مقتطف نزار حسين راشد - الطريق إلى أورشليم...الفصل الأخير بقية الرواية

تركها جيمس تسترسل دون أن يقاطعها...صمتت قليلاً،ومسحت دموعاً كادت تطفر من عينيها وواصلت حديثها بنبرة مشبعة بالأسى:
-هل ستدون ما أقول؟
-بالطبع!
على شخص ما أن يدون الحقيقة !
.....
المعبد اليهودي في شارع آلدرج،دعاية ككل أمريكا،ونقود،لم يتغير شيء منذ عهد المسيح عليه السلام:لا تجعلوا بيت ابي دكاناً للتجارة وبيع الحمام،رسوم الدخول البالغة ١٥ دولار للشخص،تذهب لصالح إسرائيل الفقيرة المسكينة!ضربت عليهم الذلة والمسكنة!
مقهى أو كفتيريا دانيال في مانهاتن،كنا جالسين نحتسي القهوة الامريكية مع فطيرة التفاح،وهي خير ما يتقنونه في أمريكا،فهي تقليد عريق،والسي.ان.ان تثرثر بنشرتها،حين توقفت أذني عند خبر لأتاكد من سماعه جيّداً:
مقتل الفتى الأسود مايكل براون في مدينة فيرغسون في ولاية ميزوري على يد شرطي أبيض..
هذا خبر سيتكرّر كثيراً في الزمن الامريكي،بغض النظر عمن يحكم أمريكا، ،ونحن الآن في عهد باراك حسين أوباما الذي علقت عليه إحدى الكاتبات بأنه يتصرّف كرجل أبيض،أفلا تكون العنصرية لون بشرة بعد كل هذا،بل ولاء لشيء ما،فكرة ما،أو تنكر لشيء ما أو فكرة ما
فقدنا شهيتتا،تركنا الفطائر والقهوة وخرجنا نضرب على غير هدى،فلا نرى غير الوجه القاتم لامريكا!،تطلل من دواخلنا المحبطة،لا من الشوارع الأنيقة،والبنايات الشاهقة!
لقد صدق توقعي إذن،تمثال الحرية يجب أن يحاكم بشهادة الزور!
لم نستطع حسم أمورنا،هل نذهب إلى الشواطيء لنخلو بأنفسنا،ونهرب من ضيق التتفس هذا الذي سبّبه هذا الخبر المروّع.
كنا هائمين على وجوهنا بعد أن أنهكنا الجوع،نبحث عن مطعم لنرخي سيقاننا المتعبة كأولوية مقدمة على الطعام،حين ربتت يد على كتف وداد،التفتنا معاً وقد تنبهت حواسنا،كان الوجه لعربي ابتسم في وجوهنا:ألست أنت وداد بنت أبو سمير من بيت حنينا!
ولم ينتظر ردّاً،انا من بلدك وأعرف والدك،صديق والدي،كان يهدي لنا البالونات والطائرات الورقية الملونة حين يأتي من القدس،وكنت أنت دائماً برفقته!
-أهلاً وسهلاً!أهلاً وسهلاً! فرصة سعيدة! تشرفنا...تبالغ وداد في الترحيب،إنها التقاليد العربية في قلب مانهاتن أمريكا!
ثم تردف:
-وماذا تفعل هنا في أمريكا؟!
-لقد جئت منذ ثلاثين سنة! أنا الآن أمتلك مطعماً عربياً وشقة في لونج آيلاند'وأدعوكم لتناول الغداء في مطعمي!
كل ما تشتهون من الأكلات العربية!
وتستدرك وداد:
-دعني اقدم لك زوجي توماس!
يصافحه بشدة ابن بلدنا الذي فاته ان يعرف عن اسمه!
يحاول كتم دهشته وهو يسأل بمرح:
-هل تزوجت من أمريكي؟لا بد أنك مقيمة هنا منذ زمن!
-لم تحزر! إنه سويدي،وتزوجته في القدس حيث كنا نعمل معاً وقد اعتنق الإسلام!أجيبك قبل أن تسألني!
يتضاحك الرجل ويشير لنا بيده:والآن إلى المطعم العربي ولكن أولاً إلى موقف السيارات! وتستوقفه وداد:
-قبل كل شيء،قل لنا ما اسمك أولاً!
يضرب الرجل جبينه براحته على الطريقة العربية:
-انا آسف ! انا سامي!سامي خلف! ابن ابو محمود!
-تشرفنا- تقول وداد! وننطلق!.
الفضاء المفتوح يحرر الروح ويطلقها في
ملكوت الله،أشجار النخيل تشيع في النفس السلام،وتذكرني بسورة مريم عليها السلام،تداخل الظل والضوء يرسم لوحة حانية،وكأنها عناق عاشقين،والطعام الحلال يريح الضمير أيضاً، وله مذاق مستساغ ومنعش،حتى أننا تخلينا عن فكرة زيارة المدينة الصينية،وضحكنا عالياً على فكرة مقالي الصراصير والنمل والحشرات،سامي اختفى عن المشهد بعد أن أوصى علينا بشدّة،لا يريد أن يسرق منا خصوصية الجلسة ولا حتى بإظهار الترحيب وحسن الضيافة.
تسرّبت الساعات من حولنا وكأنها دقائق،هذا ما تفعله الطمأنينة في النفس،تسرق منك الزمن،وأخيراً جاء سامي للترحيب ،تسرق منك الزمن،وأخيراً جاء سامي للترحيب بنا من جديد ودعوناه إلى الجلوس،وقال توم:
-لم يأت أحدٌ ليقدم لنا الشيك أو الفاتورة!
وضحك سامي:هذه ضيافة عربية!وبعد صمت هنيهة أضاف:
-هل تصدقون؟أشعر معكم وكأنني في بلدي!
ومن ثم مستفسراً:أين تقيمون بالمناسبة؟
ويغمز توم بعينه:في الريتز بلازا! لقد وعدتها بإقامة مترفة!
-ولماذا تتكلفون كل ذلك،لدي شقة مفروشة بإمكاني أن أستضيفكم بها!
وتنبري وداد معترضة:ماذا عن عائلتك،لا نريد أن نثقل على أحد!
عائلتي تقيم هنا في سكن ملحق بالمطعم،زوجتي مشرفة الطهو، ولكنها ليست هنا الآن وإلا لكنت قدّمتها إليكم!
أما الشقة الأخرى فهي في نيويورك،في المدينة،وهي الآن خالية ! ويضيف ضاحكاً:ما عليكم إلا أن تنتهزوا الفرصة!
وتسأل وداد في تشكك:
-وماذا عن الأولاد؟

ويجيب سامي بشيء من المرارة:
-الأولاد هربت بهم الزوجة الأمريكية! لا تدري لماذا! شيء شيطاني ينبت في رؤوسهن فجأة،مضى على ذلك سنوات،ولا أعرف لهم مكاناً ،حاولت ولكن عبثاً! أما عائشة فهي زوجتي الجديدة ،عربية،لي منها ابنة عمرها ثلاث سنوات،وجودهما الإثنتان في حياتي،يؤنسني ويملأ الفراغ الذي خلّفه الفقدان! ولا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا!
التجول في شوارع نيويورك ومراكزها المزدحمة برفقة سيدة محجبة هي قفز في الظلام،ولذا ارتأينا أنا ووداد أن نذهب في رحلة سياحية منظمة،واستفسرنا من استقبال الفندق،فابتهج وبدا البشر على وجهه:كأني كنت أنتظركما قال بمرح!بانضمامكما ستكتمل المجموعة:هناك رحلة إلى متنزه يللو ستون،هل تمانعان في الانضمام؟
تبادلنا النظر أنا ووداد ثم هززنا رؤوسنا بالموافقة!
وهكذا حلقنا لمسافة ثلاثة آلاف كيلومتر في هذه البلاد الشاسعة،مما جعلني أتساءل:ما الذي يجمعها معاً؟
وبالطبع لم أحر جواباً سوى أن الحياة البشرية تبدع روابطها بنفسها،أما دور السياسيين فهو وضع الأطر،ومد الخطوط بين مكوناتها المختلفة!للتكنولوجيا طبعاً دورها، في عالم اليوم ،وسائل الاتصال الالكترونية ووسائط النقل السريع والفعال،الطائرات النفاثة والقطارات السريعة وبالطبع الشركات التجارية الكبرى التي توزع منتجاتها وتخلق شبكة من المنافع مرتبطة بضرورات الحياة اليومية، عدا أن أنها توظف شريحة كبيرة من القوى العاملة التي تعمل بالتزامن في أنشطتها المتعددة كآلة كبيرة عملاقة!هذه هي امريكا إذن :آلة كبيرة عملاقة مترابطة الاجزاء وتعمل بفعاليةوككل مترابط!
ارتحنا كثيراً في المقصورة الخشبية التي آثرنا الإقامة بها،حتى أن رغبتنا تجددت ومارسنا الحب باستمتاع كبير!
البرنامج مرتب بشكل دقيق،رحلة لرؤية الوادي الكبير،سفاري لرؤية الحيوانات والحياة البرّية ،رحلة لرؤية البركان النشط باستمرار ،يوم في الشلالات ويوم في حوض جيزر!
لماذا يستمتع الإنسان في أحضان الطبيعة؟ إنها القداسة الأولى،سر الفطرة،سر الميلاد،كل أسرار الخليقة مجتمعة معا ،وكانها شيفرة العودة إلى الجنة التي تنحلّ رموزها تلقائياً وندلف من ذلك الباب السحري إلى جنتنا الاولى!
حتى الحب يصبح كوة نطلّ منها على عالم الأرواح،سبر لما وراء الممكن ،اكتشاف للحقيقة وراء حجب الغيب،استكناه للأسرار!
اليوم حزم الحقائب استعداداً للمغادرة،شعور غريب وكأنه استعداد للهبوط من الجنة إلى الأرض،والطريف أننا نهبط بالفعل ولكن بالطائرة،هذا الإختراع الإنساني العجيب الذي يأخذك إلى السماء،ثم يعيدك إلى الأرض،وكأن كل مانفعله في حياتنا على الأرض هو محاكاة لما كنا نفعله هناك في جنتنا الاولى،نبني الحدائق والمتنزهات ونجهد في تنسيقها وتجميلها،وكأننا نقيم جنة عدن! لنداري شعور الفقدان الفادح الذي يستحوذ علينا ويشغل أرواحنا، ما بين المهد واللحد!
وكأننا نطارد حلماً نظنه أصبح في المتناول ونحن نواصل انتقالنا من مكانٍ إلى آخر،لنتوقف عند نقطة في نهاية الشوط ونراقبه وهو يسحب خطاه مبتعداً كظل غزال هارب!
..
كانت عودتنا إلى ستوكهلم وكأنها نهاية رحلتتا حول العالم،ولكن قلوبنا معلّقة بالقدس هناك حيث ولد حُبّنا وحيث ولد توماس من جديد وهداه الله إلى طريق النور على حدّ تعبيره.
نتابع الأخبار حية على الشاشات ولا يدركنا اليأس من فداحتها،حتى حين سحقت الدبابة الإسرائيلية عظام راكيل كوري علّق توماس:لقد ذهبت إلى ربها شهيدة،لن يقتلوا أرواحنا ولن يقتلوا الإنسان فينا!
لقد عجزوا عن إقامة مذبحهم على أرض الأقصى،ورغم أنهم هم السلطة المحتلة ،ولكن للكون سيد غير المحتل،هو الله الذي توقفهم يده عن نصب مذبح وثني على الأرض التي يعبد فيها وحده ويسبح باسمه عباده المخلصون عليها ليل نهار،لا يحول بينهم وبين ذكره،لا صفوف الجند ولا عصيّهم ولا قبضاتهم ولا بنادقهم!
لقد جلبوا إلى كرسي الرئاسة بهلول القرية واسمه دونالد ترمب فمنحهم صك ملكية ،ومن سفهِهم هم المدعون بالإرث الإلهي،أنهم احتجوا بهذا الصك الورقي ،الصادر عمن لا يملك لا إرثاً ولا نسباً،ولاصحفاً مقدسة،ولكنه حبل الناس الذي يتذرّعون به بعد انقطاع حبل الله،لأنهم خانوا رسالته وكذبوا مسيحه وقتلوا رسله،وزعموا ان ذلك قدرهم المقدور!
القدر واقع لا محالة ولكن لكل قدر مقدور موعد،فانتظروا وعد الله فيكم،حين يجرف السيل كل تلك القناطر الرملية التي لا تنفكون تنصبونها في مجراه استباقاً للحظة الفيضان،وحتى ذلك الحين واصلوا هرجكم ومرجكم فسيسرقكم الوقت إلى أن تحين الساعة وتجليها لوقتها يد الله،فانتظروا وإنا معكم من المنتظرين!
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى