليج العربي.
ذهبت واحتضنت يده وحدّثته برفق،رفع حاجبيه الأشيبين في استنكارٍ عارض:
-وهل سيُسلم هذا الأجنبي؟
-بالطبع ياجدي وعلى يدي!وأنت تعلم أجر من يهدي الله على يديه شخصاً إلى الإسلام!
-أنت تحبينه..أليس كذلك؟
جدّها نبيهٌ طبعاً، ولكنّها نباهة،مقرونة بالرفق والتفهم،لطالما حمل قدميه المتعبتين ليزورهم في القدس،وواظب على ذلك حتى بعد وفاة والدتها،ليطمئن والدها ويشدّ من أزره، ويبقي معه على حبال الود،ربّت على ركبتها مطمئناً :
-سآتي مع المختار وبعض كبراء القرية،فقط حدّدي لنا موعد كتب الكتاب!
سيأتي الدكتور لينقلكم بسيارته، وسيارة إضافية أيضاً؟ للنساء،سنقيم حفلاً صغيراً لأنه سيكون كتب كتاب وزواج أيضاً-
ويعقّب جدّها ببراءة:
-دخلة أيضاً؟
تحمرّ وداد خجلاً، وتهزّ رأسها!هذا هو المصطلح طبعاً،لا بد من تسمية الأشياء بأسمائها،حفظاً للحقوق والكرامة،هذا هو الهدف،فهذا تقنين وليس عيباً.
اليوم اصطحبت وداد توماس إلى المحكمة الشرعية لإعلان إسلامه،يوم مشهود،لم يخل من الدعابة..
وجّه القاضي سؤاله إلى توماس رافعاً عينيه إلى وجهه وناظراً في عينيه مباشرة:
-هل تريد أن تعتنق الإسلام؟
فهم توماس السؤال قبل أن تقوم وداد بالترجمة،وانطلق قائلاً:
-أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أنّ محمداً رسول الله
لم يتمالك القاضي نفسه من الضحك،وابتسمت وداد،وأدار توماس عينيه في وجوههم متعجباً ومتسائلاً عن سبب ضحكهم!
اوضحت له وداد أن الأمور يجب أن تتم بالترتيب!
قبل القاضي أن تقوم وداد بالترجمة،ويبدو أنه يتقن اللغة الإنجليزية،ولذا وفّر عليهم كلفة انتداب مترجم.
أتموا بقية الإجراءات،وأبدى توماس رغبته في تبديل اسمه إلى محمد.
كانوا سعداء باستلام الوثيقة،وكانت وداد تلوّح بها بمرح،وتوماس يبتسم وهو يحتويها بنظراته،وبالكاد يمسك نفسه من أن يحملها بين ذراعيه ويجري بها في شوارع القدس.
.....
مراسم كتب الكتاب،تمت بجدية واقتضاب،في نفس المحكمة وأمام نفس القاضي ،أبرز توماس وثيقة إسلامه وأجاب جدّها على سؤال القاضي عن العصبات:
-أنا الوحيد الموجود من الأولياء،كلهم إما مغتربون أو توفاهم الله.
تمت العملية بيسر وسهولة،وانطلقوا إلى بيت توماس،حيث كانت تنتظر النساء وبعض المدعوات من زميلات توماس ووداد،وما إن رأتهم النسوة حتى لعلعن بالزغاريد،وتولت الزميلات أمر تقديم الحلوى والشراب،وفي حديقة البيت جلس الرجال في جانب والنساء في الجانب المقابل حسب ترتيب وداد،والتي ما لبثت أن دعت النساء للانتقال إلى داخل المنزل،حتى لا يبقين تحت أعين الرجال،وينطلقن في الغناء والطبل والأهازيج دون تحفظ.
تمت الامور بسلاسة ورشّت النساء توماس المندهش بالأرز والزهور وهن خارجات،في مجاملة وداعٍ أخيرة أدخلت السرور إلى قلب توماس الذي وقف حائراً لا يدري كيف يردّ لهنّ هذا الجميل.
تبع الرجال نساءهم،بعد أن أقسموا على توماس أن لا يقلّهم بسيارته وأكدوا له أن العريس يجب أن لا يترك عروسه،وأن لا يقلق بشأنهم فسيتدبرون أمرهم..
خرج الجميع تباعاً وما إن نظر توماس حوله ورأى الحديقة خالية إلا منه ومن وداد،اندفع نحوها دون تردّد واحتضنها دون مقدمات وهو يقول:
-لقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً،جذبها برقّة وقبّلهاوهي مستسلمة تاركة له زمام المبادرة دون تحفظ.
........

بدأت غيوم الحرب تتجمّع في سماء القدس،وتصاعدت المناوشات على خطّ الحدود،الأمر الذي فسّره العسكريون على أنه جسُّ نبض،مما يعني أنّ الحرب قادمة لا محالة.
ومع ذلك لم يطرأ جديد على وتيرة حياتنا أنا وتوماس،
لم تخبُ العاطفة المتأججة بيننا،ولكن انتظمت بإيقاع واحد مسايرةً تيار الحياة،كُنا سعيدين ومتفائلين،ومقبلين على الحياة بحماس،وكأنّ الأيّام ستحمل لنا كُلّ يومٍ جديداً،وكأننا احتفظنا بحميمية الأيام الأولى للزواج لننفقها على مهل،وكان توماس يتباهى بإسلامه الجديد،ويذهب لصلاة الجمعة في المسجد الأقصى،متقبلاً بمرحٍ فضول الناس وتشككهم أحياناً،وأسئلتهم الكثيرة التي يمطرونه بها بلا تحفظ،فيجيب عليها بسعة صدر ودون أيّ تذمّر،واندهش كثيراً لسرعة امتثال الناس لتوجيهات الشيخ الإمام،الذي طلب إليهم برفق ووقار أن لا يثقلوا على أخيهم المسلم،الأمر الذي تلقّى بعده التربيتات المشجّعة من إخوانه المسلمين.
المواظبون على الحضور هم أنفسهم،باستثناءات قليلة من العابرين والضيوف والقادمين خصيصاً من القرى المجاورة،ولذا فقد أصبح وجه توماس مألوفاً وجزءاً من مشهد الحضورُ المواظب،الأمر الذي أسعده كثيراً،وأدخل السرور إلى قلبه حتى أعلن لي:
أتعرفين يا وداد،وضعي الجديد أفضل،لقد كنت غريباً بينكم وأصبحت الآن واحداً منكم.
اندلعت الحرب فجأة بعد أن أغلق ناصر مضائق تيران،وبدا الأمر كما لو أن اليهود قد أعدّوا العدّة طويلاً لهذا اليوم،ويبدو أنهم وضعوا القدس على رأس أولوياتهم،فهاجموا التحصينات الأردنية ملقين بكل ثقلهم ممهدين للاقتحام بقصفّ جوي ومدفعي مكثف،سقط الكثير من الشهداء حتى قيل أن الكتيبة الثانية التي تولت مهمة المواجهة على مداخل القدس في تل الذخيرة والشيخ جرّاح قد أبيدت بكاملها،وانتُدبنا أنا وتوماس للعمل في مستشفى المُطّلع،وشهدنا بأعيننا أعداد الجرحى الكبيرة التي تتوارد بلا توقف.
ولكن ذلك لم يدم سوى يومين اثنين فقط،حيث صدرت الأوامر للجيش الأردني بالانسحاب و اقتحم الجيش الإسرائيلي المدينة،وظهرت صور الجنرال موشى دايان وزير الدفاع الإسرائيلي ضاحكاً في شوارع القدس،حيث كان اليهود حريصين على إيصال هذه الصورة عبر التلفزيون والصحف،من قبيل الإستعراض ولهدم المعنوية العربية،وللسبب الأهم أنهم استخفتهم الفرحة بهذا النصر السريع والخاطف،وبدأت الدعاية الإسرائيلية عبر الإذاعة والصحف والتلفزيون تتشدّق بمقلاع داوود وهزيمته لجاليوت.
وأخيراً طرقوا بابنا،ويبدو أنهم كان لديهم قوائم بالمنظمات الأجنبية العاملة في القدس وأسماء أعضائها،وعرضوا علينا المساعدة بلطف وبعنجهية لم يحسنوا إخفائها خلف ستار التهذيب الرقيق.
توماس عبّر عن عدم ارتياحه وقال أن المغادرة أصبحت ضرورة الآن،ما رأيك يا وداد؟
-توماس! أنت تعرف تعلقي بهذه المدينة ولكني سأقول لك شيئاً،المرأة المسلمة ملزمة باتباع زوجها!حيث يكون تكون!
-وداد! لا أريد أن ألزمك بشيء،إلا إذا كان خياراً تختارينه بأريحية وبلا إكراه أو شعور بالواجب تجاهي كزوج.
-إسمع توماس! خيارك هو خياري،وما يريحني كزوجة،هو أن أكون إلى جانبك في الوقفة !أو خلفك بخطوة في القرار كما علّمنا القرآن!
في هذه الحالة أنا أدين لك بمزيد من الإيضاح،هؤلاء القوم قتلوا عمي،الكونت برنادوت هل سمعت به؟
لا يوجد فلسطيني أو عربي لا يعرفه،إنه تاريخنا الحي في الذاكرة،بالنسبة لنا فهو بطل،في صفٍّ واحد مع أبطالنا وشهداءنا،وبمعنى آخر واحد منا،بكل ما تحمله الكلمة من معنى!
ولكني لم أعرف حتى اللحظة أنني متزوجة من كونت، هل أنت كونت فعلاً رغم أني لا أعرف ما يعنيه هذا اللقب بالضبط.
تنفرج أسارير توماس،وتغيم في عينيه نظرة ويشرد فكره إلى بعيد،يفرك يديه محاولاً استجماع شتات أفكاره:
-لطالما زهدتُ في الألقاب،تخليت عن اللقب،أو لنقل أني وضعته جانباً، أردت أن أكون حُرّاً،الحرّية أثمن من اللقب،أردت ان أمارس مهنتي كطبيب،طبيب فقط،أن أشعر بإنسانيتي وعاديتي وأني أقدّم شيئاً بمعزلٍ عن إملاءات اللقب،وشكليات السلوك،الحفاظ على المظاهر عبء ثقيل يفقدك عفويتك،ويفقد الآخرين عفويتهم تجاهك...
أنا بدوري كنت أستجمع بأفكاري أثناء استرساله في الحديث،انتهزت توقفه لبرهة،وقلت مقاطعة:
توماس ! أعرف الوقع المؤلم للهزيمة! الاحتلال ليس بالشيء السهل،سيلقي بظله الثقيل على كل تفاصيل حياتنا اليومية،سنفقد الكثير من حريتنا ربما،ولكننا نستطيع ان نصمد،دعنا نجرّب توماس،الصمود بطولة،وسنتعلّم الكثير من الدروس،التي ربما سنحتاجها في المعركة القادمة،المعركة لم تنته بعد توماس،هذه جولة فقط،أما المعركة النهائية فلم يأت موعدها بعد،وربما تكون هذه الهزيمة هي فقط الحطب الذي سيشعل وقودها!
يرفع حاجبيه عالياً حتى يتقطّب جبينه وهو يبذل جهداً في استيعاب ما أقول..
وأخيراً يهُزُّ رأسه مُسلّماً بوجهة نظري:
دعينا نحاول إذن
يقول مؤمنًاً على كلامي.
.....
القدس كقارب الحب لا يتسع إلا لاثنين،العاشق والمعشوق،ولذا فقد غدت مزدحمة وضيقة بهذا الإحتلال البغيض الذي حملته غُرّة حزيران ذات صيف عام ١٩٦٧ حزير،بدا الإصطدام حتميّاً منذ اللحظة الأولى،فما تغلي به الصدور تترجمه الأفعال وقائع على الأرض،وفي أقل من سنتين،أقدم اليهود على حرق المسجد الأقصى،واستهدفوا بالذات منبر صلاح الدين،النوايا واضحة ومكشوفة،هذا العمل القبيح أغضب توماس ممثل منظمة الصحة العالمية والحانق أصلاً على اليهود حيث أشيع أنه يمت بصلة قرابة للكونت برنادوت الذي اغتاله الصهاينة عشية النكبة الأولى عام ١٩٤٨،ولم يستطع ضبط غضبه،فاستوقف ضابطاً إسرائيلياً وجأر في وجهه:
ألا يصدر عنكم أي عمل طيب؟
اندهش الضابط،فالأوروبيون بالنسبة لهم حليف طبيعي،فكيف يصدر مثل هذا القول عن رجل أوروبي!
طلب الضابط هويته،ولم تمض أيام حتى استدعاه الحاكم العسكري ليبلغه أنه شخص غير مرغوب فيه،وأن عليه الرحيل،ويبدو أنهم نبشوا في جذوره وعرفوا من هو بالضبط!
......
أن تنحدر من على درجات المسجد الأقصى عبر باب خان الزيت،فأنت تتصفّح التاريخ،تعبر من تحت أقواسه،وتشتم روائحه العابقة،ثم تستكمله بالحكاية، المتناقلةعلى الألسنة،العابرة للأجيال في فضاء حر بعيداً خارج جدران غرف الصف،ولكن حين يجثم الإحتلال فأنت تبدأ من النهاية،لتستعيد تسلسل الأحداث،وصولاً إلى هذه النهاية الصادمة،تلقينا ضربة مهينة،ولكنها ليست مميتة،وها قد بدأت العمليات العسكرية الفدائية،وهي على الأقل تقلق راحتهم وتحرمهم من نوم ليلهم الطويل،والتمتع المجاني بالغنيمة المسروقة،وتمريغ جنوبهم النجسة في أنحائها الوثيرة، وفي هذا ما يشفي بعض الغليل،وبينما يواصل الناس حياتهم اليومية ومعاشهم،يقاطعها آخرون بالعمليات العسكرية،صانعين بامتزاجهما ذلك الإيقاع المتوتر،الذي يعلي الإحساس بالكرامة بالنسبة لنا نحن الشعب الضحية.
لا تزال عجلة التاريخ تدور،ولكن الزمن تطاول، وحتى الشرارة الأولى أطفئت،وأدخلنا التاريخ في تيهٍ طويل،حتى كدت أجأر إلى الله ،أنا الذي عايشت التفاصيل الحميمة،وأتمثّل قول المسيح:
إلهي،إلهي،لماذا تركتني!
ولكن عين الله لا تغفل،ولكن يبدو أن علينا أن نصبر قليلاً،حتى يحين الوعد،فالعثرات التي ألقيت في طريقنا،لم تكن إلا استمهالاً لنا حتى تحين الساعة،ونوافي الربّ في موعده الذي قطعه سلفاً:ليدخلن المسجد كما دخلوه أول مرة،والضمير عائد علينا نحن بالطبع،فنحن نعرف جيداً من أي باب دخل عمر !
...
حين قررنا مغادرة القدس بشكل نهائي أنا وزوجي الطبيب السويدي الذي يعمل لدى منظمة الصحة العالمية ، وبعد حوار قصير،لملمنا أمتعتنا وحجزنا تذاكرنا على عجل،من مطار اللد إلى مطار هيثرو،كانت رحلة صيفية هادئة وممتعة،وبعد ساعات في قاعة الترانزيت قضيناها أنا وتوماس بين الأكل والشرب والتسوق، توجهنا أخيراً إلى طائرة الخطوط السويدية متجهين إلى ستوكهلم،لم أقدر كم استغرقت الرحلة على وجه الدقة،ولم أنظر إلى ساعتي حتى لأنها ستغشني مع فرق التوقيت والقبطان يعلن بالتوقيت المحلي فتختلط علي الامور وأوفر على ذهني عناء الحسبة، فقد كنت فقط مستغرقة في أفكاري ومملوءة حماسة وتشوفاً،أخيراً سارى بلاد زوجي الحبيب الذي جمعتني به يد القدر. الذي غيّر دينه لأجلي،ونزولاً على رغبتني،فجعلني أكنّ له كل ما يسعني من الحب والاحترام.
وحين هبطنا من على سلم الطائرة لنستقلّ الحافلة إلى مبنى المطار،وما إن وطئت قدماي الأرض،ت حتى توقفت وأدرت رأسي فيما حولي:
طقس جميل وسماء زرقاء واسعة تبعث على البهجة،بلادكم جميلة يا عزيزي!
انتظري حتى تري البقية،لا أدري لماذا يذهب ناسنا للسياحة إلى بلادٍ أخرى؟
-إنه حب التغيير يا عزيزي ،الإلفة تخدّر الإحساس،وتفقد الجدّة بريقها!
يهزّ توماس راسه موافقاً:
-هذا حقيقي! أوافقك الرأي تماماًّ!
لم يكن أحد في استقبالنا فاستأجرنا سيارة أجرى،سارت بنا طويلاً في شوارع هادئة ،قام توماس بدوره في توجيه السائق وتوقفنا أخيراً أمام قصر فخم، فيما يبدو أنها أحد الضواحي الراقية!
ستوكهولم،فضاء فسيح،فراش أخضر،ومبانٍ قرميدية مشربة بحمرة غامقة جميلة،أقمنا في قصر العائلة الموروث،حيث تقيم فيه أختا توماس غير المتزوجتين،غروترد ومارغريت،غروترد أكثر فضولية وانفتاحاً وربما عدوانية،تتعمد أن تخوض معي في نقاشات،حول القيم الإسلامية،ووضع المرأة في الإسلام،وأقطع عليها الطريق بصرامة:
باختصار غروترد،النساء عندنا لا يعرضن أعضاءهن الداخلبة على مقاعد الحدائق العامة!ولست أرى في ذلك أية فصيلة!
يضحك توماس:
-هذا صحيح! نحن نبالغ في الاستعراض،فنسيء حتى للذوق العام!ماالذي ستقوله راهبة مسيحية وهي تستعرض هذا المشهد،نحن مسيحيون لا نحترم مسيحيتنا!سأقول لك شيئاً غروترد! نخن وثنيون بأرواب مسيحية! الإرث الوثني هو الغالب عندنا!
تعلق غروترد قبل أن تنهض مغادرة وسيجارتها بالمبسم الذهبي تتوهج بين أصابعها الدقيقة:
-ربما كان هذا صحيحاً،أما فيما يخص العلاقة بالجسد فقد سألت يوماً راهبة بدافع الفضول فأجابتني أن الله لا يخجل من رؤية ما خلق!
لماذا إذن طلب من آدم وحواء أن يسترا عوراتهما العارية!يردّ توماس مُحتدّاً:
ولماذا عاقبهما على الخطيئة إذن ؟هذا نسفٌ لكل ما هو مسيحي!
وترد غروترد وهي توسع خطاها مغادرة:
-علينا أن نعيش روح العصر!
يضرب توماس كفّاً بكف:وما هي روح العصر تلك التي ألبستموها إياه؟إنها حيلة للتحلل والفجور،عذر لكل من يريد أن يبيح الشهوات!
كانت غروترد قد أصبحت خارج المشهد، وعلّقتُ أنا بعفوية على كلامه:
-توماس! لقد ولدت بروحٍ طاهرة!
يبتسم توماس في رضا،ويسود صمت ممتع وودود.
...
اخترت العمل مع توماس في العيادة حتى لا أبقى وحيدة في القصر،ولأنني أردت الإحتكاك بالناس والتعرف إلى هذا المجتمع بكافة طبقاته،حتى لا أحكم عليه من خلال غروترد ومارغريت!
لم تكن اللغة عائقاً فاللغة الإنجليزية هي لغة التعامل اليومي هنا،والجميع يتكلمها بطلاقة.
كانت الشتاءات والأصياف الطويلة غريبة بالنسبة إلي،وكنا نقطعها أحياناً بالذهاب إلى الكوخ الريفي على مشارف الغابة،وأمتعني جداً منظر الوعول بعيونها الواسعة المندهشة،وقلت لتوم أن هذه العيون قد أثارت خيال شعرائنا،حتى جعلوها رمزاً للجمال والبراءة،فعيون الغزلان ترتسم فيها تلك الدهشة الطفولية ذاتها سواءً كانت غزلان صحراء أو قطب!
أعجبت الفكرة توماس،وعلًق:
-شيء يجعلك تتعجب من خلق الله،الجمال هو الجمال،أما الضرورة فلها أحكام،الجلد أكثر سماكة،الشعر أكثف الدهن أكثر،ولكن الجمال ينجو من حكم الضرورة ،ويرتفع فوقها متسامياً بجلال! ألا ترين ذلك؟
وأهز رأسي موافقة:
لقد نفذت إلى قلب الفكرة! أبدعت يا عزيزي!
......
حين تصبح المرأة فجأةً عصبية،وتدافع عن زوجها أو حبيبها بنزق،وتحاول الحصول على المال بأي وسيلة لتزوّده به،فاعلم أنها اختارت الرجل الخطأ،وأنها ضحية لتحايل كبير، من رجل استغلّ نقاط ضعفها تجاهه،أو ربما استيئاسها للاحتفاظ به.
وهذا ما حصل مع مارغريت،أخت زوجي الهادئة الطبع،الحالمة والقليلة الكلام، والتي انقلبت فجأة إلى نمرة حادة الطبع وعدوانية،وهي تحاول دفع زوجي للموافقة على بيع عقارٍ يملكونه هي وزوجي وأختها الأخرى هنا في استوكهلم عاصمة دولة السويد،ولكن ستيفن احتفظ بهدوئه وأجابها دون انفعال:
لا أستطيع أن ألاحق نزواتك،وأن أقدم التنازلات هكذا مجاناً وإلا انتهينا كلنا إلى الإفلاس عما قريب،عدا عن أنني أعرف ما الذي تنوين أن تفعليه بالمال،ستهرولين لتصبيه في حجر العشيق الفاشل ليبدّده على نزواته ثم يعود للطلب من جديد!
تزمّ مارغريت شفتيها في حنق وتجيب بحدّة من بين شفتيها المزمومتين:
أريد أن أستمتع بحياتي مع من أحب،الحياة قصيرة،إلى متى سأنتظر؟ها أنت تزوجت بمسلمة وغيّرتَ دينك،وتعيش كما تهوى! ولم يقل لك أحد شيئاً!
أنا أعيش من عملي،أعمل بجهد ولا أحصل على شيء مجاناً،لقد تنازلت لك ولأختك عن ريع العقار الذي تريدين أن تبيعيه،ولا أشارككن حتى فوائد الوديعة التي ورثناها،
الحياة قصيرة صحيح كما ترينها الآن لأنك متسرّعة لتنهلي من معين المتعة التي سنحت لك مع هذا المشرد!
ولكن حين تفلسين تماماً سيهجرك وتتحول الحياة إلى لحظات طويلة جدّاً وثقيلة وستتمنين لو يعجّل الزمن خطاه قليلاً لتنتهي حياتك بسرعة،والمثل السويدي يقول: لا تجاري الأحمق وهو يجري وراء حماقاته.
وتجيب مارغريت بنبرة محبطة،معلنة يأسها من محاولة إقناع أخيها:
هذا مثل إنجليزي وليس سويدياً! لماذا ينسب الناس إلى ذواتهم كلّ فضيلة؟!
..
هنا في السويد يتحدثون كثيراً عن الحُب،ولكنهم يقيمون العلاقات بمعزلٍ عنه تماماً،وكأنهم ينتهزون فرص العيش،في انتظار ذلك الغائب الذي ربما لن يحضر أبداً،ولهم قوانين غريبة جدّاً فقد خفّضوا السن القانونية التي يمكن الفرد بعدها من إقامة علاقة جنسية او احتساء الكحول إلى خمسة عشر عاماً،كما سمحوا بها داخل المدارس بين المعلمين والطلبة وفي داخل السجون بين المساجين والسجانين.
ولم تعد الأسرة هي وحدة النظام الإجتماعي وحلّ محلها التعايش،والدولة دولة رفاه تتكفل بمواطنيها وتضمن لهم سبل العيش،ومع ذلك فنسبة الانتحار أعلى منها في أي بلدٍ أوروبي آخر.
مصدر الاعتزاز هنا هو التراث وليس التاريخ،فليس في تاريخهم الحديث شيء مميز،إلا أن هناك قصصاً تروى عن مقاومتهم للاحتلال النازي وعن بطولات وأبطال تلك الأيام،ومع ذلك فليس هناك أسماء او رموز تاريخية خالدة،تدرّس للطلبة في المدارس،كما هو الحال عندنا مثلاً أو حتى في إيرلندا او فرنسا او اي دولة اوروبية اخرى،ولو أردت أن أصور حالتهم الحضارية لقلت أنهم انتقلوا فجأة من المشاعية البدائية التي تغنى بها ماركس إلى مجتمع التقنية الحديثة بخطوة واحدة،فهناك كمٌّ هائل من التصنيع الثقيل الذي أتقنوا منتجاته تماما وحصلوا على حُصة طيبة في السوق العالمي،وهذا هو مصدر الرخاء المعيشي.
قضيتنا الفلسطينية لا تحظى بكبير اهتمام هنا،خلافاً لإيرلندا وألمانيا وحتى اليابان الذي أصبحت فيهم كتائب الجيش الأحمر شريكاً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في العمليات العسكرية.
وكأن هناك شيئاً غامضاً مشتركاً بيننا وبين الإيرلنديين والألمان هو مفقود هنا،ولا تاريخ له ولا جذور.
لقد اكتشفت هنا كذبة الحضارة الأوروبية المشتركة،فأوروبا ليست نسيجاً واحداً وهذا هو الدليل الذي تقدمه لي حياتي هنا في بلد زوجي: السويد.
ولكن على الجانب الآخر فالتعصب المسيحي غير موجود هنا وعلى النقيض من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا لا توجد أحزاب مسيحية يمينية،وهذا يفتح المجال لتحل القيم الإنسانية
محل التعصب الديني والعنصري في النظر إلى قضايا الآخرين،ومن هنا لم يتوان الكونت برنادوت في اتخاذ قرار لصالح الفلسطينيين انطلاقا.ً من مظلوميتهم وضد الصهاينة باعتبارهم معتدين ودفع حياته ثمناً لذلك،وسحب التاريخ أقدامه ليجيء بقريبه الذي هو زوجي إلى أرض فلسطين ليسير على خطى قريبه الكونت ويرفع صوته في وجه اليهود عقب احتلالهم لباقي فلسطين عام ١٩٦٧،وبعد زواجي منه بقليل،ليتم استبعادي واستبعاده بقرار من الحاكم العسكري الإسرائيلي وطردنا من الجنة التي يقول ستيفن أنه لا بُدّ أن نعود إليها.

باستدارة قدر،تم نقلنا أنا وزوجي الطبيب إلى مكتب منظمة الصحة العالمية في طرابلس ليبيا،تنفس زوجي الصعداء،تخلص بترتيبات القدر من الصداع الذي سببته له أخواته بمطالبتهن بالتنازل لهن عن الإرث،كونه طبيب كبير،وهن لا مصدر دخل لهن،والحقيقة أن زوجي كان قد تنازل لهن عن إيجار العقارين المؤجرين،وقال لي إن إلحاحهن صادر عن نية مُبيّتة لبيع العقار، واستخدامه كطعم لاصطياد أزواج،بصفتهن عوانس ثريات!
ورغم ذلك كان زوجي متوجساً من هذه النقلة،رغم حصانته الأممية،ذلك أن سمعة العقيد القذافي لا توحي بالطمأنينة،ولكن ما إن استقرّ بنا الحال،حتى راق له المقام،أعجبه المناخ والبحر وهوأصلاً من عشاق المدن الساحلية،وكان يعلّق متعجباً: الناس هنا متشابهون جدّاً: الوجوه،اللبس، مستوى الحياة، لا تفاوت طبقي،يبدو أن الكولونيل اشتراكي حقيقي.
ثم جاء يوم نقض هذا الإنطباع بحديث مع صحفي فرنسي جاء لزيارتتا بصحبة صديقه الطبيب زميل زوجي في المنظمة ودار نقاش،ختمه الصحفي بقوله:
القذافي ليس اشتراكياً،إنه مهووس وحسب،وسبب هذه المساواة،إنه يريد أن يظل هو الشخص الوحيد المتميز،والأضواء كلها فوق رأسه،فلا رجل أعمال كبير،ولا ثري كبير،ولا حتى رياضي كبير أو موسيقي كبير،لا يحق لأحد ان يلمع اسمه لينافس اسم القذافي،عندكم حكاية عربية أظنها من ألف ليلة وليلة،الملك ووزيره يزوران جزيرة كل شيء فيها بدينار،كيلو الخضار بدينار،كيلو اللحم بدينار ،حتى كيلو الذهب بدينار،فيبدي الملك إعجابه بهذه المساواة ولكن الوزير الحكيم ينبهه إلى أن هذه السياسة هي سياسة حاكم أحمق، والأحمق لا يؤمن جانبه ،ويحثه على مغادرة الجزيرة،قبل أن يجدا نفسيهما في موقف غير محسوب،ولكن فضول الملك يدفعه إلى البقاء،ليطلع أكثر على أمور هذه الجزيرة العجيبة،ثم ينادي منادٍ يدعو الناس للحضور إلى الساحة العامة ليشهدوا إعدام رجل خالف القانون،بما يقتضي الحكم عليه بالإعدام،
يقف الملك ووزيره في الصف الأول ليشهدا ما يجري عن قرب،فيُحضر الرجل ويُوقف على المنصة ولكن الحبل لا يصل إلى رقبته فالحبل قصير جدّاً،وحينئذ يصدر الملك أوامره: ابحثوا بين الجموع عن رجل طويل،ويبدأ الجنود بالتقاط الرجال من بين الجموع،ولكن الحبل لا يصل إلى العنق تماماً بالطريقة التي يريدها الحاكم،وحينئذ ينتبه أحد الحراس إلى الملك ويبدأ في تامل قامته: ويعلن للحاكم: يبدو أننا عثرنا على الرجل المناسب يا سيدي.
لم تمض أيام على مغادرة ذلك الصحفي صاحب حس الدعابة،حتى جاء القذافي نفسه لزيارة موقع المنظمة،وأبدى كثيراً من التواضع وصافحهم فرداً فرداً:أطباء وممرضين وحتى عمال نظافة،وتوقف عند زوجي يتأمله من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ليفاجأه بالعرض:
هل تنتقل للعمل عندي؟
ويضيف ضاحكاً:سأعطيك أضعاف ما تحصل عليه هنا!
أكثر مما تتوقع، أو حتى تحلم به!
وحينئذ استعاد زوجي تحذير الصحفي الفرنسي له والحكاية التي رواها له،وقال وهو يحاول جاهداً إخفاء ما اعتراه من اضطراب مفاجيء:
سأتشرف بذلك يا سيدي،ولكن في هذه الحالة علي أن أعود إلى بلدي ،أياماً معدودات لأصفي بعض الأعمال العالقة لأتفرغ لخدمتكم تماماً!
يبتسم العقيد وقد أرضى ذلك غروره، ويصافحه بعظمة شادّاً على يده بقوة:
سأكون بانتظارك إذن!
نحزمُ أنا وزوجي أمتعتنا ونغادر على عجل،وعلى متن الطائرة يعلن زوجي في ارتياح:
الحمد لله الذي لم يكن مصيري مصير ذلك الملك!
شكراً لله ولذلك الصحفي.
لم تمض أشهر حتى بدأت الثورة في ليبيا،وتسمّر زوجي أمام شاشة التلفزيون وهو يتتبع مصير القذافي خطوة خطوة،حتى اقتحم الثوار باب العزيزية ودلقوا كنوز الزعيم الذهبية وكأنها كومة زبالة،وضحك زوجي من أعماق قلبه وهو يرى ذلك الفتى الأسمر يرفع تاج الإمبراطور الذهبي: ملك ملوك إفريقيا،ويضعه حول جبينه وهو ينفجر ضاحكاً !ويهز زوجي رأسه متأسياً على عبر التاريخ ، ليعلق بقوله:
غرور السلطة لن يقود إلا إلى السقوط،من نابليون إلى لويس السادس عشر إلى هتلر وصولاً للقذافي:
وما تسمّى أحد بملك الملوك إلا أذله الله وصدق رسول الله،وقد كان في شاه إيران عبرة لمن يريد أن يتذكر أو يريد شكورا!
....
مصر زمن السادات،إلى حيث تم نقل زوجي أخيراً بناءً على طلبه،قال إنه يريد أن يشم عبق التاريخ،أن يُحسّ به على جلده،وأن يشهد ولادته من جديد،من حيث انتهى.
بالفعل، كان هناك مخاض صاخبٌ في مصر،وكأنها سفينة اشتعلت توربيناتها فجأة،وتتهيّأ للإنطلاق.
وفي جاردن ستي،الحي الوثير العريق،أقمنا عدداً من العلاقات،موظفون كبار متقاعدون،ضباط على رأس عملهم وفضلوا البقاء في بيوت والديهم ولم ينتقلوا للأحياء الجديدة الأنيقة.
أول مناسبة دعينا إليها كانت حفل خطوبة،نساء عاريات الأكتاف وبمكياج صارخ،وأخريات بتنانير قصيرة،كلهن مسلمات باستثناء قلة قليلة ممن تتدلى الصلبان على صدورهن ،في تعمد لتأكيد هويتهن،وهذه نزعة شائعة في مصر،الكل يريد أن يؤكد هويته الاجتماعية،الدينية،أو الطبقية،نزعة رسختها أنظمة الحكم المتعاقبة،والتي خصصت لكل فئة اجتماعية تقاليد ومظاهر،وحتى نوع لباس،وأحياء يقيمون بها،ولكن العهد الناصري أبرز طبقة سياسية جديدة،وبهتت تلك الخطوط والفواصل،ولكنها ظلت حية بطريقة أو بأخرى بسبب تشبث الجيل القديم بها،عبد الناصر كان ذكياً وأراد محو ثقافة الطربوش،الإرث الملكي الذي اجتهد في محو آثاره،بدءاً بالباشوية والإقطاع،فتعاظمت جماهيريته بين الفلاحين الذين حصلوا على ملكية أرض وحصل أولادهم على تعليم مجاني يؤهلهم لتسلق السُلّم الإحتماعي،وحسب تقدير زوجي لم يكن عداء ناصر مع الإخوان المسلمين إلا لأنهم نافسوه على هذه الجماهيرية،وليس بسبب سعيهم لإقامة حكم إسلامي أو استعادة الخلافة،ولكن بطانته ضخموا له هذا الخطر وأغروه بتشديد القبضة حتى أوصلوا الامور إلى أحكام الإعدام وسفك الدماء،ولكن يبقى هناك شيء غامض هو تجرد شخصية ناصر من الحس الديني والعاطفة الدينية،فالمصري حتى لو تردى في حضيض المعصية،لا يقطع صلته بالدين أبداً،لا بل يحرص أشدّ الحرص على ان تبقى هذه الصلة قائمة.
السادات حاول إدارة العجلة بالعكس واستنساخ النموذج الغربي ورفع الحظر عن التنظيمات الإسلامية السياسية،
ولكنه فشل فشلاً ذريعاً،والسبب إسرائيل طبعاً،والتي بسط لها يد الود،وحتى نصره على عليها لم يشفع له،لا بل انقلب ضدّه،لأن الحس الشعبي اعتقد أنه هدر ذلك النصر وقدّمه لإسرا ئيل هدية عل طبق من القش!
وباستثناء البرجوازية الطفيلية من الموظفين و بطانة الضباط ،خاصمه المثقفون واليساريون والمتدينون،ونفذ صغار الضباط هجمات فردية ضد تجمعات للجيش الإسرائيلي،ولكن الرسالة لم تصل للسادات الذي أصم أذنيه في عنجهية غبية،لم تر في الاحتجاجات الشعبية،إلا شغباً وغوغائية يحركها الطامحون إلى كرسي السلطة من الحاسدين والغيورين من شخصه كما اعتقد.
كنا نستطلع آراء الناس من محيطنا القريب،كانت أسماء التي تتردّد علي كثيراً وتبوح لي بأسرارها الشخصية،مطمأنة إلى أن زوجي سويدي وأننا بالطبع متسامحون مع ما يعتبره المجتمع المصري عيباً وعاراً،حتى أنها صارحتني أنها تمارس الجنس الخارجي مع صديقها،وكانت صدمتها حقيقية حين أخبرتها أن زوجي اعتنق الإسلام وأن هذه خطيئة يجب أن تتوقف عنها وتستغفر،فاتسعت عيناها دهشة وارتفع حاجباها بأقصى ما يمكنهما وجأرت في وجهي:ولكنك لست محجبة!
هذا الإرتباط الشرطي بين الدين وبين غطاء الرأس والذي رسخه خطاب شيوخ الدين اللحوحين في الأذهان،كان علامة فارقة ،في الشرخ الاجتماعي الحاصل بين المتدينين واللامتدينين في المجتمع المصري،وخاصة مع صعود السلفية الدينية التي شجعها السادات،ليوقفها سدّاً في وجه خصمه السياسي اللدود:الإخوان المسلمين،ويحد من انتشارهم خاصة مع غزله حبال الود مع العربية السعودية،ولعلها من عبر التاريخ ومفارقاته الحادة أن الزعيمين الصديقين كليهما :فيصل والسادات لقيا حتفيهما اغتيالاً،وتشاركا المصير نفسه ودفن مشروعيهما معهما!
حزنت كثيراً على مصير أسماء التي عرفتُ أنها جلبت لوالديها العار وحملت من صديقها،نميمة حملتها لي الجارات بكثير من التشفي،ولكني ارتحت إلى أنني اولاً قدّمت لها النصيحة وثانياً لأن الأمر انتهى في المحاكم ولم يصل إلى حد القتل وسفك الدماء،وعلى حد تعبير أحد الجارات : التي صرحت ضاحكة:الحمد لله أننا في جاردن سيتي وليس في الصعيد،وأردفت أن زوجها أسرّ لها أن الرئيس شخصياً وحرصاً منه على سيادة وأولوية الأخلاق في المجتمع المصري أوعز إلى القضاة شخصياً بتحميل الشاب المسؤولية وإجباره على الزواج من الفتاة الضحية،حتى أنه وجّه بحزم: ومن يعارض من أهله يسجن ولا تعطوا المحامين فرصة للدفاع عنه!
الرئيس السادات لا يوفر فرصة للالتقاء بأعضاء المنظمات الدولية،وهو يقابلهم بوجه بشوش حرصاً على صورته في عين المجتمع الدولي،ويجمع المعلومات عن الأشخاص من قبل جهاز مخابراته ويعرضون عليه صورهم وإ يجازاً عن حياتهم ،وهكذا حين جاء الدور على منظمة الصحة وكان زوجي من ضمن المستقبلين وفي خلال الجلسة نظر إليه السادات مباشرة وفاجأه بالسؤال دون مقدمات:
أنت ايها الكونت: ما رأي سعادتك بمعاهدة السلام التي عقدتها أنا بمبادرةشخصية مني٠ مع إسرائيل!؟
لم يفاجأ زوجي بتلك النبرة المتعالية ، ولكنه أجاب بهدوء:
أصدقك القول يا سيادة الرئيس،هؤلاء القوم من طبيعتهم الغدر،وأنا لا أثق بهم لقد اغتالوا عمي الكونت برنادوت فقط لأنه تعاطف مع أصحاب الحق وكما قال رسولكم الكريم: هؤلاء قوم بهت اي أنهم يغمطون الحق ولا يقرون به.
ظلت ملامح الرئيس مبهمة وكأنها مقدودة من صخر،ولم يعلق على كلام زوجي بشيء ولكنه صافحه بحرارة قبل أن يغادر وودعه بابتسامة واسعة تنم عن الإحترام والرضا،مما يعني أن إقامتنا ستطول هنا لنشهد على ما سيأتي به الغيب في هذا البلد العجيب الذي يسمونه بأم الدنيا.
.....
النظرة التي شيعني بها الرئيس السادات في آخر لقاءنا معه،تركت لدي انطباعاً بأن كلماتي مست وتراً في أعماقه عندما حذرته من غدر اليهود بعد ان سألني عن رأيي في اتفاقية السلام وعن زيارته للبرلمان الإسرائيلي.
وبالفعل فلم تمض أيام قليلة حنى تمت دعوتي للقائه.
انفرد بي في غرفة خاصة يبدو أنها معزولة وآمنة من التسجيل،ويبدو أنه خصصها للقاءات الأحادية،فيها مقعدان وثيران متقالبلان تفصلهما طاولة وسط،ومكتب صغير وثلاجة صغيرة،وحتى موقدكحولي صغير وعدّة لغلي القهوة.
بادرني الرئيس بالسؤال فيما إذا كان ما قلته من قبيل الضغينة لأني من اقارب الكونت برنادوت الذي اغتاله اليهود عام ١٩٤٨.
أطلقت ضحكة هادئة واثقة قبل أن أشرع في الإجابة:
وما الفرق سيادة الرئيس؟االإنسان يقيم من خلال أعماله،وهذا ينطبق على الدول أيضاً،أنت أيضاً لديك شكوكك!
أصغى إلي بإمعان وهو ينفث دخان غليونه،فلم يكن الرئيس يحتسي الخمر،ولا أدري أي نخب شربه مع الأمريكان والإسرائيليين في حفل التوقيع!
انتقلنا بعدها إلى صالون الإستقبال،وحضر نائبه حسني مبارك ليشاركنا الجلسة،عيناه الجائعتان ذكرتاني بوصف قيصر لبروتس،على أن ملامح وجهه لا تشي بكبير ذكاء،وخلافاً لما ظنه القيصر من أن الرجال الأعمق تفكيراً هم الرجال الأشد خطراً،اعتقدت أن الرجال الأكثر سذاجة وسطحية هم الرجال الأكثر خطورة،لأنه يسهل تسييرهم، وتذكرت المبدأ الإستخباراتي المعروف بأن تجند الرجال الأضيق أفقاً،وفي الحقيقة كنت مندهشاً من نفسي،لماذا تساورني مثل هذه الأفكار وتلح علي لدرجة أن أتساءل في داخلي:هل يمكن أن يعاد المشهد التاريخي:اغتيال القيصر،بتحريف قليل،ونظرت إلى وجه مبارك وخرجت بانطباع أنه أكثر غباء وجبناً من ان يقدم على خطوة كبرى كهذي.
ولكني عدت للتفكير مرة أخرى:لماذا لا يكون طرفاً فيها،حيث أن موقعه يؤهله لتسهيل المهمة!
ولكن بأي دافع سيقدم على تنفيذ هذه الجريمة،هل بالدافع الوطني لإيقاف مشروع السلام،أم الشخصي ليقفز إلى كرسي الرئاسة؟
لم يكن مبارك مرتاحاً لوجودي ولا لاقتحامي المشهد الرئاسي من خلال علاقة مباشرة بالرئيس،كان بالكاد يكبت تململه،ويفرك يديه في ضيق يحاول إخفاءه بين الفينة والفينة!
وإخيراً استأذنت بالمغادرة وأذن لي الرئيس واختلست نظرة إلى وجه مبارك لأرى هل بدا عليه الإرتياح،ولكن ملامحه كانت أكثر جموداً من أن تقرأ فيها شيئاً كهذا أو أي شيء آخر!
هذه المرة الثانية التي يدعوني فيها الرئيس السادات لزيارته في القصر الجمهوري،وكان اللقاء الاول قد تضمن تحذيري له من غدر اليهود وأن لا يسير في الشوط إلى آخره معهم إلا بعد التثبت من كل خطوة،وشعرت أن هذا التحذير ظل يحيك في نفسه وأيقظ فيها هواجس خفية ظل يتجاهلها،لأن أحداً ممن حوله لم يطلق في أذنه جرس الإنذار،حذراً وتهيباً،أو ربما مكراً ودهاءّ،ولعلهم قالوا بينهم وبين أنفسهم،دعه يقع في شر أعماله،او يرسم نهايته بنفسه،وربما كانت بواعث هذه الضغينة ضدّه أنه صغّرهم،وانفرد بالمشهد بنفسه،وربما كان يطمح أن يسجله التاريخ رجلاً عظيماً،وكان حريصاً على تقمص مظاهر هذه العظمة،وبالفعل لقد نجح في ذلك ولكن على المستوى الداخلي فقط،بالرغم من الأصوات المتحدية وهياج الشارع،والفضل يرجع لنصر أكتوبر بالطبع والذي أطلق مزامير الحفاوة عبر الإعلام وضخّم صورة السادات بالفعل كبطلٍ للعبور كما سموه.
تضمنت الدعوة هذه المرة زوجتي،وظاهر الامر أنه يريد لقاءً عائلياً،ولكن نواياه الحقيقية كانت غير ذلك،فقد أرادني أن أستمع لوجهة نظر زوجته جيهان،والتي طالما أشار إليها ،
-بالسيدة الأولى،ولم أشك للحظة واحدة في مدى تأثيرها عليه.
كانت جلسة مشتركة،وجلست النساء قبالة الرجال بمن فيهم السيدة سوزان مبارك زوجة نائبه في ذلك الحين.
ويبدو أن الرئيس قد أوعز إلى جيهان كيف تدير دفة الحديث،وسرعان ما وجهتها إلى عملية السلام وقالت مفتتحة حديثها بالإشادة بزوجها متحدّثة عنه كطرف ثالث وواصفة إياه بالرئيس التاريخي!
لقد قام الرئيس بعمل عظيم،لم يكن الإسرائيليون أنفسهم ليقدموا عليه لو لم يأخذ الرئيس زمام المبادرة...
وتضيف بعد وقفة قصيرة:
-لقد تعبنا جميعاً نحن وهم، ولا نريد المزيد من الضحايا،لقد حققنا نصراً نريد ان نقطف ثماره سلاما ً دائماً لا حرباً أخرى!
كل الحروب لابد لها من نهاية،الحرب العالمية الاولى انتهت ولكنها ولدت الثانية،والثانية ولد من رحمها واقع عربي مختلف وفي قلبه دولة إسرائيل،وخضنا معها أكثر من حرب،وكنا نحن المصريون الطرف الأكبر والأكثر تضحية،ولكن حتى نرسي السلام على أسس ثابتة ونؤمن له الإستمرارية،لا بد ان يقام على اسس عادلة فالعدل أهم من حسن النية،لقد قلت ذلك لسيادته،وهو حريص على ذلك ولذا فهو يسميه السلام العادل.
لقد صدق تقديري فالرئيس يناقش مع زوجته الأمور السياسية الكبيرة منها والصغيرة وحتى المصيرية ويتأثر برأيها.
السيدة جيهان واضحة ومباشرة ومقتنعة تماماً بما تقول،وتعبر عن ذلك بزم شفتيها الرقيقتين،والضغط براحتها على ذراع المقعد أثناء الحديث.
بدت لي شخصيتها واضحة وبسيطة كمعادلة خطية بينما بدت لي سوزان مبارك أكثر مكراً ودهاءً بعينيها الضيقتين واحتفظت بصمتها المطبق خلال الجلسة،وربما لم ترد أن تقاطع زوجة الرئيس من باب الأدب أو الإحتياط المطلوب،وحتى حتى لا يزلّ لسانها هنا أو هناك،بما يمكن أن يؤول لغير مصلحتها ومصلحة زوجها،وهكذا هو الحديث في حضرة الرؤساء ،كثير المحاذير،والأولى تجنّب مزالقه.
أخيراً اقترح السادات أن تنتقل النساء إلى صالون آخر ليتخففن من عبء حديث الرجال الثقيل،ويتحدثن بما يشأن دون تحفظ.
نعم لقد وصلت الرسالة أيها الرئيس ولكن كما قالت زوجتك لن يشفع حسن النوايا بالأخص مع عدو لئيم ،أعرف أنا لؤمه جيداً،فدم قريبي الكونت برنادوت اصبح جزءاً من الخريطة.ولن يزال التاريخ يحمل عبق دمه حتى يصير التاريخ إلى نهايته المرسومةا،النهاية التي رسمها القرآن الكريم والتي لا أدري لماذا تصر على تجاهلها كرجل ورئيسٍ مسلم.
.....
لم يستدعني السادات مرّةً أخرى،ويبدو أنه حزم أمره على المضي في الشوط إلى نهايته،كان ذلك نوعاً من الكبرياء،وهذه سمة بارزة في شخصيته،فالتراجع يعني هدم نُصًب العظمة الذي بناه لشخصه،ونفخ فيه ما استطاع أن ينفخ من حياة،ولكنّ النُّصُب كان يتهاوى رغم كل هذا الحرص.
لقد أغلق سمعه حتى عن إيقاع الشارع،ولم تفلح خطبه النارية ولا تهديداته في تهدئته،كان سباق أحصنة، السادات فيه هو الحصان الخاسر بلا أدنى شك،ولكنه رجل ليس من السهل عليه أن يتراجع،كان يسير كعربة انفلتت كوابحها لتتجه نحو الحائط بتسارع.
لقد ناور بكل السبل ولم يفلح، فالإخوان المسلمون الذين أخرجهم من السجن لكسب ودهم،في اليوم التالي بالضبط كانوا على أبواب الجامعات يدعون إلى إضراب عام ويجبرون من يرفض أو يتردد بالقوة.
لقد استغربت كل هذا الزخم وهذه القوة،عقب خروجهم من السجن مباشرة،لقد جمعوا الشارع حولهم حتى أن منظمة العمل الشيوعي انضمت إليهم كحليف ورفعت الشعار الديني ،لقد رأيتهم بأم عيني يستعرضون قوتهم حتى أنهم كانوا يُخرجون من قلب التظاهرة من لا يعجبهم شعاره من اليساريين ومن لف لفهم،ورأيتهم يضربون شخصا اسمه زهران يبدو أنه من القيادات الطلابية اليسارية،ويدفعونه إلى خارج الحرم الجامعي بالقوة،كان سميناً وضخماً وسلم بالأمر الواقع على مضض،وخفض جناحه بالانسحاب ولكن دون التسليم بالشعار الإسلامي الذي يرفعونه"الإسلام هو الحل"!
لقد دفع السادات التوتر إلى أقصاه،حين رفع الدعم عن الخبز انسجاماً مع سياسة الانفتاح الإقتصادي التي تبناها، فواجهه المتظاهرون بالهتاف الحاسم
مش كفاية لبسنا الخيش
حتشحتنا رغيف العيش
ولكنه أصر على العناد ودفع بالجيش إلى الشوارع،فتسلق الناس الدبابات وعانقوا الجنود الذين لم يحركوا ساكناً،بل إن تلاحم الجموع بتلك الأعداد الغفيرة قد أوقف الدبابات في مكانها جامدةً لا تتحرك.
كانت تلك خطوة طائشة لم يحسب السادات حساب نتائجها جيداً.أو أنه أعماه كبرياءه وعناده واعتداده بالذات.
بالتوازي مع هياج الشارع وتحت ستار ضجيجه،كان هناك مؤامرة تحاك في الخفاء،وتلتئم خيوطها شيئاً فشيئا،في الغرف المغلقة من داخل صفوف الجيش!
غريب أن السادات لم يتنبه لسعيها الخفي،كانت ثقته بنفسه عالية وقاتلة وكان يدعو الجيش بأبنائي،ولم يكن ليصدق أن التنظيمات الإسلامية،قد تسربت إلى داخل صفوف العسكر،واخترقتها بنجاح،واعتقد طوال الوقت أن المؤسسة العسكرية محصنة وباقية على إخلاصها وولائها له، وعصية على الإختراق!
لو قدر لي أن أقابله مرة أخرى،لكنت على الأقل لفتُّ نظره إلى حدث كبير لم يتوقف عنده كثيراً،ولم يتكلف في بحث أسبابه ودوافعه،ألا وهو اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز، ملك السعودية،صديقه الشخصي الذي قدّم له الدعم والمؤازرة،ولكُنتُ كشفت له عن الأسباب الحقيقية وراء هذا الاغتيال،ألا وهو استيقاظ الشعور الديني لديه إلى حد مطالبته بتحرير المسجد الأقصى وإعلانه أنه لن يهدأ له بال إلا إذا رأى القدس محررة من الإحتلال وتحت الراية العربية الإسلامية.
لم يكن السادات ليصدق أن اغتيال الفيصل كان لأسباب دينية،ولربما مال إلى الإعتقاد أن قطع النفط كان السبب الذي يقف وراء الإغتيال،وهي قصة تم تضخيمها كثيراً فالنفط لم يُقطع فعلاً إلا بطريقة رمزية،وربما حتى بإيعاز من الساسة الإنجليز الذين ارادوا عذراً أمام الشعب الإنجليزي للاستثمار المكلف في بترول بحر الشمال،فدفعوا بالإعلام للنفخ في القضية خارج كل أبعادها الحقيقية.
لطالما ردد السادات في خطاباته عبارته الشهيرة"لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة،وهي قناعة ترسخت لديه عبر خدمة طويلة في ظل قناعات وأفكار ثورة ٢٣ يوليو وقائدها الأوحد جمال عبد الناصر الذي اعتبر الحركات السياسية الإسلامية خائنة لمباديء الثورة.
وفي النهاية رضي السادات من الغنيمة بالإياب،وتنازل عن مطالبه الكبيرة،وحقوق الشعب الفلسطيني وعودة إسرائيل إلى حدود ما قبل ٥ حزيران ١٩٦٧،وقبل بعودة سيناء فقط إلى السيادة المصرية،داقّاً بهذا التنازل المذل المسمار الأخير في نعشه.
فالإسرائيليون يريدون تثبيت مكاسبهم على الأرض،وذلك لن يتحقق إلا بالتخلص من السادات،تحسّباً من أن يرجع في كلامه نتيجة شعوره بالغبن،أو حتى لمزاجيته، وليسدوا الطريق أمام احتمال عودته للصف العربي بتبني مطالب الفلسطينيين من جدبد،ولعب دور البطل،الدور الذي يعشقه كثيراً،ويشكل جزءاً بارزاً ومقروءاًمن شخصيته.فاستمرار عزل مصر عن الصف العربي هدف إستراتيجي بالنسبة لإسرائيل،وتركه بين يدي رئيس يشعر بالغبن والخذلان ،وبأنا كبيرة مثل السادات سيكون مغامرة غير مضمونة.في حين أن أي بديل جديد،سيكون حريصاً على تثبيت حكمه،ولن يقدم على أي خطوة درامية أو مشروع كبير يهدد بقاءه في الحكم،ويضعه في مهب ريح السياسة الدولية العاتية،التي تجلس أمريكا حليف إسرائيل الأول فوق صهوتها.
ولعلهم وجدوا في نائبه مبارك شخصية مثالية للقيام بهذا الدور،الذي يتناسب حتى مع مواصفاته الشخصية،فهو رجل ظلٍّ طامح أن يخطو إلى دائرة النور،ومستعد لدفع الثمن،فما بالك إذا مدّوا له يد المساعدة،فسيحمل لهم هذا الجميل وهذه المنّة ويعلقها في رقبته إلى يوم الدينونة، ويقدم المقابل الذي يريدونه بسخاء غير مشروط!
الحمل هنا في مصر،حدثٌ يُستقبل بكثير من الحفاوة والتعاطف،النساء طبعاً هنّ من يشيع تلك الحفاوة ويبدأن بتحسُّسكِ برفق مبالغ فيه،وكأنّكِ زجاجة هشّة قابلة للكسر،وكوني زوجة أجنبي وطبيب وفي منظّمة الصّحة العالمية،فقد جعلني ذلك أكثر استحقاقاً في نظرهن رُبّما،الأجنبي أو الخواجا كما يطلقون عليه هنا في مصر،موضوعٌ دائماً في دائرة الضوء،وهو دائماً في بينٍ بين البينين،أو منزلة بين المنزلتين،الإطراء أو الإزدراء،والمبالغ فيهما في كلتا الحالتين،السيدات يكثرن من زياراتي،ويمحضنني النصائح ويصفن لي مغلي الأعشاب،رغم ما يسود في الجو من قتامة لم تنقشع غيومها بعد من سماء مصر،عقب اغتيال الرئيس السادات.
كانت وجهة نظر زوجي أن الطرفان تآمرا على اغتياله،من له مصلحة في اغتيال الحلم الذي اعتبروه زائفاً وخادعاً،وخروجاً عن مسار الدين والتاريخ والهوية، أولئك الحالمون السياسيون بكافة أطيافهم،والمتشبثون بإحياء الأمجاد القديمة،وعلى ضفة القناة الأخرى الذين أرادوا اغتيال الحقيقة،لأنها لا تصب في حلمهم القديم العظيم بدورهم،وهكذا التقى الطرفان على أمر جامع،وعثروا على وسيط وأدوات لتنفيذ مخططهم،وهكذا يصنع التاريخ،في جزء منه على الأقل. وهكذا فإن الأمر لا يختلف كثيرا على جانبي الخصومة أو على ضفتي القناة،إنها طريقة التفكير نفسها التي اجترح السادات خطيئة مخالفتها،فاعتبر مجدّفاً من كلا الفريقين،فقرروا إزاحته من الطريق،ليكمل الحلم طريقه!يا له من موت رومانسي عند تقاطع التاريخ، الأمر الذي لم يدركه السادات نفسه فقضى نحبه ضحية غافلة وكبش فداء.
هنا في مصر أنت تعيش مع كل الناس وليس لنفسك أو داخل دائرة مغلقة من المعارف والأصدقاء،فبمجرد أن تخطو خارج عتبة بيتك،تصبح تلقائياً جزءاً من العائلة الكبيرة،تتحدث إلى الجميع والجميع يتحدثون إليك دون كبير كلفة،وعن كل شيء ،من ضمّة البقلة إلى مصير الأوطان.
قرّر زوجي أنني سأمضي فترة الحمل وأبقى هنا في مصر حتى أضع طفلي،ولا داعي أن نتعرض لضغوط السفر والانتقال في هذه الفترة الحساسة.
وحين رأت أختا زوجي غرترود ومرغريت أن إقامتنا ستطول في مصر،قررن زيارتنا في مصر وليستكشفا أسرار الفراعنة وعلى خطى هوارد كارتر كما قالتا،حيث أن مصر تثير خيالهما،وهما تشعران بإثارة كبيرة لمجرد أنهما اتخذتا القرار.
قال زوجي إن رحلة إلى الأقصر واستكشاف وادي الملوك لن تضرني شيئاً ولا بأس من إسعاد غرترود وميشيلا اللاتي قدمتا خصيصاً لذلك.
لقد انبهرتا كثيراً بهذا الصرح الحجري العملاق والأنيق المتقن والذي يذكرهما بجزيرة الفصح،عمالقة حجرية في كل أنحاء الكون تساءلت غرترود مفصحة عن دهشتها،أما مرغريت فقد تساءلت عن سر هذا العدد الكبير من الأكباش في الواجهة،وأجابها توم أن الفرعون توقع أن يسأله أحد ما هذا السؤال وأجاب عنه مسبقاً:
لقد كنت أتسلى فقط.
ضحكت مرغريت قائلة:ومن أين لك ان تعرف ما قاله الفرعون،ام أنك تطلق دعاباتك فقط لتستغفلني؟
' أيتها السائحة الجاهلة هذا ما وجد مكتوباً في أوراق البردى باللغة الهيروغليفية التي حللها شامبليون عقب اكتشافه حجر الرشيد! ولعلك لا تعرفين من هو شامبليون هذا؟
وتجيب مارغريت مغتاظة:
لا بل أعرف ،إنه ذلك المهندس الفرنسي الذي حفر قناة السويس.
يلتفت إلي توم ضاحكاً:
-هل رايت جهلاً أكثر من هذا؟أم انك لا تعرفين أنت الأخرى؟
ولم يستطع توم إلا أن يفصح عن أفكاره،ويتساءل بصوتٍ عالٍ: كيف انتهت هذه الحضارة الضخمة على يد راعي غنم من بني إسرائيل اختاره الله ليكون نبياً،ويضع حدا لعظمة الفرعون وأبهته بعصاه التي يهش بها على غنمه،لينقلب عليه زوجته وسحرته ويعتنقوا الدين الجديد،وكذا أوصد باب التاريخ وراء حقبة من تاريخ البشرية،لتبدأ حقبة أخرى ،هي حقبة الوحي والأديان وترسم مسار التاريخ حتى هذه اللحظة التي نعيشها،فهاهم بنو إسرائيل قد عادوا لإزعاج الفرعون مرة أخرى،وربما ظنوا أنهم باغتيال السادات قد اغتالوا آخر الفراعنة كما كان يحلو له أن يسمي نفسه.
ولكن من سيخلف الفرعون؟ أتباع موسى أم أصحاب محمد؟
هذا هو السؤال برسم الإجابة؟
وأنبري قائلة:
لقد أجبت على ذلك بنفسك حين اعتنقت ديانة محمد وتزوجت بواحدة من أمته،أو إحدى حفيداته حتى فنحن ايضاً من الشجرة.
لا جدوى أن تكتب،دون أن تكون في النقاط الساخنة،هناك حيث تركض الحقيقة تحت عينيك على أرض مكشوفة،هناك حيث تكتشف حقيقة الجنود الذين سيروون لك قصص بطولاتهم فيما بعد،في الحروب يصبح الحديث عن الشهامة كذبة كبيرة،فما فعله نابليون ومن قبله ريتشارد الثاني في سجن عكا،شاهد على هذه الحقيقة،التي تفضح تاريخنا الاوروبي بأبعد من أي محاولة للترقيع.
كان توماس يتكلم بحرقة وهو يشاهد الجنود الإسرائيليين وهم يطلقون النار على طفل قذف دبابة بحجر،أو امراة عزلاء على حاجز من حواجزهم التي لا تنتهي فتحت حقيبة يدها ربما لتخرج لهم الهوية فاعتبروا ذلك تهديداً.
قصص لا تنتهي وضحايا بريئة بلا عدد،ومع ذلك فلم يضيع الفلسطينيون ثارهم فقد نجحوا في قتل ١٥٠ جندي إسرائيلي،هذه هي روح الثار التي تحركها الدماء المسفوكة ظلماً.
نحن الغرب الذين خلقنا هذا الوحش ولا زلنا نمده بالدماء،ثم نتحدث عن القانون الدولي وحقوق الإنسان.
هنا فقط الصورة واضحة ومكشوفة ولا تستدعي ذهابك إلى هناك،فهؤلاء لا يخجلون من كشف سوآتهم وإخراجها أمام عيون عالم متواطيء،اقصى ما يمكن أن يفعله هو أن يغض الطرف،والأسوأ هو أن يراقب ببرود واضعاً ساقاً فوق الأخرى!
البطولة وهذا هو تعريفها الحقيقي كما أراه،هو أن تلتزم بمبادئك دون أن تشعر بالخسارة!
كنت أسلي نفسي في فترة ما بعد الوضع بقراءة مذكرات توماس،بعد أن يذهب إلى العمل،بينما يستغرق محمد وهذا ما أسمينا به مولودنا الاول في نوم عميق،لقد اجتاز امتحان غربال السبوع"الاسبوع" الذي أقامته له الجارات بعد إتمام أسبوعه الأول،ولا ادري إن انزعج او طرب من قرع الجرس فوق رأسه،ولكن حقّ له على اية حال ان يذهب في هذه الإغفاءة العميقة،ويتركني أتمعن في أفكار والده!
قال توماس أننا سنمدد إقامتنا في مصر ربما لسنة قادمة ،دعيه يكبر هناوسيكون هناك كثير من الذكريات لنتحدث عنها حين يكبر،وهنا يخفق قلبي بشدة وأجيبه بصوت هامس:الأمل بالله.
الوضع في مصر ما بعد السادات هاديء ورتيب،والناس يتدبرون سبل عيشهم التي لم يتغير بعضها منذ زمن المماليك،فرش الخبز المحمول على الرأس ويجري به رجل فوق دراجة او على القدمين،والقمامة التي يجمعها على الحمير عمال معظمهم من الطائفة القبطية،والذين انزعجوا كثيرا من قرار الحكومة طرح عطاء لشركات ستقوم جمعها بالسيارات الضاغطة،حيث ان ذلك سيقطع ارزاقهم.ويقال أن الشركة مملوكة لابن مبارك!وفي الحقيقة كان احتجاجهم وجيهاً،فالضاغطات الضخمة لن تستطيع دخول الأزقة الضيقة كما هي الحال في معظم الحارات المصرية.
ويبدو أن هذه هي نزعة العهد الجديد تحويل كل شيء إلى مصلحة أو بيزنس مملوكة لأولاد الرئيس،ويقال أن زوجته سوزان والتي تستخوذ على شخصيته تماما هي من تقف وراء كل ذلك!
بموت السادات انتهت الأحداث الكبيرة،ويبدو أن إسرائيل مرتاحة مع الوضع الجديد،وتريد أن تتركه في سلام،وتتفرغ لقتال الفلسطينيين وقياداتهم في الساحات الاخرى وهذا ما بدا واضحاً في اجتياحها للبنان وارغام الفلسطينيين على الخروج وما ترتب على ذلك من مجازر دموية في المخيمات الفلسطينية المعروفة بصبرا وشتيلا.
جريمة حفرت في الذاكرة ولن تمّحي ربما ابداً،لدرجة أنها ازعجت الكاوبوي رونالد ريغان لدرجة ان نعتها بالمحرقة"هولوكوست"
...

انتقلنا من شقة جاردن سيتي،إلى فيلا في الهرم،وقال توماس إن في السعة راحة،وسيمنح ذلك أخواته غرترود ومرغريت فسحة أكبر،خاصة وأنهن قررن تمديد إقامتهن معنا،ويتيح لنا نحن مزيداً من الخصوصية.
قال توماس:إنهن يشعرن هنا بمزيد من الدفء والإلفة،التي تشيعها العلاقة العائلية،وعقّب ضاحكاً:أنا أشفق عليهن هؤلاء الوثنيات!
منذ أعلن توماس إسلامه وتزوجنا،فكل الآخرين بالنسبة له عدا المسلمين،هم وثنيون،يجتهد في هدايتهم،ولذا فالسجالات بينه وبين مرغريت لا تتوقف،بينما تكتفي غرترود بدور المستمع.
أمام فيلتنا وعلى مدى النظر تنتصب الأهرامات كلوحة أزلية، نطالعها كل يوم،أما ميشيلا وغرترود فلا يسأمن من التردد إلى هناك،والاستمتاع بركوب الجمل أو الحصان،ويبدو ان ميشيلا قد نمت صداقة بينها وبين شاب مصري يعمل كدليل سياحي في الموقع،واستأذنت توماس في دعوته إلى بيتنا مضيفة أنه شاب لطيف.
كان الشاب بالفعل لطيفاً وخجولاً،ويبدو إنه من منبت طيب،عائلة أقرب إلى التدين ولكن بروح العصر التي يضفيها التعليم.
تطورت العلاقة وأصبح أحمد ضيفنا الدائم،ومع الإلفة كانت تدور الحوارات بينه وبين توماس،ويستفزه توماس معلقاً:
-لقد ترك لنا اجدادكم الأحجار بدل الأفكار ولولا الفتح الإسلامي لكنتم لا تزالون تقدمون القرابين إلى أوزيريس،من الفتيات العذروات!
وتقتحم مرغريت الحوار بلا تحفظ لتعلق ضاحكة:
-الحمد لله انني لست عذراء ولذا فأنا في مأمن من هذا المصير،لطالما فكرت بالغرق كشيء مروع!
ويقاطع ملامح الشاب طيف دهشة عابرة ،ولكن سرعان ما تسترد ملامحه تماسكها،ففي ذهن كل مصري: أننا نتسامح مع الخواجات فيما لا نتسامح به مع أنفسنا!
وخلافاً لما كنت أظن يشجع توماس ميشيلا على المضي في العلاقة،فهو يظن أن الشاب على درجة من الكياسة الكياسة تضفي على العلاقة جدية واحتراماً،وتنأى بها بعيداً عن المغامرة غير المحسوبة.
مرغرريت أصبحت حذرة في علاقتها مع توماس،وتحسب لردة فعله ألف حساب ولذا سرها كثيراً هذا الرضا عن علاقتها بأحمد،الذي يبدو أنها تريد أن تمضي بها قدماً لعلها تتطور إلى زواج ربما،على غرار ما حدث بيني وبين توماس،ويبدو أنها اخيراً صارت تعتبرنا مثلاً صالحاً للاقتداء.
لا أدري كم سيطول مكوثنا في مصر،وإلى أين ستنتهي هذه التجربة،وعلى أية حال فقد أسلمت القرار لتوماس والعنان للقدر وآمل ان تنتهي امورنا إلى خير!

اليوم سنخرج في رحلة مفتوحة احتفاء بإكمال الصغير محمد سنته الثالثة،ونقيم له عيد ميلاد في العراء،سننصب خيمتنا حتى لو اضطررنا لرشوة الحراس،لن نحبس أنفسنا داخل مطعم،فسيصيبنا ذلك جميعاً بالاكتئاب!
ابتعدنا قدر المستطاع عن مواقع الزحام،أشعلنا نار نا وموسيقانا،وبدأنا في الصخب،ويبدو أن ذلك جذب إلينا الأنظار،أقربهم كان جندياً شاباً ببدلته العسكرية،بصحبة رجل وامرأة متوسطي العمر يبدو أنهما والداه.
تحمّست مرغريت لفكرة دعوتهم للانضمام إلينا،تعاطفاً مع هذه الحميمية العائلية وعلقت:
-الأبوة والبنوة هي ما تبقى من مقدسات هذا العالم،بعد أن هدمت معالمها الكبيرة يد الإنسان!
استجابوا بعد إلحاحٍ من مرغريت وتبادل للإشارات باليد.
وقالت المرأة:
-خواجات !ازاي حنتفاهم معاهم؟
ولكني طمأنتها بلهجة مؤكدة:
-أنا عربية فلسطينية!
وعبرت المرأة محتجة عن عدم قناعتها:
طب ازاي؟ومجوزة خواجة؟
ثم أفضت بشكوكها:
-اوعوا تكونوا من إسرائيل!حتشبهونا أنا ابني عسكري!ما يصحش!
دعوتهم للجلوس وأنا أطمئنهم وأعلن بلهجة واثقة:
-اسرائيليين إيه؟ده جوزي واخواتي من السويد!وهومسلم أصلاً!
ابتسم الجندي الشاب و ربّت على كتف والدته مطمئناً،أما الوالد فقد اعتصم بالصمت والابتسام،على اعتراضات زوجته،والتي لم تلبث أن اكدت شكوكها،التي لم تهدأ بعد:
-طب لما انت فلسطينية،بتتكلمي مصري ازاي؟اصل يهود كتير مصريين هاجروا لاسرائيل،ودلوقت بيرجعوا تاني،بعد السلام وللا ما اعرفش اسمه إيه؟
و عاد الإبن لطمأنتها ابنها مرّة اخرى قائلاً:
-دول خواجات ما بيكدبوش! بعدين الست قالتلك انها فلسطينية،وما فيش يهودي أصلاً بيقول عن حاله فلسطيني!ده حتى بيعتبروها خيانة!
يبدو أن عبارته الاخيرة أقنعتها وهدأ خاطرها أخيراً،قضينا يوماً مرحاً وتناولوا معنا طعام الغداء وتوليت أنا مهمة الدردشة والترجمة،واستمتع الجميع بوقتهم،وقبل أن يغادروا اقترحت ميشيلا التقاط صورة ولكن الجندي أوقفها بإشارة من يده وهي تهيء كاميرتها،وقال إنه ممنوع على العسكري أن يتصور ببزته العسكرية،ولكن ميشيلا التقطت الصورة على عجل وفات أوان الإحتجاج،ولم يملك الجندي سوى الإبتسام والتسليم بالأمر الواقع،لا بل طلبت منه ميشيلا أن ينتظر حتى تجف الصورة الفورية ويوقع لها على ظهرها،وكان الجندي يغالب خجله ورغبته في الرفض،ولكن غلبته طيبته ورغبته في مكافأتنا بشيء ما على استضافتنا السخية لهم،وأخيراً لبى رغبة مرغريت ووقع على ظهر الصورة بكلمة واحدة:سليمان!
لم تمض شهور على تلك الواقعة حتى أطلت علي صورة سليمان من مانشيتات جرائد الصباح:جندي مصري يقتل سبعة متسللين إسرائيليين!
هرعت بالصحيفة إلى توماس وفزعت مرغريت إلى المشهد واتفقنا كلنا أن هذا هو نفس الجندي الذي كان بصحبتنا في ذلك اليوم،وأحضرت مرغريت الصورة وتأكّدت انا من التوقيع على ظهرها:سليمان!نفس الإسم المنشور في الجرائد،هذه أكثر من مصادفة!إنه هو هو بشحمه ولحمه!
قرأت اتوماس تفاصيل الخبر،وكان حريصاً على متابعة كل ما يستجد،وأنا ايضاً اصبت بعدوى الفضول!
هزّ توماس رأسه مستنكراً:لماذا يقتل سياحاً ونساء عاريات؟
وظلت هذه الفكرة تؤرقه،حتى أتيته أنا أخيراً بالخبر اليقين،وكانت الصحف تنشر كل تفاصيل حياة سليمان خاطر،وفي طفولته كان قد شهد القصف الإسرائيلي لمدرسة بحر البقر الواقعة على مقربة من قريته،وهرع إلى المشهد وشاهد جثث أترابه الممزقة وأشلاءهم المتناثرة،ويبدو ان المشهد رسب في ذاكرته وعبأها بالثار،وهذا ما وشت به تصريحات أخته للصحف:
-لم ينم ليلتها،ولم ينبس ببنت شفه ولم يأكل إلا لماماً،وبقي على هذه الحال لأسابيع، يبدو ان الألم بداخله كان أكبر من أن تحتمله مشاعر طفل في التاسعة،وحسّاسٌ أيضاً كسليمان.
قرأت لتوماس الخبر واستمع بصمت بالغ،ويبدو أن ذلك أراحه كثيراً،وأخيراً قال:
-لا أستطيع أن ألومه إذا أخذ بثاره على طريقة السن بالسن والعين بالعين والباديء أظلم!
ما إن ترجّلتُ من سيّارتي وسرتُ بضع خطوات باتجاه مدخل العمارة حتّى أحسستُ أنّ غمامةً ثقيلةً هبطت على وجهي،وغُشّي بصري،ثم أدركت أنهم غطوا رأسي بكيس،ثنوا ذراعيّ خلف ظهري بقوة،قبل أن تتاح لي أيُّ فرصة للمقاومة،ودفعوني إلى داخل سيّارة،شعرت بوخزة في ذراعي،دبّ الخدر في جسدي ثُمّ لم أشعر بشيء!
صحوتُ فجأة،أجلتُ عينيّ فيما حولي،كانت حولي وجوهٌ غريبة،مستلقياً على سرير في حجرة نصف مضاءة،دهمني إحساسٌ بالصّدمة،وتساءلت في غيظ،قاذفاً كلماتي في وجوههم:
-أين أنا،ومن أنتم؟
ابتسم الطويل الأصلع وهو يوجه نحوي نظرات فاحصة،رُبّما ليتأكّد أنني واعٍ تماماً،ويجيب بلهجة من يتحكّم بزمام الأمور وبنبرة مشحونة بشيءٍ من الشماتة:
أنت بين أصدقائك أيها الكونت!
-ومن أين تعرفني؟وهل يخطف الأصدقاء صديقهم؟هل أنتم عصابة ؟من انتم وماذا تريدون؟
تدافعت الكلمات من فمي بعدائية سافرة!
-إهدأ أيها الكونت! نحن لسنا عصابة،سنقيم حفل تعارف،ولكن ليس قبل أن نقوم بواجب الضيافة،هل تريد كأساً أو شيئاً من القهوة؟
يجيبني الرجل الأصلع،ذو الوجه المنمش والملامح اللدنة!
فجأة كُشف عن بصيرتي ،هؤلاء هم!لا بد أن لذلك علاقة بسليمان خاطر والصورة التي التقطناها معه،ولكن كيف عرف هؤلاء الشياطين؟
وألقيت في وجوههم بالسؤال المُلح:
-هل أنا في السفارة الإسرائيلية؟
-يا لذكائك أيها الكونت!ولكنك لست في السفارة الإسرائيلية،أنت في إسرائيل نفسها!
يغمرني إحساس بالسخرية،أكشف أسناني عن ابتسامة،وأنفث سؤالي في وجوههم في تهكّمٍ فاضح:
-ولماذا تكلّفتم كل هذا العناء؟أم أنكم تحبون أفلام الإثارة،كان يكفي أن تقوموا بزيارتي وتسألوني فأجيب
-هل تعرف عماذا نتحدث ؟
نعم بالطبع !بطريقة ما لا بد أنكم عثرتم على الصورة،وقفزتم إلى النتيجة أنني مرتبط بالعملية التي قام بها الجندي سليمان بقتل إسرائيليين!
-تماماً!ما دمت حزرت،إحك لنا كل شيء!ما هي صلتك بسليمان خاطر إذن؟
يُصعّد الرجل من لهجته،مصطنعاً لهجة التهديد!
وأجيب بهدوء متمهلاً للدرجة التي تتيح لهم عدّ كلماتي:
-ربما لا أحب الإسرائيليين كثيراً، ولكني أعرف أنكم لستم أغبياء بحالٍ من الأحوال،وتعرفون جيداً أن من يخطط لعملية كهذه،لا يقيم حفل تعارف،ولا دعوات مفتوحة ولا يلتقط صوراً،بل ينجز مهمته بسرية تامة!
يقاطعني الرجل نفسه الذي يتولى مهمة الحوار بينما يعتصم الآخرون بالصمت ويصيخون بانتباه شديد،ولا بد أنهم يسجلون كل شيء بكاميرات المراقبة:-الغرور قد يدفع الإنسان إلى أبعد من ذلك،وربما حتى إلى درجة أن يصنع سيركاً،وليس حفلاً فقط!
-نعم ولكن ليس إلى درجة أن يغامر بعنقه وأعناق عائلته،ليس رجل عائلة،ومن لديه طفل رضيع!
-لديك نقطة هنا،ولكن لديك الدافع أيضاً،وهو أهم أركان الجريمة،أنت تعتقد أننا قتلنا عمك الكونت برنادوت!
أقاطعه بغضب:
-وماذا عن أركان الجريمة الأخرى ؟الفرصة؟ومن أين لخاطر أن يعرف أن نساءً عاريات سيجتزن الحدود فجأة ويقتحمن موقعه! لو كان هو الذي خطط،لانعكس اتجاه العملية كلها،ولكان خاطر هو الذي تسلل عابراً الحدود،ولربما اشتبك مع جنود،بدل نساء عاريات وسياح حمقى ربما كانوا تحت تأثير المخدر أو الكحول!ليس لديك قضية ضدي يا عزيزي،ولست محققاً ماهراً على أية حال
يعقد الرجل يديه على صدره،يحدجني بنظرة حادة،ويقول أخيراً:
-كونت توماس،لقد تتبعنا القضية من أولها وربما استولى عليك الفضول لتعرف كيف عثرنا على الصورة! سأوفر عليك السؤال،القلم الذي وقّع به خاطر على ظهر الصورة التي التقطتها أختك والذي أعطته إياه ،احتفظ به خاطر،هذا القلم عليه صورة مائية لأختك،والتي يبدو أنها مفتونة بهكذا طقاطيق!على أية حال لقد عثرت عليه المخابرات المصرية،حين فتشوا شقة خاطر!وتعرفوا على أختك من الصورة،وعرفوا منها باقي الحكاية!
ينتابني ذعر مفاجيء وأصرخ في وجوههم كطلقة مسدس:
-وماذا فعلتم بأخواتي وعائلتي؟
-إهدأ يا عزيزي!يجيب الرجل بهدوء ثُمّ يستأنف:
نحن لا نقتل النساء ولا الأطفال:
ولكنكم قتلتم أطفال مدرسة بحر البقر أتراب سليمان وأولاد صفه!
هل تعتقد أن سليمان أطلق النار جزافاً؟لقد كان معبّأً بالثار كبندقية محشوة طوال حياته،حتى تهيّأت الفرصة أمام عينيه،فلم يفكر ولو للحظة واحدة!الدماء لا تحلب إلا الدماء يا عزيزي وهذا ما لا تريدون أن تفهموه أبداً!
يركب الرجل كلماته ببرود-
-كونت هذا ما أريد أن أحدّثك عنه!بحر البقر كان قصفاً أعمى،ومقتل عمك كان لظروف تاريخية رافقت نشاة إسرائيل،وربما لم تترك أمام قيادات تلك الفترة إلا خيارات ضيقة!كونت نحن نريد أن نطوي تلك الصفحة معك شخصيا،ومع العرب،بصفتك انتقلت إلى صفهم،ونحن بصدد عقد صفقات سلام مع الجميع وها هي اتفاقيتنا مع مصر تثمر تعاوناً كما ترى!لا بل سنكون كر ماء جدّاً معك،سنسمح لك بالعودة إلى أورشليم،أنت وزوجتك المقدسية،لتكون شاهداً بنفسك على ولادة التاريخ،فماذا تقول؟
وأدهمه بالإجابة على الفور:
-هذا عرض لا أستطيع رفضه!آمل ان تصدّق اعمالُكم اقوالَكم!
ويقول الرجل متصنّعاً الثقة:
-هذا متروكٌ لإرادة الله!
-بل لخيارات الإنسان التي يكافؤها الله من جنسهاّ:
-إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أساتم فلها!
-حسناً كونت! لقد انتهينا هنا!وعلينا أن نعيدك إلى حيث كنت،ولكن دون تخدير هذه المرّة!
.....
أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!" (مت 23: 37
لم يبق في مصر غير قرع أحجار النرد،على أرصفةالمقاهي،وعاد صوت أم كلثوم الناعس،المُخدّر للحواس،ليملأ الفضاء الملوّث بالدخان والضجيج،وصَمَت فجأة الإيقاع العالي للأغاني الوطنية،تساوى الحاضر والمستقبل،وَقَفا على أرضٍ منبسطة،تتيح لك مدى أبعد من الرؤيا،اختفى قوس السماء،ولم يعد العالم كرويّاً غامضاً ومشوقاً،كل شيء رتيب وبارد كوجه الرئيس،وحتى توتٌّر الإنتظار تراخى وسقط كوترٍ مقطوع.
وهكذا حزمنا أمتعتنا وعدنا إلى القدس أو أورشليم -القدس كما يحلو لليهود أن يسموها،رغم أنها كلمة كنعانية تعني مدينة السلام.
عدنا حتى إلى بيتنا القديم في المٌطّلع والمخصص لإقامة رئيس فرع منظمة الصحة العالميةالذي هو زوجي في القدس، والمستأجر بشكل دائم من قبل المنظمة.
وددت لو ألتقي بذلك الضابط الذي سهل أمر عودة زوجي إلى هنا ليشهد ولادة السلام في مدينة السلام،كل يوم تكذّب الأحداث نبوءته،وكل يوم تصدق أورشليم وصف المسيح عليه السلام،كل يوم يتواصل قتل الأنبياء في شوارع أورشليم،الأنبياء الصغار،الأطفال الذين يقذفون الدبابات بالحجار التي تسعها قبضاتهم الصغيرة.
الدبابات لا تصنع سلاماً يا صديقي الضابط،كم وددت لو يكسب رهانك هذه المرة،وأخسر أنا الرهان،ولكن سادتك خذلوك وأخلفوا وعدهم.
إنهم ينبشون الأرض ،يقلبون باطنها ويغوصون في أعماقها إلى أبعد ما تطال آلاتهم الصماء،بحثاً عن الأحجار المقدسة،وعلى وجه هذه الأرض يمتهنون قداسة الحياة،بأبشع ما يمكن أن تهيّأه مخيلة شريرة،حتى أكاد أقول لهم:أقم مملكة الله في قلبك تقم على أرضك،ولا تجعلوا بيت الرب متحفاً أصمّاً بل أقيموا فيه شعائر الحياة،أنا أخاطبهم بالصوت العالي وكأنني المسيح الجديد،ولا أخشى البطش فلم يعد هناك ما أخشاه،فعلى أرض أورشليم يصبح الموت صنو الحياة،بالتأكيد ليس خلاصاً،ولكنه الطريق الوحيد لحرّية و كرامة الإنسان،لا أدري إلى أي مدى سيبلغ صوتي وفي أي أذن سيتردّد صداه ،ولكني آويت تلك الفتاة التي تبحثون عنها لتقيموا عليها حدّ الرّجم ولا تقيمونه على القتلة،لأنهم يتنكّرون بالبزّة العسكرية،التي أصبحت رخصةً للقتل.
لم يجد الفلسطينيون مكاناً آمَنَ من بيتي ليستودعوا فيه تلك الفتاة اليهودية،التي قدمت من أقاصي الأرض،من بولندا أو هنغاريا أو بيلوروسيا إلى أرض أورشليم لتطأ بلاط الهيكل،فلم تجد بلاطاً ولا هيكلاً ،ولكنها وجدت إنساناً أحبّها وأحبته،ولأنه عربي ومسلم تبحثون عنها الآن لتحاكموها،لقد جعلتُ بيتي ملاذاً كبيت الرب تماماً،وربما بشيء من المكر،فربما ألتقي ذلك الضابط الذي راوده حلم أورشليم تخيم في سماءهاالسكينة وتبسطها على أرضها، ربما لأقول له إن حلمك يُنتهك كل يوم على يد رؤسائك ومستخدميك،إنهم ينسلونه خيطاً خيطاً،وينقضونه حجراً حجراً ولبنة لبنة،ليحوّلو أورشليم إلى خراب،بأيديهم لا بأيدي الأعداء،فأولئك يبنون وهؤلاء يهدمون،وها هم قد شيدوا كنيس الخرلب،اعيتهم الأسماء فلم يجوا اسماً غيره،أم لعلهم مفتونون بالخراب،إنه فألٌ سيءٌ أقول لك،وها هم يضعون علاماتهم بأنفسهم على الطريق الذي سيمضون فيه حتى النهاية:الخراب.
كم وددت أن أوصل رسالتي إلى هؤلاء الكهنة والفريسين،ليس في هذه المدينة أطلال،أُنظُر حولك،هناك أطلال في كل مكان،أعمدة يونانية رومانية،هياكل ومدرجات،تحمل بصمات أصحابها،إلا داخل الأسوار،ليس هناك ولا ححر واحد داخل أسوار أورشليم، لم يقم فيها حتى معبد لأي إله ،قبل اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للمسيحية،ليس إلا بعد أن شعر المسيحيون بالأمان،فبنوا كنيسة المهد والقيامة،وأبقوها حية الأنفاس،يقيمون فيها شعائرهم ،وظلت تتجدّد كل يوم ولم تتحوّل إلى أطلال،حتى جاء عمر بن الخطاب فوضعوا الوديعة ُبين يديه،فأعطاهم عهده وأمانهُ،وخطّ مكان قبلة أبيه إبراهيم ومسرى رسوله محمد،لم يهدم حجراً ولم ينصب حجراً ولكن التاريخ أكمل مساره فأقام ابن مروان بناء يؤوي المصلين،ونصب لهم محراباً وأشاد لهم قبة تُظلّ الراكعين والساجدين.ولم يتكدّر هذا الأمان،قروناً تطاولت،حتى مجيء البرابرة،لينقضوا عهد صفرونيوس ويستبدلوا الصليب الذي ظل مرفوعاً في سماء أورشليم مطمئناً إلى صوت الآذان،الذي يهديه السكينة خمس مرّاتٍ في اليوم والليلة،حتى أسكتوا صوته ولم يعد يُسمع في سماء أورشليم إلا صليل السيوف وصهيل الخيول،وصخب الجنود السكارى،فيضيع قرع الأجراس،في غمار هذا الصخب الماجن .
......
كانت صورتها على كل صفحات الجرائد،وملصقة على كل الجدران والأعمدة،الفتاة اليهودية،التي لا بُدّ وأنه ااختطفها العرب الأشرار،وربما قتلوها!وبدأت حفلة تفتيشٍ مسعورة،فتشوا على الأغلب كل بيوت بيت المقدس،ولم يطرق بابنا أحد،ربما لحصانة توماس الدولية،ولكن الأغلب ان الله اعمى ابصارهم عنها وكفّ يدهم،لحكمة يعلمها،لأن هؤلاء لا يحترمون لا اعرافاً دولية،ولا حصانات،ولا أي شيء!
وما إن وهنت حملة التفتيش عن ستيلا الفتاة اليهودية الضائعة،حتى هرع الفلسطينيون إلى بيتي،وتحت عين النهار، فألبسوها ثوباً فلسطينياً مطرزاً وعلى رأسها الغطرة الفلسطينية البيضاء ،وقالوا باقتضاب أنهم ذاهبون بها إلى بيت زوجها ولم يفصحوا لي عن المكان،ولم ينسوا أن يشكروني على طريقتهم الخاصة،قليل من الكلام وكثير من المشاعر!
واختفت الفتاة حتى كاد ينساها الجميع إلى أن صحوت ذات يوم ليطالعني وجهها على كل واجهات الصحف،لقد سعت بنفسها إلى مكتب الحاكم العسكري الإسرائيلي،ولتعلن له عن نفسها،وليتبين أنها ابنة أخته،وذكرته بواجبه تجاهها وبواجب الإحتلال بتوفير سبل العيش لأبناء الشعب الذي احتلوا أرضه!
وماذا تطلبين يسألها الخال العتيد،أليس من الأفضل لو عدت إلى أهلك وتركت هؤلا؟!
وتجيبه بحزم ودون أي تردد:
-هؤلاء هم أهلي! كل ما أطلبه منك أن تصدر لزوجي تصريح عمل داخل ما تسمونه الخط الأخضر!
حفظاً لماء وجهه ولأنها أصبحت قضية مفتوحه وتحت عدسات الصحافة المجهرة،يصدر الحاكم لها تصريحاً.
وبعد أيام أقرأ له تصريحا مشيناً في مقابلة مع صحفي يستفزه بالسؤال:
-لماذا تركتكم ابنتكم،ولجأت لحضن هذا العربي!هل هناك ما يقدمه لها،مما تعجزون أنتم عن تقديمه؟
وهنا ينفلت صاحبنا من كل عقال،ويطلق لسانه في ابنة أخته بلا تورع ولا خجل،ويسقط في حضيض لا قاع له ليقول:
-أصلاً هذه فتاة رخيصة،وهي صغيرة كان بإمكانك ان تحصل منها على ما تشاء بقطعة من الشوكولاته!
لقد روى لي كثيرون عن افتقاد اليهود لحس العفة والتعفف،حتى قال لي مقاول مسيحي من اللد كان والداً لصديقتي:قال أنه أيام الإنتداب الإنجليزي خطف يهودي منه العطاء وبسعر أعلى بكثير حين قدم ابنتيه التوأمين الشابتين رشوة للضابط الإنجليزي ،كنت ذاهباً لمراجعة الضابط حين رأيتهما تثبان من سيارة والدهما المفتوحة وتتقافزان متضاحكتين لتدلفا إلى خيمة الضابط الإنجليزي،الإنجليز كانوا فاسدين ومرتشين أيضاً،وهذا هو الجو الذي انتعش فيه وانتشر كالبقل في الماء مؤسسوا دولة إسرائيل.
وإذن فهذا هو السر،لقد نقموا منها انتقالها إلى الصف الآخر،صف العفة،لأن المقارنة تفضحهم،يريدونها أن تبقى على هيأتهم،كنت اقرأ عن انحلال يا ئيل دايان و شذوذ أبيها نفسه موشى دايان وزير دفاعهم،ولكني كنت أظن ذلك دعاية عربية نطلقها نحن العرب من غيظنا على اليهود وقلة حيلتنا تجاههم.
حكى لي والد صديقتي أيضاً أن اليهود يبيحون زواج ابنة الاخ وابنة الأخت،ولهذا قتلوا يوحنا المعمدان حين رفض أن يصدر لهم فتوى تبيح ذلك!
كنت أتابع كل ما يجري بحثيثية شديدة،وأنفعل وأعلّق بصخب،وأصرخ عالياً لأُسمع صوتي ولو للفراغ،وكان زوجي الدكتور توماس يتابع بوقار وصمت،وكأنه يختزن كل ما يجري في ذاكرته الحية ربما ليحكيها لابننا محمد فيما بعد!

اليوم قرّرت أن أنضمّ إلى جموع المرابطات في ساحات المسجد الأقصى،ارتديت الزيّ الفلسطيني،الثوب المطرّز،والشاشة البيضاء،هذا بحدّ ذاته شاحذٌ للعزيمة،فنحن في النهاية ندافع عن هوية ،لقد حاولت السلطات الإسرائيلية داخل الخط الأخضر،تغيير ما استطاعت من ملامح هذه الهوية عبر سنوات الإحتلال الطويلة بعد ١٩٤٨،بتبديل أسماء المدن والقرى وشواخص الطرقات حتى،حاولوا تغيير العادات والتقاليد،تبرّجت النساء قليلاً ولكنّهن احتفظن بعفتهن مسيحيات ومسلمات،فلم تصبح المساكنة طريقة ارتباط مشروعة أو حتى مقبولة بين الرجل والمرأة،ضحكت وأنا أضع فكرتي هذه موضع اختبار،وأسأل احد الفنانات الفلسطينيات ،والتي تجاوزت الأربعين فيما إذا كانت لا تزال عذراء،فاحمّر وجهها وهي تهزّ رأسها بنعم.
لقد هزمتهم الذاكرة الجمعية،ونهر التاريخ الذي لا يغير مساره،وتلك التقاليد الشامخة العصيّة على التطويع.
وضعتُ ابني محمد عند أحد الصديقات،وقلت لزوجي أنني ذاهبة إلى هناك،إلى الجبهة حيث تتواجه النساء مع الجنود،
في الطريق إلى الأقصى تناهى إليّ حديث طفلين،كانا يتبادلان الحديث وهما في طريقهما إلى هناك:
'-هل فعلاً المسجد الأقصى هو أرض البعث ومن هنا تقوم القيامة؟
-ليس المسجد الأقصى فقط ولكن القدس كلها،أرض بيت المقدِس،هكذا قال جدّي!
-وهل سيُبعث أخوك الشهيد من أرض الأقصى،من المكان الذي استشهد فيه؟
-كل الشهداء سيبعثون من هنا!
تجاوزتهما وهما لا يزالان مسترسلان في السجال،
كانت النساء قد شكّلن حائط صد أمام الجنود الإسرائيليين،مما يعني أن الإشتباك قد أصبح وشيكاً،كان هناك عدد من الأطفال،وبعض الشباب البالغين!
وقبيل ساعة الصفر وقف شاب وأشار بيده إلى الجميع أن يصمتوا،وتوجه بخطابه إلى الجنودس الإسرائيليين:
-حسناً،قولوا لي ما الذي تفعلون هنا؟تظنون أنكم تقفون على أرض الهيكل،لا بأس!أين هو هذا الهيكل؟كيف تبخّر فجأة ؟من فوق الأرض ومن تحتها،ها هي آلياتكم تحفر تحت قدمي،ولم تجدوا شيئاً!لا بأس!قولوا لي ما اسم إلهكم الذي تعبدونه وما علاقته بهذا المكان،نبينا محمد صعد من هنا إلى السماء ،إلى عند الله،المسيح صعد أيضاً إلى نفس السماء وإلى عند نفس الإله،ولكن أنتم تبحثون عن أحجار وفي المكان الخطأ،ولا تعثرون حتى على مقدار حصاة!
أصغى إليه الجنود بوجوه جامدة وبليدة،ثم أشاروا إليه ببرود أن ينصرف!
زوجي الذي انضم إلى الحشد إبان إلقاء الشاب لخطبته،ووقف إلى جانبي،انتظر حتى أنهى الشاب خطبته وقلب راحتيه في تعجب،في إشارة أخيرة آلى الجنود الواجمين،وتقدم نحو الجنود ليوجه إليهم سؤالاً بدوره:
-هل لكم عائلات؟وأشار إلى أحد الجنود:هل لك عائلة،هل لك أولاد؟هل تريد للجيل القادم أن يعيش بسلام؟ إذا كنت تريد ذلك حقّاً فإذن ،أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله!
كان يتكلم بالإنجليزية وبحماسة شديدة،نظر إليه الجنود بعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر:
-هل أنت صحفي؟لماذا لا ترتدي شارتك إذن؟
وحولو نظراتهم نحوي وأنا أتقدم لأضع يدي في يده ونغادر معاً،وعلق أحدهم ساخراً:
-هناك امرأة إذن وراء كل حكاية!
التفتُّ من فوق كتفي وهتفتُ صارخة:
-إنه زوجي أيها الغبي الكونت توماس!
وجذبت صرختي نظرات النساء اللواتي تابعنني بنظرات توزعت بين الدهشة والإعجاب!
ابننا محمد يكبر على أرض القدس،وأصبح على وشك دخول المدرسة،واقترحت أن نلحقه بمدرسة دولية،ولكن زوجي السويدي رفض رفضاً قاطعاً،وأبدى استغرابه أن ياتي هذا الإقتراح من جانبي أنا الفلسطينية المقدسية،لا بل قال:سنلحقه بمدرسة عربية،دعيه يشعر بالانتماء،دعيه يعرف من هو،مما جعلني أخجل من نفسي وأضطر للاعتذار لتوماس وقلت مبررة وجهة نظري،أردت أن أودعه في بيئة آمنة!
ويردّ توماس داحضاً وجهة نظري:
-من هو الآمن هنا؟ لقد تعلمنا نحن الأوروبيون من التاريخ درساً قاسياً،لا أحد آمن تحت الإحتلال،لا بل إن الخيار الأكثر امناً،هو طريق المقاومة والرفض،أكثر منه الرضوخ والاستسلام!
المعركة قائمة على أرض القدس،وبدأ اليهود يزاحمون الفلسطينيين في وجودهم،واستولوا على البيوت التي تركها أصخابها إبان الحرب،وغادروا إلى الأردن أو المهاجر في اوروبا وأمريكا،استولوا عليها بحجة ما أسموه أملاك الغائبين،وهو تحايل يتقنه اليهود تماماً وكأن غياب صاحب الحق،يمنحك شرعية الإستيلاء عليه!
وهناك عقارات اشتروها عن طريق سماسرة عرب،يتظاهرون أنهم يشترون العقارات لأنفسهم ثم يبيعونها لليهود،كثيرون سقطوا ضحية لهذه الحيلة قبل أن تنكشف،وربما اضطروا لذلك بسبب إجراءات التضييق المجحفة ورسوم الترخيص الباهظة التي لا يستطيعون أداءها،وفي هذه الحالة تستولي عليها بلدية أورشليم التي يرأسها شلومو هليل الذي تفنن في إجراءات التضييق وفرض الرسوم والبدلات الباهظة او حتى الهدم بحجة عدم وجود الترخيص او حتى العجز عن تجديده،وأحياناً الطرد والإخلاء المباشر بحجة المقاومة والانتماء أو التعاطف مع حركات إرهابية.
هذه المزاحمة اليهودية أشعلت حدة المواجهة خاصة وأن اليهود سيؤو السلوك، ويضايقون جيرانهم بكل وسيلة تحت حماية الجيش والشرطة،وهذه مظاهر يومية تصادفك كثيراً،حتى أنني ذات مرّة رفعت رأسي وصرخت على امرأة يهودية؛
-لماذا تلقين القاذورات في حوش جارتك ؟ألا تخجلين؟من أين اتيت أصلاً؟من اوروبا أو أمريكا؟وهل لو كنت في اوروبا كتت ستجرؤين على فعل الشيء نفسه هناك؟
لتجيبني بكل وقاحة:لأنها عربية،سأضطرها للرحيل،فلا حق لها في الإقامة هنا!
ولكن المقدسيين لا يرحلون،دوافع البقاء مخبئة ليست تحت جلودهم،ولكنها مدفونة هناك كبذرةٍ ثمينة في أعمق اعماقهم في داخل جيناتهم،وتستمر المعركة،الصامتة والصاخبة،ويتتابع الزمن بتتابع الأحداث،كاشفاً ما بظهر الغيب،ويتجدد الماء في النهر كل لحظة،والكل مترقب لما سيأتي به الغيب،لعله يكون أفضل،وهذا هو الرهان الذي لا يتخلى عنه الفلسطينيون أبداً،فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة وسيخرج الغرباء أخيرا. من القمح والجرح،وهذا ما بشرهم به شاعرهم محمود درويش،في قصيدته التي أثارت غيظ الإسرائيليين كثيراً.
....
أخيراً قرّرتُ ارتداء الحجاب الإسلامي والتخلي عن لباسي الأوروبي الذي لبسته منذ الصغر،سرّ زوجي توماس بذلك سروراً عظيماً وتملّكه إحساس بالكبرياء وهو يسير تتأبّط ذراعه امرأة محتشمة بجلباب وغطاء رأس،ويبدو أن لإسلامه الجديد حلاوة في نفسه لا أجدها أنا بحكم الإلفة الطويلة فهو ديني الذي ولدت به وأدمنته طوال حياتي.
...
لبنان كان تجربة مؤلمة للجميع،أمّا أشدهم إيلاماً فكان الفلسطينيون الذين ارتكبت بحقهم مجزرة دموية فظيعة في مخيم صبرا وشتيلا،على يد حزب الكتائب الماروني وبغطاء من الجيش الإسرائيلي،مذبحة بلغت من الفظاعة أن استنكرها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان نفسه ودعاها بالمحرقة،وكما علق أحد الصحفيين الأمريكان على تألم ستالين لآلام الشعب الروسي إبان الحصار النازي في الحرب العالمية الثانية"فحينما يتألم ريغان"بتبديل اسم" ستالين" من آلام الآخرين،فذلك يعني أن الوضع مؤلم حقّاً.
طبعاً تباكى مناحم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي وردّ على ريغان بقوله:إن كلمة محرقة تذكر فقط بمعاناة اليهود على يد هتلر!
كان رداً مبتذلاً ولكن ياسر عرفات تلقى توبيخاً ثقيلاً وخاصة من الشاعر الفلسطيني محمود رويش على قراره بالخروج،حتى أنه دعاه ملك الخطابة والفرار.
محمود درويش الذي رافق عرفات في بيروت رأى في الخروج خطيئة لا تغتفر وكأنه الخروج من الجنة!
ولكن عرفات انتصر عليه حلمه الذي يراوده في العودة إلى فلسطين ولو بمجرد وضع قدمه هناك،ورأى في ذلك نصراً كبيراً،ويبدو أن إسحق رابين سايره في حلم إقامة دولة فلسطينية ولو بالشروط الإسرائيلية أو تحت أي شروط!
توماس كان يتميز غيظاً وقال إنه لو أتيحت له مقابلة عرفات لحذّره من أن من يظن نفسه شعب الله المختار،لن يعطي لشعبّ آخر أي شيء،ولن يعيد له شيئاً حتى لو كان حقه المسروق،لأن هذا الإستعلاء يبيح لك سرقة الآخرين الغوييم من غير أبناء شعبك، الذين لا حقوق لهم في دينك الذي شرعه لك الرب وأعطاك هذا الحق.
توماس المسلم حديثاً قرأ العهد القديم جيداً والعهد الجديد أيضاً،وقد ظل متديناً حتى لحظة إسلامه!
..
قرّرت مرافقة توماس في رحلته إلى لبنان في أسبوع ورشة عمل،كنت متشوفة لرؤية هذا البلد الذي كُتبت على أرضه حقبة من تاريخنا،بريشةّ مغموسةٍ بالدم.
كنا نتجول في بيروت الشرقية وفدقررنا الدخول إلى مطعم لتناول الغداء،وما إن جلسنا حتى بدأ القائمون على الخدمة بإبداء كثير من التبرم والضيق،ثم جاء صاحب المطعم بنفسه وفي أعقابه زوجته ليبلغنا أن الغداء سيتأخر لهذا اليوم وأنه من الأفضل لنا الذهاب إلى مطعم آخر،ويبدو أن توماس سبقني إلى فهم أسباب هذا الجفاء الذي تعمدوا إبدائه، نهض وأمسك بالصليب المعلق في رقبة صاحب المطعم وعرّفه بنفسه كسويدي عامل في منظمة الصحة العالمية ثم قال له مؤنباً:
-هل لباس زوجتي هو السبب؟من يحمل في صدره كل هذه الضغينة لا يستحق ان ينتسب إلى المسيحية،ثم ألا ترتدي الراهبات مثل هذا اللباس؟انظر حيداً،حتى تبرجنا نحن الاوروبيون مخالف لتعاليم المسيح وإذا كان علينا أن نقلد احداً في لبسنا فلنقلد أمنا العذراء مريم إذن!
بدا على الرجل الإرتباك واتسعت عيناه دهشة ولم يستوعب الصورة،كيف لمسيحي سويدي أن يقترن بامرأة مسلمة ترتدي الحجاب!
حين صرنا في الشارع علق توماس:
لبنان كشحرة الدفلى الوان زاهية وطعم مر!
وانا بدوري فكرت أن المرارة هنا لا تزال في كل قلب وتحت كل لسان!
توالت الأيام على أرض بيت المقدس،بطيئة خجولة،أو متسارعة عجولة،وتراوحت طيلة فترة رئاسة إسحق شامير للوزراء،كانت أيام شامير بغيضة وخانقة،وفي تلك الأثناء كبر ابننا محمد وأصبح في العاشرة من عمره وصار يشارك في اعتصامات الأقصى،وكلما قبض عليه اليهود،كانوا يفرجون عنه حين يعرفوا أن والده طبيب سويدي يعمل في منظمة الصحة العالمية،ليس تمنناً ولكن لأنهم لا يريدون التورط مع جهة دولية،وعاصمة اوروبيةوحتى لا ينشر غسيلهم القذر، وتبقى أعمالهم المشينة في الظل: من اعتقال الأطفال وضربهم وتعذيبهم،لدرجة كسر العظام كما حدث فعلاً مع أحد الأطفال الفلسطينين ووثّق بالصوت والصورة، حتى أن الجنود هم أنفسهم يوثقون الصور ويبيعونها للصحفيين مقابل المال،وهذا السر في منعهم الصحفيين أصلاً من الإقتراب ويدفعونهم بالقوة،لهذه الدرجة من التردي الأخلاقي وصل جنود جيش الدفاع،،وأخيراً تولى إسحق رابين الوزارة وتنفس ياسر عرفات الصعداء حتى عقدت اتفاقية السلام المسماة أوسلو تبعاً لاسم العاصمة النرويجية التي عقدت فيها،وقبِل عرفات بكل المساحات الغامضة،والنصوص الملتوية،وأسلم أمره لله،وربما كان يريد إعطاء العذر لرابين أمام شعبه وحتى يكسب الإنتخابات القادمة ويحكم لفترة أخرى وحينئذ يحلها حلّال!
ثُمّ كانت الصدمة التي لم يتوقعها أحد باغتيال رابين،بعد مضي سنتين على الإتفاقية،وبأيد يهودية لم تعجبها مقولته الشهيرة التي عدّوها كفراً وتجديفاً:لن أقايض مستقبل إسرائيل بكومة من الأحجار المقدّسة.
وبموت رابين خسر عرفات الرهان،وعادت الأمور إلى المربع الأول وشيئاً فشيئاً لحس اليهود كل التزاماتهم ووعودهم،وفي الجانب الفلسطيني ظهرت حركة المقاومة الإسلامية حماس،ونفذت عدداً من العمليات الموجعة لليهود،واطلق عرفات يدهم ظناً منه أنه يضغط بذلك على إسرائيل وليدفعها إلى إحياء السلام من جديد.
في تلك الأثناء كبر محمد وأصبح رجلاً ونحن غزا الشيب مفارقنا وأوقفنا على ابواب الشيخوخة،وتعاقب على رئاسة وزراء إسرائيل شمعون بيريز وبنيامين نتانياهو وأيهود أولمرت،والذي أبدى بعض اللين بخصوص عملية السلام، وهو الأمر الذي استشعره زعيم المعارض في ذلك الوقت إرييل شارون،فاقتخم ساحات المسجد الأقصى،ليؤكد حقوق اليهود فيه،واشتعلت معركة حقيقية منذ حادثة الإقتحام في ايلول سنة ٢٠٠ وحتى عقد الهدنة في شرم الشيخ عام ٢٠٠٥،بعد موت عرفات وبقيادة خليفته محمود عباس!
كان توماس على يقين من أن عرفات سينتهي حيث انتهى رابين،لأن الأيدي الخفية في رأيه لن تغتال طرفاً وتترك الآخر حياً يتنفس، لا بد أن يكتموا أنفاسه هو الآخر ليلموا الثوب من أطرافه ويقفلوا الكفن على العملية بكاملها،وهو ما يسمونه في لغة الإستخبارات:التطهير،أي مسح آثار العملية برمتها،وهكذا انتهى عرفات مسموماً بمادة شعاعية،وخلا الميدان من أبطاله،وبقي اللاعبون الصغار وستطول اللعبة!
لم يبق لنا من شيء لنفعله على أرض فلسطين، ويبدو أننا سنعود إلى السويد مع شاب في العشرين هو ابننا الوحيد الذي لم يقدّر لي أن أنجب بعده ،لنقضي شيخوخة ملؤها الترقب والتوجس في انتظار ما سيأتي به الغد،وما يخبئه الغيب لأورشليم وأهلها،الذين نحن امتدادٌ لهم!!

ساورني شعورٌ غريبٌ بالحنين،ونحن نحزم حقائبنا،عائدين إلى ستوكهولم،وكنت أداري شعوراً خفيّاً بالخجل،أن أحنّ إلى أرضٍ غير فلسطين،أو أكون سعيدة على نحوٍ ما،وأنا أتهيّأ لمغادرتها،وكأنني أرتكب نوعاً من أنواع الخيانةّ!
ولكنّ هذا الحوار السرّي بيني وبين نفسي،لم يدم طويلاً،فانتمائي لزوجي هو امتدادٌ لانتمائي لوطني،إنه طبع الإخلاص الذي فطرت عليه،والذي نما في أحضان فلسطين وبين أفرع زيتونها وتينها،والذي جذب توماس إلي أصلاً،وحدا به أن يعتنق الإسلام،فللحب والصدق طريق واحد،ينبثق من أغوار القلب،ولا يضير في أي اتجاه ذهب،فليس للحب وجهةٌ خاطئة،فقد يذهب في الاتجاهات الأربع،وربما يتعدّى الأرض،ليطوف في أرجاء الكون،ولذا لم يكن غريباً أن يغمرني شعورٌ بالارتياح ونحن نحط على أرض مطار العاصمة ستوكلهم ،وتذكّرت قدومي الأول برفقة توماس،لهذا العالم الذي لم آلفه بعد،ولكنّني الآن وكأنّما أعود إلى وطني،ومتشوقة للقاء غرترود ومرغريت ،فلم ألتق بهما منذ غادرتانا آخر مرة من مصر،لقد مضى زمن طويل،لا بد أنهما الآن على أعتاب شيخوخة يجهدان في إخفاء خطوطها في وجهيهما،وتحرصان على طمس بياض الشعر بالصبغة،لا بأس،هذه سنة الحياة،وسيلحظان بدورهما أنني كبرت أنا أيضاً،وستدهشان لرؤية هذا الفرع اليانع الجديد من العائلة،الكونت محمد وريث اللقب،عجيبٌ كيف تقفز العلاقات الإنسانية فوق كل المحددات،بقانون وبغير قانون أحياناً!
استقبلتنا غرترود ومرغريت بفرحٍ بالغ،وشهقتا عجباً وهما تعاينان محمد وتغمرانه بنظراتهما المُخبّة:
-أنت الكونت الجديد إذن؟
يعانقهما محمد وهو لا يدري كيف يستجيب لهذه العاطفة الجيّاشة التي تبديها عمّتان لم يعرفهما من قبل،وتشجعانه بدعاباتهما:
-تحمل اسم نبي ايضاً !آوه!هذه ميزة لم تتوفر لكونت من قبل!
...
استقرّ بنا الأمر إخيراً،وبدأنا في تدارك كل ما فاتنا،لنملأ فجوات الزمن،غرترود تزوجت بيهودي،ومرغريت بقيت عازبة،ربما كان يجب أن يحدث العكس ولكن للقدر تدابيره ومفاجآته التي تفلت من الحسابات البشرية وتسخر منها في أحيان كثيرة!
ستوكهولم نفسها تغيرت،وبدت مزدحمة بالمهاجرين،وخاصة العرب،فلسطينيون ،سوريون، عراقيون،هاربون من جحيم الأوطان،إلى برد أشجار التندرا!
أحزنتني هذه الصورة كثيراً،انا القادمة من فلسطين للتو،إلى حيث يهاجر اليهودي من كل زوايا العالم التي حبته الأمن،إلى جنّة موعودة،بينما نفرّ نحن من جنّات الأوطان ،التي حوّلها الطغاة إلى جحيم،لنلتمس الأمن في كل زوايا العالم،حتى الثورات فشلت عندنا،الفرنسيون اقتحموا الباستيل بحفنة من المتمردين،وأطاح الروس بالقيصر بثلة من الحرس الأحمر سيئة التدريب والتسليح!
طغاتنا الذين ترعبهم أي خشخشة،شردوا الشعوب وبقوا ثابتين على كراسيهم!أحياناً أفكّر ضاحكة! ربما عليهم واقٍ من الله،ولكنهم لا يستحقون مثل هذه النعمة،لا بدّ أن لله حكمة في إبقائهم هناك إلى حين فلله في خلقه شؤون،ولا تحسبّن الله غافلاً عما يعمل الظالمون،إنما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار،فهم مجردون من كل فضيلة وموبوؤن بكل رذيلة،فلماذا يبالي الله في أي وادٍ هلكوا؟!
اقترحت غرترود اجتماعاً عائلياً مصغّراً نتعرّف فيه إلى زوجها وتعرفه إلينا،أما الإجتماع الكبير فسيكون أكثر رسمية،حيث سننصّب الكونت الجديد،وأومأت نحو محمد بابتسامة!
جلسنا في الصالون الكبير،وقدّمت غرترود زوجها،ثم أفاضت له حولي بكل التفاصيل،ولم يبد أنه تفاجأ،كان أشيب نحيل الوجه،يضع نظارة لقصر النظر،ودار حديث ذو شجون،لم يلبث أن عرج على فلسطين،وإسرائيل والعرب،والنزاعات الدائرة هناك،وقال صموئيل بغير تحفظ:
-أظن ان ما يجري هناك عبث في عبث،فاليهود خدعتهم الحركة الصهيونية وأوحت لهم أنهم ممثلي الله على الأرض وأنهم يقاتلون باسم الرب،ليقيموا هيكله ودولته!
وهذه كذبة كبيرة،أنا أعرف مؤسسي الحركة الصهيونية جيداً،معظمهم إن لم يكن كلهم ملحدون،لقد قرأت يائيل ديان،تقول أنهم أقاموا وطناً،حسناً ثم ماذا؟جردتموه من كل صفات الوطن! رفضتم العرض الذي لا يمكن لعاقل رفضه!
استعد الفلسطينيون لمقاسمتكم الأرض،ولكن صلفكم هيّأ لكم أنكم تستطيعون إخراجهم إلى التيه وإفراغ الأرض منهم ليخلوا لكم الهيكل!هل يوجد أكبر من هكذا حماقة؟!وزين لكم الشيطان الأمريكي حلم الدولة اليهودية وعاصمتها أورشليم وهيكلها المزعوم،إسحق رابين كان على وشك كشف الكذبة،فقتلتموه!
صموئيل يتحدث إلى اليهود بضمير المخاطب لا الغائب وكأنهم جالسون امامه،أو أنه يحاجج يائيل ديان وكأنه مشتبكٌ معها في سجال!
يلتفت إلي أخيراً ليقول:لم يعد لليهودي قضية أنا رأيت الشباب اليهود،بعد أن ينهوا الخدمة العسكرية يعودون إلى بلدانهم الأصلية :ألمانيا ولندن وحتى بروكلين في أمريكا،لينشؤوا حياة وعائلة،فهم يدركون أن إقامة حياة في إسرائيل هي مهمة مستحيلة!
أنتم الفلسطينيون الآن في وضع دفاع،ولا أحد يكترث بكم،لا الأوروبيون ولا إخوانكم العرب،الكل يصفق لإسرائيل،وهذا التصفيق بالذات سيقود إسرائيل إلى نهايتها،لأنه سيملأ رأسها غروراً،والغرور غالباً ما يقود الإنسان إلى حتفه،لأنه يحدوه إلى التهور والمبالغة والاستهتار بالآخرين،أليس هذا ما يفعله بالضبط هذا الأحمق نتنياهو؟ذو الرأس الكبيرة الفارغة؟
ينهي صموئيل خطابه ويلتفت إلى غرترود مستنجداً
-هل لي بكأسٍ من فضلك!
ثم يلتفت إلي مبتسماً ليقول:
لم يسبق لك ان سمعت يهودياً يتحدث هكذا!ربما فاجأتك قليلاً ولكنني لا أحب المغالطة!
ويتابع ضاحكاً:
-هل رأيت المتظاهرين الفلاشا اليهود وهم يهتفون الله اكبر مقلدين الفلسطينيين!لا بد أنك رأيتهم!لن يفوتك شيء كهذا!ألم أقل لك أنها كذبة كبيرة،لقد قدموا الدليل بأنفسهم،هم استقدموا الفلاشا باسم الدين ثم اضطهدوهم ونبذوهم،وترمب في الجانب الآخر من العالم يقوم بخنق السود!ماذا تسمين هذا؟إنها بذاءة فقط !هذا ما يمكن ان نطلق عليها!
يختم صموئيل حديثه ،يمد ساقيه ويسترخي،ويشرع في احتساء كأسه الذي قدمته له غرترود،ويظل على صمته،ونلتقط نحن خيط الحديث ونديره في كل اتجاه يحلو لنا،مستمتعين بذلك الجو العائلي،الذي افتقدناه طويلاً!
.........
مقامنا في ستوكهولم،لم يكن خاتمة المطاف، ولا نهاية
الطواف،فالخيوط والوشائج التي بنيناها حيث أقمنا هنا وهناك،ما تزال تشدّنا إلى هنا وهناك.
مرغريت ما تزال على اتّصالٍ بأحمد الشاب المصري الدليل السياحي الذي تعرٍّفَت عليه في الهرم،حتى بعد كل تلك السنوات.
توماس يهزّ رأسه أسى وهو يقرأ أخبار الثورات المضادّة في العالم العربي،ويشارك في النشاطات والندوات التي يقيمها الفلسطينيون والمسلمون.
ولا يثير ضحكه وغيظه في آنٍ معاً إلا حين يطالعه وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عبر إحدى الصحف أو المحطات،فيصفق كفّاً بالأخرى ويتساءل متعجّباً:لماذا يتّخذ التاريخ هذه المسارات الملتوية!هذا الرجل لا بد أنه قفز إلى عالم الواقع من إحدى صفحات الكاريكاتير!
انظري إلى نفاق الغرب:يرسمون رسوماً ساخرة للرسول محمد ويخلعون على هذا الأراجوز كل صفات التبجيل والاحترام،لا بل يتسامحون في جريمة قتل مواطن أوروبي الإيطالي جوليو ريجيني،فقط حتى لا تهتزّ صورة عميلهم السيسي!
هل هناك ما هو أكثر بشاعة وحطة؟
....
كنا جالسين على أحد مقاهي الرصيف أنا وتوماس،نرتشف قهوتنا الصباحية في استرخاء،انتبهت إلى أن ّ الرّجل الجالس في الركن الذي إلى يمين المدخل يحول نظره نحونا بين الفينة والفينة،وكأنه يودّ جذب أنظار توماس أو يتحين الفرصة ليتحدّث معه!
لفتُّ نظر توماس إلى ذلك،فالتفت نحوه ولم يلبث أن
صاح بدهشة بالغة:يا إلهي!هذا هو الضابط الإسرائيلي الذي اختطفني في القاهرة!
نهض توماس واتجه نحوه ونهضت أنا في أثره،نهض الآخر لاستقباله،وسرعان ما تصافحا بحرارة،وجأر توماس ما زحاً:
-ماذا يا رجل..هل تطاردني!
-لقد تقاعدت منذ زمن،الكلب العجوز لا يذهب لرحلات الصيد!إنها المصادفة المحضة!
-سبق وأن قلت لك ذلك ذات مرّة،أليس كذلك؟
-نعم وقد صدّقتك!
-صدّقتني بالفعل !ولكن بعد أن قلّبتني من الداخل للخارج!
يتضاحك الرّجل ويوميء لي بالتحية،وقد انتبه لحضوري للتو!ويعقّب مستردّاً جدّيته:
-الإجراءات الأمنية هي هكذا دائماً!
ينهض الرجل مودعاً،يوميء توماس برأسه،ويسرح متفكّراً في تصاريف القدر!
...
وكأنّ المشهد يتكرٍر،لم تمض أيام حتى طالعنا وجه الضابط من شاشة التلفزيون قتيلاً وقد أطلقت عليه النار في أحد شوارع ستوكهولم!
يضرب توماس كفّاً بكف ويتساءل ساخراً إن كانوا سيختطفونه هذه المرّة!
لم يحدث اختطاف ولكنّهم طرقوا باب بيتنا هذه المرٍّة،وعرفهم توماس قبل أن يعرّفوا بأنفسهم ودعاهم للدخول والجلوس وبادرهم بالقول:
-صدّقوني لقد كانت محض صدفة!
-نحن لسنا هنا لاستجوابك .لقد التقطنا طرف خيطٍ بالفعل،ولكننا نريد أن نعرف إذا كان قد قال شيئاً يمكن ان يساعدنا،لا بدّ ان نقلّب كل حجر!
يستأنف الرّجل:
-هل لك وجهة نظر فيما حدث،إذا كان لديك ما تقوله أياً كان ما يخطر لك على بال،ارجو أن تصارحنا به،ربما لا تظن ذلك،ولكن أحاديث الناس تساعدنا أحياناً أكثر من الأدلّة المادية ذاتها!
يعقّب توماس وقد اكتسى وجهه بجديّة مفاجئة :
-هذا ما أشاهده في الأفلام!ولكن إذا أردت رأيي،فإن مقتل صاحبكم ليس له بعد أمني أو سياسي،ولا حتى ما تطلقون عليه أنتم معاداة الساميٍة!
-ماذا إذن حضرة الكونت؟إلى أين جنح عقلك؟
ويجيب الكونت بشيء من السهوم وكأنه يستحضر أفكاره:
-أعتقد أنّها مسألة شخصية،حين يتقاعد الرجل بعد خدمة طويلة ومضنية فإنه يبحث عن المتعة،فتش عن المال أو المرأة،غيرة حب أو ديون قمار!
لا يبدو الرجل متفاجئاً وينهض منهياً الحوار وهو يتهيّأ للمغادرة:
- شكراً لوقتك الثمين أيها الكونت،لقد أجبتنا بصدق وبنية مخلصة،ونحن نقدّر ذلك كثيراً.-
-أرجو ان يكون الأمر كذلك.
يعقّب توم باقتضاب،وهو يشيّعهم إلى الباب!
.......
ظلّ توماس يتابع كل ما يستجد في قضية مقتل الضابط الإسرائيلي ،ويناقش معي أفكاره و كل ما يستجدّ فيها ويدوّن ذلك في دفتر مذكراته!
لقد أرّقه السؤال:لماذا يغتالونه على أرض السويد وفي ميدان مكشوف؟وكان بإمكانهم أن يستدعوه إلى أي مكان أو يستدرجوه ويصفوه بسرّية، ويخفوا معالم الجريمة،ويصعّبوا عمل البوليس!
تصفيته بهذه الطريقة تعني أنهم مستعجلين على تصفيته فاقتنصوا أول فرصة متاحة دون إبطاء،وهذا له تفسيرٌ واحد فقط،أنّ لديه معلومة يبتزّهم بها أو يطلب ثمناً لها،فأسكتوه قبل أن يبوح بها إلى طرفٍ ثالث،وخلفيته الأمنية بالطبع تتيح له الإطلاع على الكثير من المعلومات الحسّاسة التي تخفيها دوائر المخابرات.
الشرطة السويدية قبضت على فتاة أظهرتها الكاميرات برفقته في أحد المطاعم،ولكنّ الفتاة أنكرت معرفتها بأي شيء يتعلّق بمقتله،كتهديدات أو ما شابه،واضطرت الشرطة إلى إخلاء سبيلها.
ولأنه من طبيعة عمل الشرطة المثابرة والتربص،فقد وضعوا الفتاة تحت المراقبة،وحين ظهرت لأول مرّة برفقة شخص قبضوا على الشخص نفسه،والذي تبيّن أنّه سائح أمريكي،يعمل في أحد المختبرات البيولوجية في كاليفورنيا،الولايات المتحدة،واعتقدت الشرطة أنهم أمسكوا بطرف الخيط،لأن اللقاء تم في غرفة أحد الفنادق الصغيرة،في ضواحي ستوكهلم،والحرص على السّرّية غالباً ما يثير الشبهة،خاصّة أن الشرطة اتبعت تكتيكاً استفزازياًفي الاستجواب لينتزعوا منه إجابة آلية دون تفكير:
-حسناً ما الذي ستفعله بخصوص الحمل؟هل قابلتها لترتّب أمر الإجهاض،قبل أن يصل الخبر إلى زوجتك؟ نحن سنتكفل بذلك طبعاً!
وحين أقسم الرجل أنه لم يضاجعها أبداً لا في تلك الليلة ولا في أي ليلة قبلها،أنشبت الشرطة أظافرها في عنقه:
-ماذا كان موضوع اللقاء إذن؟
وتحت التهديد والضغط أدلى الرجل باعتراف كامل وحيث أوضحوا له أنه إذا خرج من عندهم ومعلوماته في رأسه فإنه كالشيك المليء فسيصرفونه على بنك جهنّم أما إذا أفرغها فسيكون مجرّد ورقة بلا قيمة، وسيكون بأمان خاصة أن الشرطة ستسرّب للصحف تفاصيل التحقيق ضماناً لحياته، فأصيب الرجل بالرهاب وانهار واعترف أنه مكلف من جهة فدرالية في الحكومة الأمريكية لاستدراج ليفي "الضابط الإسرائيلي المقتول" للتفاوض حول نوع من الفيروسات قامت إسرائيل بتطويره سرّاً ووضعت خطة لتجربته تجربة حية في مكان ما لا يعرفه هو،وكلّفت ليفي بإجراء التحرّيات وجمع المعلومات المطلوبة للتنفيذ،ولكن إسرائيل ألغت المشروع بناء على تقرير علمي مفاده أنه ،لو تسرّب إلى الجو،فلن يستطيعوا التحكم في مدى انتشاره بعد ذلك،وربما يقضي على إسرائيل نفسها،خاصة إذا كان موضوع التجربة قرية من القرى الفلسطينية داخل إسرائيل.
من المعروف في عمل الإستخبارات،أنك إذا وقعت فسيتركوك وحيداً،وينكروا صلتهم بك،وهذا ما حدث مع الأمريكي المسكين،ولكنه كان سعيداً لأن الشرطة السويدية لم توقفه،ولأنه كان في مأمن بعد اعترافه بكل شيء،حسب نصيحة الشرطة السويدية،الجهة الوحيدة التي كانت منزعجة هي السفارة الإسرائيلية والتي أصدرت بياناً أن الأمريكي مجنون،وأن المواطن ليفي لم يكن له أية صلة به،وأن كل ما أدلى به من معلومات كان من ابتداع خياله،وربما خطر له أن وقوعه في أيدي الشرطة والتصريح بما صرّح به سيجعل منه بطلاً،ويضعه تحت أضواء الشهرة التي حلم بها طويلاً وام يحظ بشيء منها في مجال عمله كعالم بيولوجيات.
هذه الإستراحة.
أحياناً تخدمك الأقدار،فلم يطل بحثي حتى عرفت أن زوجته جاءت إلى هنا، إلى ستوكهلم وأنها لا تزال هنا،وأنها تلحّ على السفارة الإسرائيلية بكشف قاتل زوجها.
استدعاؤها مباشرة ينذر الإسرائيليين وينسف جهودنا من أساسها،ويضعنا مجدّداً أمام طريقٍ مغلق،ولذا لابدّ من حدثٍ مفتعل يبدو عفوياً ليضعها بين أيدينا،ولكنّ ذهني ذهب إلى أبعد من ذلك،وأردت أن يبدو الامر للإسرائيليين شيئاً آخر غير تحقيق مباشر من الشرطة!
وهكذا دبّرت حادث سيارة خفيفاً لا يعرضها لخطر حقيقي،ولكنه يضعها بين ايدينا في المستشفى،وليس صعباً أن ندسّ طبيباً من طرفنا يجعلها تثرثر قليلاً قبل ان يشعر الإسرائيليون بأي شيء،فهم يعرفون أنّنا اكتشفنا وجودها هنا، ولا حتى أننا مهتمون بذلك الوجود،أو نعتبره مهماً للتحقيق حتى لو عرفنا،فهي مجرد امرأة دفعتها العاطفة للسعي في إثر زوجها،لعلها تكتشف شيئاً ما يريحها،وهم سيفترضون أن المبادرة ستكون من جانبها وأنها ربما تلجأ إلينا إذا يأست منهم!
جيمس كان طبيباً جيداً ومتعاوناً معنا،وطبعاً أحطناه علماً بكل ما يجب،ودربناه جيداً على المهمة!
ابدى جيمس كثيراً من العناية براحيل بذريعة أنها سائحة وضيفة،وأنها لا بد أن تعود بانطباعٍ جيد عن السويد والسويديين،واخيراً ألقى إليها بالطعم:
-لا بد أنك حزينة جداً لما حدث لزوجك يا سيدتي نحن آسفون جداً بالفعل!
لم تشك المرأة أبداً أن جيمس يستدرجها واندفعت لتقول:
-لقد كان رجلاً طيباً،لقد عشنا حياة طيبة،لا بل رغيدة،لقد كان حريصاً ان يوفر لنا كل ما نحتاجه،لقد طفنا في كل أنحاء العالم اثناء الإجازات وزرنا بلدانا كثيرة،واستمتعنا كثيراً!

-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى