د. محمد العدوي - حمار زينب ومتون الأهرام

يحكي الإمام عبد الوهاب الشعراني عن نفسه فيقول إنه كان في أول حياته من علماء الشريعة وكان ينظر إلى المتصوفة نظرة متعالية وكان إذا خرج من الجامع الأزهر يمر على أحد هؤلاء وهو علي الخواص فيتعجب من التفاف المريدين حول هذا الرجل البسيط الذي يعمل بيده في صناعة الخوص فكان كلما مر عليه ينادي بصوت عال : " ما اتخذ الله من ولي جاهل " فينظر إليه علي الخواص ولا يرد عليه ، وبعد فترة من الزمن غاب الشعراني عن دروسه ليتزوج من فتاة تدعى زينب حيث كان يحبها حبا شديدا وكان يتلطف معها ويداعبها ويحملها على ظهره ويدور بها في صحن الدار مثلما يفعل الناس مع أطفالهم الصغار وعندما عاد بعد ذلك إلى دروسه خرج من المسجد كالمعتاد ومر على مجلس علي الخواص وناداه بعبارته المشهورة : " ما اتخذ الله من ولي جاهل " لكنه فوجيء هذه المرة بالمتصوف علي الخواص يرفع رأسه إليه ويبتسم ويقول : " بل اتخذه وعلمه يا حمار زينب " !!
يمكنك ألا تصدق هذه القصة التي رواها الشعراني بنفسه لأنها ذات طابع خرافي من وجهة نظرك وربما يصدقها آخرون من أتباع الشيخ بل ويصدقون أيضا أنه تكلم مع السيد البدوي في قبره ومد يده مصافحا له لتلقي العهد وهز هلال القبة وكان من أهل الخطوة .. لكن كل ذلك لا ينفي وجود الرجل تاريخيا في فترة زمنية معلومة حيث لا يمكن التشكيك في ذلك لمجرد أن قصصا أسطورية تحيط بشخصيته فقد ذكرته كافة المؤلفات التاريخية المعاصرة له من ناحية تاريخ مولده ووفاته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته وأهم الأحداث التي شارك فيها بل ومكان قبره خاصة وقد كان ذلك العصر حافلا بعدد كبير من مؤلفات السيرة الذاتية من أمثال الضوء اللامع لأهل القرن التاسع والكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة وخلاصة الأثر بأعيان القرن الحادي عشر وغيرها .. ومن غير المقبول رفض كل ما ورد عنه جملة وتفصيلا بسبب اختلاط السردية الدينية بالسردية التاريخية لأن ذلك من سمات التاريخ القديم كله ..
في كل الحضارات القديمة تم استخلاص السردية التاريخية من ثنايا السردية الدينية ولم يتم رفضها من قبل علماء التاريخ والآثار .. تاريخ الصين والهند وفارس وبابل في عصورها القديمة مرتبط ارتباطا وثيقا بالمعتقدات الدينية والأساطير الشعبية .. وجزء كبير من النقوش الأثرية للحضارة المصرية القديمة هو كتابات دينية محضة مثل متون الأهرام التي تحوي آلاف الأسطر من الترانيم والتعاويذ لمساعدة الملك المتوفي على العبور إلى الأمجاد السماوية والبعث بعد الموت واللقاء مع الآلهة والاستعداد للحساب .. معبد الأقصر يروي قصة المولد الإلهي للملك أمنحتب الثالث ومعبد الدير البحري يروي قصة الميلاد المعجز للملكة حتشبسوت وبنوتها للإله آمون .. وفي اليونان القديمة مهد الفلسفة كان تاريخها مرتبطا بآلهة الأوليمب والأبطال الخارقين .. كل ذلك كان مكتوبا إلى جوار الأحداث التاريخية الطبيعية التي رصدها المؤرخون من الآثار والبرديات أو الأعمال الأدبية ..
ولا شك أن الملوك في كل الدنيا هم الأوفر حظا في التاريخ لأنهم كانوا قادرين على ترك آثار عمرانية ملموسة باسمهم أو سك صورتهم على العملات .. لكن ما عداهم من الشخصيات مثل الكتاب والأدباء والشعراء والفلاسفة والأنبياء والفرسان لا يملكون هذا الترف وإنما تعرف سيرتهم من الكتب .. يروي لنا التاريخ سير الأنبياء العبرانيين وفلاسفة اليونان والمشرعين الرومان في السيناتو والآباء البطاركة في فجر المسيحية .. وربما أحاطت بهم هالات التمجيد ومبالغات الأتباع والمعجبين لكن ذلك لا يمنع من استخلاص الأحداث التاريخية من هذه الكتابات .. لا يمكن إنكار وجود روما قبل اتساع دولتها بحجة أن جيرانهم من الإغريق أغفلوا ذكرهم تماما في كتاباتهم وقت أن كانوا قبائل متفرقة ولم يلتفتوا لهم إلا مع طلائع جيوشهم وهي تغزو بلادهم بل العكس هو الصحيح حيث شهدت الجزيرة الإيطالية وقائع وأحداث داخلية كانت مقدمة لهذا البعث الامبراطوري الجبار ..
ومن الأحداث التي غيرت وجه العالم القديم خروج العرب من جزيرتهم لتأسيس واحدة من أهم امبراطوريات العصور الوسطى في سنوات معدودة .. ولا شك أن تاريخهم كان مرتبطا بالدين وأنهم كتبوا تاريخهم من وجهة نظرهم كما هو الحال مع كل الأمم والشعوب .. وربما كانت هيمنة الدين الإسلامي واللغة العربية على المنطقة دافعا للبعض لمحاولة التشكيك في الرواية التاريخية بسبب هجومهم على السردية الدينية بصورة فيها قدر كبير من المبالغة والشطط .. وقد وصل الأمر بالبعض إلى القول بأن العرب لم يخرجوا من الحجاز أساسا وأن الإسلام قد ظهر بين عرب الشام التابعين للبيزنطيين بزعامة الأمويين وبالتالي فهم يرون أن كافة أحداث السيرة النبوية ملفقة ومخترعة في زمن لاحق بما في ذلك وجود مكة والمدينة وقريش والقبائل والشعر الجاهلي وكذلك إنكار بناء المسجد الأقصى في زمن الفتح وحجتهم في ذلك أن مؤرخي الرومان لم يكتبوا عن فترة ما قبل معاوية ..
والحقيقة أن مستوى الكتابة التاريخية للعرب والفرس والرومان متقاربة في تلك الفترة بل كانت الكتابات العربية أغزر إنتاجا وأكثر انفتاحا على كل الثقافات كما أن بحر التاريخ واسع ولا يمكن لشخص مهما بلغت درجة علمه أن يصدر حكما نهائيا ويدعي أنه يملك كافة المعلومات حول حقبة زمنية ما كما لا يجوز تقديم الفرضيات على أنها حقائق دامغة دون دليل علمي معتمد ولا التشكيك في المراجع إذا خالفت الأهواء وإثباتها إذا وافقتها .. في الحضارات القديمة يجب الاعتماد على الآثار لأنها المصدر الوحيد أما في العصور الوسطى فتوجد الكتب المعتمدة على الروايات الشفوية في بلاد العرب وفي أوروبا أيضا .. أما رفض السردية التاريخية لارتباطها بالسردية الدينية فهو أمر يهدم التاريخ خاصة في بلد مثل مصر التي ارتبط فيها التاريخ بالدين منذ القدم .. كل آثارنا هي قبور ومعابد من أول الأهرام والكرنك والرمسيوم مرورا بالسيرابيوم والكنائس والأديرة وحتى المساجد والقباب والأضرحة ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى