عبدالرزاق دحنون - ماهر لقموش في روايته الأولى " قصة وطنين"

رواية "قصة وطنين" للمهندس وحامل الدكتوراه في مقارنة الأديان ماهر لقموش الذي استطاع النجاة بعد فترة من الاعتقال في سورية ولجأ إلى أمستردام ليتنفس حرية شاسعة ويكتب روايته الأولى والتي صدرت حديثاً عن شرفات للنشر والدراسات أنقرة – تركيا مع بداية عام 2022 في 250 صفحة. رواية متعددة الزوايا والإضاءات، تتداخل فيها الأزمنة والشخصيات فتغرق بعض أجزائها في تفاصيل مقصودة عن أيام الثورة السورية التي لا تنتهي وعن مدينة إدلب حيث ولد الكاتب وعاش، وتنضغط في أجزاء أخرى حتى التقشف فتروي عن جزء يسير مما حدث من خلال شخصية المسيحي بطرس شكُّور وعائلته.

صفحات من السرد شديد الواقعية، وصفحات من الجمل الطائرة المركزة أشبه بشرارات مضيئة في عتمة صحراء العرب الرهيبة التي تدور أحداث الرواية في مثل جوها الرمادي الكافر بالأمل والجدارة الإنسانية، تجري الرواية على رسلها وتترك الحبل على الغارب. والغارب في اللغة هو أعلى مقدم السنام في البعير، ويضرب كمثل عند منح الحرية الكاملة، من دون قيد أو شرط. وكانت العرب إذا طلق أحدهم امرأته، في الجاهلية، قال لها: حبلك على غاربك، أي خليت سبيلك، فاذهبي حيث شئت.

إدلب المدينة السورية الصغيرة والتي شاركت في الثورة السورية بقوة وعزيمة والتي أصبحت-أي إدلب- أشهر من نار على علم، يُذكر اسمها من منبر مجلس الأمن وفي أروقة الأمم المتحدة ويذكرنها بالاسم "إدلب" رؤساء أمريكا وروسيا والصين والمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل بعد أن كانت مهملة منسية في الشمال الغربي من سورية. كانت هذه المدينة فيما مضى -والتي تدور أغلب احداث الرواية فيها- تتسع للجميع. جاء في الرواية: " كان أكبر خلاف بين اثنين في أحياء المدينة يُحلُّ في نفس اليوم، بكأس شاي وبوسة شوارب. النسمة لا تمر عليها، إلا بعد أن تتعطر برائحة الزيتون، زيتونها ليس كالزيتون، كذلك التين، الشمس فيها ليست كالشمس، كذلك القمر، أما الإنسان فتلك حكاية أخرى".

أصدقكم القول بأن السعادة تغمرني كلّما صدر أحد الكتب الجديدة لمؤلف من مدينة إدلب في الشمال السوري، هي مدينتي أنا الآخر، حيث ولدتُ فيها، ومن حقي الفرح لحظات في هذا الحزن المقيم الذي يُرافقنا في غربتنا القسرية، أعرف أهل إدلب جيداً، وأحببتُ الحياة فيها، ويكفيني، حتى أُحبها أكثر، أن الأديب الكبير حسيب كيالي ولد فيها، وكان من أهلها، وضمّن من شخصياتها الكثير من المطارح في مؤلفاته الروائية والقصصية والمسرحية، وحتى مقالاته وقصائده الشعرية، المنشور منها وغير المنشور، وكان يحمل "هموم" أهلها في حلّه وترحاله.

في الرواية: الإنسان في إدلب يُخلق خائفاً، ويعيش خائفاً، ويموت خائفاً، الخوف يُعشش في قلبه. الخوف من كل شيء أو قُل من لا شيء، وهل اللاشيء شيء حتى يُخيف؟! أجل، اللاشيء في إدلب شيء، لأن هذا اللاشيء يمكن أن يتطور في المستقبل إلى شيء ويسبب الخوف، فلسفة الخوف هذه رضعتها من شفتي أمي الرقيقتين، من نصيحتها التي ظلت تثقب بها أذني حتى مماتها، كلَّما هممت بمغادرة المنزل تقول: ابني، "أمشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة".

وها هو بطرس شكُّور يهيم في شوارع أمستردام بعد أن ترك إدلب وهاجر تلك الهجرة القسرية التي عبرت به دروب أوروبا ووصل أخيراً إلى هولندا بلد الفيلسوف "باروخ سبينوزا" لا يحمل في اهابه سوى الكبرياء والكرامة الإنسانية التي لا يستطيع أحد كسرهما، تنساب به الذكريات فيمسح بها قرابة عشر سنوات من الزمان يتداخل فيها الحاضر بالماضي يقدم بها سيمفونية ملحمية لعائلة مسيحية من إدلب مليئة بالأحلام حطمها الزمن الرديء والأنظمة المهترئة، إنها مثل لكل الوطن الذي يقتل أنبياءه ويمتص دمهم ويلفظهم كالكلاب الضالة. وفكر بطرس شكُّور بمرارة الغربة في بلاد الغربة والغربة في الوطن، فأين يذهب الإنسان؟ فكَّر بالاحتجاج على هذا العالم الذي لم يُدرك مأساته فلم يجد غير الانتحار حرقاً طريقاً للخلاص والاحتجاج في ساحة عامة في أمستردام وأراد أن يفعل ذلك فعلاً، فصرخ صرخة مدوية في السابلة: "أنا أخوكم بطرس شكُّور من سورية، ضاقت بي الحياة وجردتني الحرب من كل شيء ورمتني تحت هذا النصب، كغصن زيتون يابس لا يصلح إلا للحرق". ومع وصله إلى هذه المرحلة من فقدان الأمل في العدالة الدولية ولكن يظل بطرس شكُّور مرفوع الرأس رافضاً أن يزحف كالديدان في الظل البارد للطغيان، فيعود إلى نفسه في اللحظات الأخيرة بعد أن أنقذته أيد خيرة خبيرة ممدودة لاحتضانه، فيصرخ: "عدتُ يا سادة، عدتُ مع يسوع إلى حياة جديدة ووطن جديد". كلا، لم ينتحر بطرس شكُّور المسيحي من مدينة إدلب بل استبدل موطنه بوطن جديد لعل وعسى تبتسم الأيام له ويعتدل ميزان الحياة المائل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى