كنت أسكن في حي متواضع. لكنه ليس في وسط المدينة ، بل هو على أطرافها. من حولنا توجد بيوت كثيرة هي أشبه بالعلب المضغوطة. عبارة عن مكعبات من الإسمنت لا تصلح لإلا لتكون أبراج مراقبة على الحدود. في حالتنا يعيش في الواحدة منها أكثر من خمسة أفراد. أب و أم و أولاد.
نحن خرجنا على هذا التقليد ، و جعلنا لبيتنا فسحة مهواة. زرعنا فيها شجرة عاقر لا تثمر. كان جذعها أقوى من عمود الإنارة الذي يحمل المصابيح المضيئة إذا ادلهم الليل. و إلى جوارها نبتة صغيرة. حوض نمت فيه أعواد البنفسج. قناديل زرقاء قاتمة ذات رائحة كنت أمضي أوقاتا طويلة و أنا أتأملها و أحلم بما هو خلف حدود هذه الحياة. بالإضافة إلى ذلك كنا ثبتنا على سقف كبرى حجرات بيتنا مثلثا من القرميد ، جملون يمنح المكان بهجة خاصة و نداوة بصرية ترتاح لها النفوس . على الإجمال ، كان بيتنا على النمط الغربي . مختلفا عما سواه و ملفتا للنظر.
و كنت أحيانا أرى شابا يميل إلى البدانة . قصير إلى حد ما ، يختلس النظر من بيتنا في الذهاب و المجيء ، و بيده عدة كراريس ذات أغلفة ملونة. و كانت له على وجهه البيضاوي نظارتان سميكتان بإطار أسود لكـنه مصنوع من العظم.
اعتقدت أولا أنه كان يرمق البيت و يتمنى لو أن أهله صمموا بيتهم على هذه الشاكلة. لكن فيما بعد علمت أنه كان يهتم بي أنا شخصيا. فقد التقت عيناه بعيني ذات مرة. و رأيت كم فيهما من إعجاب و خضوع. نظرة لا تراها إلا في عيون الكلاب التي تتبعك أين ذهبت و تتلقى منك التعليمات و تحرسك من الأخطار.
إنها نظرة متفهمة ليس بوسعي أن أشرحها بما يزيد على ذلك.
لا أعلم ماذا أعجبه بي. فقد كنت شاحبة اللون . عيناي صغيرتان . لا ترى مثلهما إلا في رأس قندس. و كانت جدائل شعري خشنة . غير أنني كنت على دراية كم هو صدري مستدير و منتفخ لمن هن في عمري . و بمقدورك أن تقول ذلك عن عجيزتي . فهي ملساء و مستديرة ، و ليست مسطحة أو عريضة مثلما هي الحال بالنسبة للأخريات.
ابتسمت له بعد عدة أيام من الإلحاح. كان كالعادة يقف تحت شمس المغيب أمام باب بيتنا و نظراته متوجهة إلى الشباك الذي أقف خلفه لأراقب من وراء الزجاج المارة و العربات التي تعبر ببطء و من ورائها سحابات غبار.
لم يرد علي بابتسامة مماثلة ، و لكن مد يده إلى نظارته ذات الإطار العظمي الأسود ، نظارات مقتبسة من أحد أفلام أنطوني كوين ، و ثبتها على وجهه بحركة خفيفة ، ثم ترك ورقة كانت بيده تسقط على الأرض.
تلك هي أول رسالة حب تلقيتها . و فيها موعد غرامي لي مع شاب من منطقتنا.
بعد أن ابتعد ببطء و بيده رزمة الكراريس ، خرجت إلى الشارع ، و أخذت الورقة ، كان الهواء قد عبث بها ، و كانت ملوثة بتراب الأرض و مدعوكة.
في داخل البيت ذهبت إلى زاويتي المفضلة بالقرب من حوض البنفسج ، و قرأت المحتويات.
لقد كانت مؤلفة من كلمة واحدة . ( أحبك ) . و فيها دعوة خجولة ، و فطرية ، و حزينة. مثلما هي حالنا دائما.
لم أفكر بالموضوع طويلا.
ارتديت لهذا اللقاء حينما حان موعده أفضل ما لدي. ثوب أحمر منقط بالأسود و له ياقة مخملية فاحمة. ثم غادرت البيت بحجة زيارة إحدى الصديقات.
لم يشك بي أحد لأنني أخذت احتياطاتي كي لا ألفت انتباههم. لقد وضعت زجاجة العطر في جيبي ، و حينما أصبحت في الشارع ، وقفت أمام الباب ، و دهنت ما وراء أذني و ما فوق الحواجب بمسحة خفيفة. و أصبحت لي رائحة البنفسج المفضلة. كانت الرائحة في الطريق إلى الموعد ذكية ، و لم تستطع أنفاس الروث و لا التراب و لا أكوام الزبالة أن تتغلب عليها.
كان مكان اللقاء هو كافتيريا على بعد شارعين من منطقتنا. مسيرة تقدر بحوالي ربع ساعة. دخلت هناك. و جلست خلف منضدة عليها كوب فيه ورود اصطناعية بألوان باهتة، و نفاضة سجائر . كانت حولي مناضد أخرى جلست عليها بنات وحيدات أو بنات مع شباب في وضعيات مختلفة ، طبيعية أو شائنة.
بعد هنيهة قصيرة رأيته و هو يأتي من باب الكافتيريا باتجاهي.
كانت على وجهه ابتسامة عريضة صفراء و غير مقنعة. و الكراريس ليست بيده . و كان شعره مسرحا و مفروقا من الوسط . و يلتمع بسبب المثبتات التي استخدمها و لا شك. الجل الأصفر أو الأخضر المعروف. و لم أجد النظارات التي يستر بها وجهه بالعادة. لذلك انتبهت كم هي عيناه غائرتان إلى الداخل و شاحبتان بظل باهت.
في الواقع لم يعجبني و هو أعزل من كراريسه و من النظارات الغليظة ذات الإطار الأسود العظمي الخشن . و لم يعجبني بتسريحة شعره الأنيقة المتكلفة عوضا عن الخصلات الشعثاء التي تفر في الريح برعونة مثلما ترى ذلك في صورة غيفارا أو تروتسكي.
لقد شعرت أنني لم أحضر لأقابل هذا المتأنق و المتحذلق . و ندمت على تلبيتي لدعوته...
.
عن موقع الف لحرية الكشف في لكتابة والانسان
نحن خرجنا على هذا التقليد ، و جعلنا لبيتنا فسحة مهواة. زرعنا فيها شجرة عاقر لا تثمر. كان جذعها أقوى من عمود الإنارة الذي يحمل المصابيح المضيئة إذا ادلهم الليل. و إلى جوارها نبتة صغيرة. حوض نمت فيه أعواد البنفسج. قناديل زرقاء قاتمة ذات رائحة كنت أمضي أوقاتا طويلة و أنا أتأملها و أحلم بما هو خلف حدود هذه الحياة. بالإضافة إلى ذلك كنا ثبتنا على سقف كبرى حجرات بيتنا مثلثا من القرميد ، جملون يمنح المكان بهجة خاصة و نداوة بصرية ترتاح لها النفوس . على الإجمال ، كان بيتنا على النمط الغربي . مختلفا عما سواه و ملفتا للنظر.
و كنت أحيانا أرى شابا يميل إلى البدانة . قصير إلى حد ما ، يختلس النظر من بيتنا في الذهاب و المجيء ، و بيده عدة كراريس ذات أغلفة ملونة. و كانت له على وجهه البيضاوي نظارتان سميكتان بإطار أسود لكـنه مصنوع من العظم.
اعتقدت أولا أنه كان يرمق البيت و يتمنى لو أن أهله صمموا بيتهم على هذه الشاكلة. لكن فيما بعد علمت أنه كان يهتم بي أنا شخصيا. فقد التقت عيناه بعيني ذات مرة. و رأيت كم فيهما من إعجاب و خضوع. نظرة لا تراها إلا في عيون الكلاب التي تتبعك أين ذهبت و تتلقى منك التعليمات و تحرسك من الأخطار.
إنها نظرة متفهمة ليس بوسعي أن أشرحها بما يزيد على ذلك.
لا أعلم ماذا أعجبه بي. فقد كنت شاحبة اللون . عيناي صغيرتان . لا ترى مثلهما إلا في رأس قندس. و كانت جدائل شعري خشنة . غير أنني كنت على دراية كم هو صدري مستدير و منتفخ لمن هن في عمري . و بمقدورك أن تقول ذلك عن عجيزتي . فهي ملساء و مستديرة ، و ليست مسطحة أو عريضة مثلما هي الحال بالنسبة للأخريات.
ابتسمت له بعد عدة أيام من الإلحاح. كان كالعادة يقف تحت شمس المغيب أمام باب بيتنا و نظراته متوجهة إلى الشباك الذي أقف خلفه لأراقب من وراء الزجاج المارة و العربات التي تعبر ببطء و من ورائها سحابات غبار.
لم يرد علي بابتسامة مماثلة ، و لكن مد يده إلى نظارته ذات الإطار العظمي الأسود ، نظارات مقتبسة من أحد أفلام أنطوني كوين ، و ثبتها على وجهه بحركة خفيفة ، ثم ترك ورقة كانت بيده تسقط على الأرض.
تلك هي أول رسالة حب تلقيتها . و فيها موعد غرامي لي مع شاب من منطقتنا.
بعد أن ابتعد ببطء و بيده رزمة الكراريس ، خرجت إلى الشارع ، و أخذت الورقة ، كان الهواء قد عبث بها ، و كانت ملوثة بتراب الأرض و مدعوكة.
في داخل البيت ذهبت إلى زاويتي المفضلة بالقرب من حوض البنفسج ، و قرأت المحتويات.
لقد كانت مؤلفة من كلمة واحدة . ( أحبك ) . و فيها دعوة خجولة ، و فطرية ، و حزينة. مثلما هي حالنا دائما.
لم أفكر بالموضوع طويلا.
ارتديت لهذا اللقاء حينما حان موعده أفضل ما لدي. ثوب أحمر منقط بالأسود و له ياقة مخملية فاحمة. ثم غادرت البيت بحجة زيارة إحدى الصديقات.
لم يشك بي أحد لأنني أخذت احتياطاتي كي لا ألفت انتباههم. لقد وضعت زجاجة العطر في جيبي ، و حينما أصبحت في الشارع ، وقفت أمام الباب ، و دهنت ما وراء أذني و ما فوق الحواجب بمسحة خفيفة. و أصبحت لي رائحة البنفسج المفضلة. كانت الرائحة في الطريق إلى الموعد ذكية ، و لم تستطع أنفاس الروث و لا التراب و لا أكوام الزبالة أن تتغلب عليها.
كان مكان اللقاء هو كافتيريا على بعد شارعين من منطقتنا. مسيرة تقدر بحوالي ربع ساعة. دخلت هناك. و جلست خلف منضدة عليها كوب فيه ورود اصطناعية بألوان باهتة، و نفاضة سجائر . كانت حولي مناضد أخرى جلست عليها بنات وحيدات أو بنات مع شباب في وضعيات مختلفة ، طبيعية أو شائنة.
بعد هنيهة قصيرة رأيته و هو يأتي من باب الكافتيريا باتجاهي.
كانت على وجهه ابتسامة عريضة صفراء و غير مقنعة. و الكراريس ليست بيده . و كان شعره مسرحا و مفروقا من الوسط . و يلتمع بسبب المثبتات التي استخدمها و لا شك. الجل الأصفر أو الأخضر المعروف. و لم أجد النظارات التي يستر بها وجهه بالعادة. لذلك انتبهت كم هي عيناه غائرتان إلى الداخل و شاحبتان بظل باهت.
في الواقع لم يعجبني و هو أعزل من كراريسه و من النظارات الغليظة ذات الإطار الأسود العظمي الخشن . و لم يعجبني بتسريحة شعره الأنيقة المتكلفة عوضا عن الخصلات الشعثاء التي تفر في الريح برعونة مثلما ترى ذلك في صورة غيفارا أو تروتسكي.
لقد شعرت أنني لم أحضر لأقابل هذا المتأنق و المتحذلق . و ندمت على تلبيتي لدعوته...
.
عن موقع الف لحرية الكشف في لكتابة والانسان