خالد جهاد - الحرية تنبع من الذات

تووووت..توووووت..
تووووت..توووووت..
تتسارع ضربات القلب.. اللحظات تمر ببطء شديد.. لم يجب على الهاتف أحد..
صمت.. صمت.. صمت..
ماذا أفعل.. صديقي كريم لم يجب على الهاتف.. ماذا أفعل هل أكلم طبيبي النفسي؟ لا.. تذكرت.. انه مسافر..

دخلت الحمام لساعة كاملة حاولت فيها جاهداً البكاء كي أرتاح إلى أن نجحت، وفتحت صنبور الماء كي لا يسمعني أحد.. محاولات البكاء تشبه آلام المخاض.. عنيفة، متقطعة، مؤلمة، مباغتة وطويلة.. نمت بعدها من شدة التعب متجنباً التفكير في أي شيء.. لا أريد سوى نومٍ عميق ومتواصل لم أحظى به منذ سنوات.. أحب النوم لكنه لا يحبني، حب من طرف واحد مثل قصصي التي اعتدت أن أعيشها وكنت أخاف من مواجهتها، صحيحٌ أنني ظللت صامتاً ولم أبح بحبي.. لكن النتيجة كانت ستكون ذاتها.. كسرني قلبي كثيراً لكن عقلي كان يتدخل في الوقت المناسب..

لماذا لا أتحدث مع نفسي؟ لم لا أصارحها..فهي لن تخونني أو تفشي سري، أو ترقص على وجعي،لم الخوف؟..
تهيأت للحوار.. استلقيت في فراشي..

تذكرت أحلامي ومشاعري وحاولت تفسيرها وكلماتٍ لم أفهمها في حينها، لكنني اليوم أعيها تماماً..
إنه جسدٌ يتحرك في الحاضر، وقلبٌ ثابتٌ في الماضي..ولكن هل كان الماضي أجمل، أم أننا كبشر نميل إلى تقديس كل ماهو قديم.. فهمت أننا نحب الماضي لأنه مألوف ومعروف ومفهوم.. بينما الحاضر مهتز والقادم مجهول.. لذلك نتعلق بالماضي ونراه ملاذنا.. لأننا عرفناه..وخوفنا اليوم هو خوف من المجهول..

كثيراً ما كنت أتمنى أن أبوح بما أفكر به، لكن الإصطدام بمخاوفي من أن لا يتم فهمها، أو أن يتم التعامل معها على أنها ترف في زحام الحياة مع أنها ضرورة ملحة بالنسبة لي، ويضحكني كثيراً أن الكثير من هذه الأفكار تحولت اليوم إلى (موضة) فعندما يتم استهلاك كل شيء مادي تتحول المشاعر والأحاسيس والأفكار والآلام والفن والثقافة وللأسف الشديد حتى التدين إلى موضة و(تريند) هذه الكلمة اللعينة التي أكرهها من كل قلبي لجعلها من كل شيء جميل مجرد نزوة..

اليوم يصفني الكثيرون بالجرأة والتحرر لمجرد أنني أقول ما أؤمن به دون أن أكون محسوباً على أي طرف مع أنهم يصفونني أيضاً بالتحفظ، لكنني اكتشفت أن الجرأة هي تهمة جاهزة لكل شخص يحاول استخدام عقله ليحاول التفكير في ما قرر المجتمع سلفاً أنه (يجب أن يكون كذلك) وإن أتى البعض بالشيء ونقيضه دون أي اعتراض أو تساؤل، كما كان يقال عني في عائلتنا (نجمه خفيف) وتعني باللهجة الفلسطينية أنني أتأثر وأفزع بسهولة وكان البعض يتهامس ويرونني نوعاً ما وكأنني (درويش)، لكنني ببساطة أشعر بما حولي جيداً ونادراً ما خانني شعوري، كما أؤمن بالماورائيات وأؤمن بأن لكل شيءٍ رسالة وبأن الحيوان والنبات وما يسمى بالجماد يشعر ويتأثر ويبكي، لذلك قد أحزن لشيء لا يخطر ببال أحد وأتصرف بحياد مع ما يعتقده الناس مهماً لأني قد أراه مفتعلاً ومزيفاً أحياناً، لذا أعتبر شعوري بالأشياء نعمتي الأكبر وقنديلي الذي أستدل بنوره في حياتي، وبقدر ما كان البعض يرى ذلك علامة ضعف إلا أنهم لاحقاً أصبحوا يطلبون رأيي في حياتهم الخاصة بناءاً على(ذلك الإحساس) فزاد اقتناعي بشعوري والذي يحمل جانباً صعباً آخر يجعلك تشعر بالألم أكثر لأنك توقعته سلفاً مما يجعلك تعيش مخاوفك مراراً..

وأتذكر عندما أخبرني أحد الزملاء بإمتلاكي احساس الممثل فقلت له وقتها أنني كنت أفضل أن أكون ُمخرجاً، لأنني لعبت أدواراً كثيرة في حياتي وتشبعت بها لذا لن أضيف إلى التمثيل شيئاً.. فأن تكون مخرجاً يعني أن ترى العمل ككل وأن تملك العين والرؤية والضمير والقدرة على ضبط إيقاعه والتعامل بإحترام وأمانة وحرفية مع كل التفاصيل والأشخاص وكل من تشاركهم في عملك..

فسألني وقتها إن كنت محباً للسيطرة؟
فأجبته بأنني لا أتدخل في شؤون أحد حتى هو شخصياً، فكيف أكون متحفظاً ومحايداً إلا أمام مسألة أخلاقية وإنسانية وأكون مسيطراً؟
سألني إن كان سؤاله أزعجني؟
فقلت..كلا.. لأنه ببساطة غير صحيح فأنا أدافع عن حرية كل شخص طالما لم تؤذي الآخرين.. أما إساءة الفهم فقد اعتدت عليها لأنها ظاهرة ٌ عامة ولأن أحد أساتذتي أخبرني ذات يوم بأنه يحبني ويؤمن بي وبمواقفي وآرائي لكنه لا يمتلك جرأتي في التعبير عنها كي لا يخسر أحبته..

فهمته وقتها لكنني وصلت لمرحلة مهمة في حياتي لا تسمح لي بتقبل وجود شخص فيها من باب المجاملة أو الكذب كي أحتفظ به لإدراكي الحتمي أننا سننفصل يوماً ما عندما تمتحن المبادىء لذلك أبادر بالرحيل عن كل من يطلب مني الكذب تلميحاً أو تصريحاً.. دفعت باهظاً فاتورة صدقي منذ المراهقة فلماذا الكذب الآن والشعر الأبيض يتفتح كالأزهار في رأسي كل يوم.. أنا لا أخافه بل أحبه.. ويذكرني بكل ما تعبت لأجله وإن قل الحصاد، فكل شخص ٍ يراك كما يريد أن يراك وليس كما هي حقيقتك إلا نادراً.. وأخبر نفسي بأنني سأتخذ نفس الموقف لو عاد بي الزمن إلى الوراء..

وذات يوم عاتبني صديقٌ سابق وأخبرني بأنني منحازٌ للمرأة دائما ً.. لم أنفعل وسألته بما أنه يعرفني وكنا نعمل معاً هل رأيت مني سلوكاً غير لائق مع أي زميلة وأنت تعرف موقفي من قدسية العلاقة بين الرجل والمرأة؟
قال.. بصراحة لا.. لكنك في صف المرأة في أي نزاع.. فقلت له..أنا خارج المشهد.. أرى الأمور بحرية.. بعيداً عن التصنيفات وأحكم ضميري لا غير، وعايشت مرارة التمييز والإنحياز لذا لا أقوم به..
ولاحقاً كان نفس الصديق في حالة استغراب لمهاجمتي بضراوة إحدى الفتيات اللاتي كانت تحاول اغواء صديقٍ مشترك ومتزوج،حينها ضحك مني وقال لي (غريب) ؟
ففهمت قصده وأجبته بأن الحياة أكبر من رجل وامرأة.. الحياة انسان.. أطفال هذا الشخص يحبونني ويحترمونني وأنا متعلق بهم كثيراً لأن لا أطفال لدي وهم بمثابة أطفالي وهنا أنا أحميهم وأفكر بهم وبمصالحهم حتى قبل صديقي مع أنه طردها بحزم..
وعندما لاذ بالصمت أخبرته..أنا لا أنحاز إلا لما أؤمن بصوابه وان تخلى عني الجميع..

أرفض علاقاتٍ مبنية على الكذب والوهم.. أنا أحارب مخاوفي لأن كل ما خفت منه ومن فقدانه تحقق.. رأيته امتحاناً صعباً لكن أصبحت أكثر سلاماً ونضجاً وهدوءاً فلا حزن لإساءة ولا سعادة لمديح.. فنحن نعرف اذا صدقنا أنفسنا من نكون.. البوح هو الحرية الحقيقية.. البوح للنفس والإتساق مع الذات دون استنساخ الغير ومعرفة أن ما ينجح فيه الآخرون قد لا يناسبنا بالضرورة.. وأن الزائف يتلاشى مع الوقت.. كلنا سمعنا عندما كنا أطفالاً من باب التشجيع والمحبة بأن (كلنا واحد) ولكن لم يشرحوا لنا بأن المبدأ رائع لكننا نختلف كثيراً عن بعضنا دون عيبٍ فينا وعلينا فهم اختلافاتنا، وأن هناك من قد يرفضنا..
لذا علينا أن لا نخجل من هويتنا واخفاقاتنا وجروحنا وأن نتمثل بصورة زائفة لا تشبهنا.. فكلنا تألمنا وفقدنا وخسرنا وتعرضنا للخيانة والخذلان والتمييز.. علينا أن نحب الشخص الذي نراه في المرآة..علينا أن نختار طريقنا.. ونواجه مشاكلنا ومخاوفنا.. وأن نتصالح مع واقعنا ولا نخجل منه ولا من ألمنا.. دون انتظار أحد ودون الخوف من حكم الناس علينا.. افتح قلبك وتحدث مع نفسك ولا تخشى أن تتهم بالجنون.. أنت إنسان.. لا تخف.. لا تبكي.. انت حر حر حر..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى