فتحي عثمان - المطارق والمسامير وخطوب السياسة الطارقة

إهداء لذكرى رحيل الصديق عبد الحكيم محمود الشيخ "حكيم"


هناك لوحة معبرة لرجل على هيئة مطرقة وأمامه وعلى خشبة مسامير مستقيمة وأخرى معوجة وكتب أسفل اللوحة "حكمة" أكثر تعبيرا وهي: "إذا كنت مطرقة فإنك سترى كل المشاكل مسامير". وهناك امتداد آخر للحكمة، ولكن هذه المرة بلسان أحد المسامير ويقول: "كلما كنت مستقيما كان الدق على رأسك أكبر." في إشارة إلى أن المسامير المعوجة تسلم من الدق، ولك، في هذه الحالة، خيار أن تمشى معوجا فتسلم، أو تمشي مستقيما، فلا يحتار عدوك فيك.
تبدو فكرة تأثير الهيئة والمهنة على وجهة النظر أساسية وإن كنت منسية في كثير من الأحيان لطبيعتها المعتادة التي تصرف عن "النظر" فيها. فالطبيب أول ما يلفت نظره مشية المريض، وطبيب الأسنان يشد انتباهه بريق الابتسامة وصف أسنانها، ومصفف الشعر ينظر إلى تاج الرأس، أما ملمع الأحذية فيفضل النزول نحو الأسفل ليرى لمعة الحذاء.
فكم من مطرقة، وبحكم إعدادها ومهنتها، تتأهب لتضرب رؤوسنا الضربة القاضية؟
مطارق السياسة وسياسة المطارق
ممارسة السياسة في أوطاننا هي دق متفنن ومتنوع على رؤوس شعوبنا "المطروقة على أمرها أو على رؤوسها." القرن الأفريقي، مثلا، فيه رجال سياسة عبارة عن مطارق شديدة البأس، تذكر بمطرقة "تور" رب الرعد والبرق في الأساطير الاسكندنافية. فبينما تثير مطرقة تور الرعد والبرق تثير مطارق الساسة عندنا غبار المعارك ودخان القتال وأسى الجراح.
على سبيل المثال،يحكم أثيوبيا عسكري سابق يرى المشاكل عبارة عن مسامير؛ ولا يقل عنه ضراوة خصومه من قادة اقليم تيغراي الشمالي، الذين هم عبارة عن مطارق جارية تلهث يمنة ويسرة لتبحث عن مسامير للدق وتحت وطأة دق الخصوم يصبحون هم ذاتهم عبارة عن مسامير. وفي العاصمتين اديس ابابا ومقلي تغيب المؤسسات التشريعية الحازمة والصارمة. شمالا وفي ارتريا: هناك المطرقة العجوز، الذي يرى شعبه مسامير، ويتعامل مع الآخرين بالدق الشديد. وهو لا يأنف عن التصريح جهارا نهارا أن الديمقراطية والمشاركة في الحكم لا تعنيه. أما في الخرطوم والتي تحولت بعد الخامس والعشرين من أكتوبر إلى ورشة كبرى للمطارق الصغيرة والكبيرة، فالدق على الرؤوس والأرواح لا زال مستمرا. ويتزامن هذا الدق مع تحولات كبيرة في البنية السياسية المشوهة للبلاد. ففي فترات حكم سابقة وتحت اختلالات التنمية غير المتوازنة والانفلات الأمني، اضطرت بعض حكومات السودان إلى "تفويض" سلطات الجيش إلى قبائل ومليشيات لحل مشاكل ما سمي حينا "بالنهب المسلح" "وبالتمرد حينا آخر" والآن جاءت المليشيات إلى المركز لتمسك على بزمام الأمور لأنها ترى نفسها قوة موازية لا تقل عن الجيش ومطارقه، ومعها انتقل العنف من الهامش إلى المركز، وبدأت المطارق تعمل كأسطوانات المحرك: طالعة نازلة. جنوبا هناك حاكم جنوب السودان المطرقة التي برعت في الدق أثناء الحرب الأهلية في أحدث الدول الافريقية. وإلى جنوب الجنوب هناك يوري موسيفيني مطرقة أوغندا المسلطة على رؤوس العباد منذ منتصف الثمانينات وهو الذي يشرع في إعداد ابنه، وزير الدفاع الحالي، للحكم والدق على الرؤوس لسنوات أخرى.
فلماذا ينظر العسكر كلهم إلى المشاكل كمسامير؟
المطارق ومستودع الخزف
تستطيع مطرقة واحدة تكسير مستودع كامل للخزف؛ كما تستطيع تحطيم عشرات الأقلام. ويعود ذلك أساسا إلى طبيعة المؤسسة المنشئة للعسكر وأهدافها. ففي ظل غياب بيروقراطية الدولة القومية فإن المؤسسة الأكثر تنظيما وتوظيفا ومخصصات ورعاية هي القوات النظامية. النخبة التي تعتلي هذه القوات لها عناصرها النفسية المميزة والخاصة وهي الشعور الطاغ بالمسئولية الوطنية والمعرفة الواثقة لمصلحة الوطن العليا وأمنه وواجب الحماية والدفاع عنه، والنظر إلى من هم خارج المؤسسة، خاصة الساسة، بأنهم عبثيون وذوي مصالح خاصة، وفي التعميم الأخير هم خونة لا يجب تسلميهم قياد الأوطان. والساسة في تطاحنهم وتعاركهم وضيق افقهم، يستحقون، بلا رأفة أو تعاطف متعاطف، النظر إليهم كمسامير، ومعاملتهم وفقا لذلك. فعندما ينقلب العسكر عليهم قلما ما يجدون وجيعا يشاطرهم الفقد. وانقلابات غرب افريقيا الأخيرة هي عمل متسارع للمطارق.
حتى في الولايات المتحدة وبموجب الشعور الذاتي للجيش ومسئولياته ومخصصاته يتحول الجنرالات الكبار إلى مطارق ضخمة بضخامة الجيش الذي يمثلون وحداته. ويزيد في قوة طرق المطارق الامريكية قوة المجمع الصناعي الحربي بكافة قواه والذي يرى كل مشكلة هي عبارة عن مسمار. مجلس الأمن القومي الأمريكي، والذي تأسس لمساعدة الرئيس في إدارة الأمن الداخلي والخارجي للبلاد في أعقاب الحرب العالمية الثانية هو ساحة الصراع بين العسكر المطارق والمدنيين، من دبلوماسيين، وحقوقيين، واقتصاديين، والخ. والصراع يأخذ بعدا أكبر بين ممثلي وزارتي الدفاع والخارجية بشكل خاص. وأشهر المطارق التي مرت على وزارة الدفاع الامريكية روبرت مكنمارا، المطرقة الامريكية التي اشتد دقها أثناء حرب فيتنام، ودونالد رامسفيلد عراب الحرب الامريكية على أفغانستان والعراق. كوفئ مكنمارا وكعادة المطارق التي تغادر الوزارة لتعمل في مجالس إدارة الشركات الكبرى، أو في "اوعية أو خزانات الفكر" Think Tanks
كوفئ مكنمارا برئاسة البنك الدولي، كما كوفئ خلفه بول وولفوفيتز بنقله من البنتاغون إلى البنك الدولي، والذي يترأسه حصرا أمريكي، كما يترأس الفرنسيون حصرا صندوق النقد الدولي. صراع المطارق والمدنيين في الولايات المتحدة غالبا ما يشار إليه بصراع الصقور والحمائم، وهو يعكس تماما وعلى أعلى مستوى عقلية المطرقة والمسمار. أما مطارق روسيا منذ عهد بطرس الأكبر وستالين والقيصر الأخير بوتين فهؤلاء القياصرة يعلمون يقينا بأن الامبراطورية الروسية السابقة أو السوفياتية لاحقا تقوم على اتحاد جبري، إذ لا يتفق الاتحاد المتوسع وحرية الاختيار، فكلما جاءت الديمقراطية تفككت الروابط، وتفكك الاتحاد السوفياتي خير شاهد. ومطارق الصين، الجاهزة للانقضاض، لو لا المخاوف من المآلات لاجتاحت تايوان في نصف يوم.

الطرق والتحليل والتخليل
لا تدق مطرقة مسمارا وإلا وهناك أصابعا تثبته أولا. وهناك دوما "لغة وخطاب" قبل وبعد كل دق. سبل تحلل وتخلل المسوغات. عندما نذكر التخليل فإننا لا نشير إلى تخليل الخيار والزيتون؛ بل نشير إلى مثال "تخليل اللحى الكثة" حتى يمر ماء الوضوء خلالها، وهنا يبدو تحليل اليوم تخليلا لتمرير ماء المسوغات والمبررات للمطارق لتمارس دقها وقرعها. وهي عملية، كما نشاهد في القنوات الفضائية، لا تخلو من نفع وتزلف وضحك على العقول، ولكنها تحاول تغطية الشمس حتى تكون كل دقة في مسمار في ظلام دامس؛ ولكن الأصابع التي تحاول أن تثبت المسامير لا تستطيع تغطية الشمس. ذلك عينه هو فشل سياق وخطاب التخليل المشاهد حاليا.
وبينما تحاول كل مطرقة تحويل حياتنا إلى ورش من الجحيم
تتحور في اسماعنا كلمات الغناء:
فنسمع المطرقة تحور أغنية ميادة الحناوي: "مسامير يا اللي ما دقتوا ولا عرفتوا مرة طعم الهوى".
وربما يأتيك من بعيد صوت مطرقة أخرى وهي تحور أغنية طلال مداح، في وعيد وليس في شكوى إلي: "مسامير وإيش ذنبي أنا". وكأن المطرقة تؤكد أن المسامير خلقت للدق، وأن المطارق لا ذنب لها في معاناتها. فعندها فقط تحسس رأسك بكل حرص حتى لا تأتيك ضربة مطرقة من حيث لا تحتسب.
والمفارقة الأخيرة هي أن المطارق في الورش الكبيرة وحتى يسهل تناولها غالبا ما تجدها معلقة على مسمار.





1643988274711.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى