أحمد عبدالله إسماعيل - يا ليتني..

باغت الأب الموت، تاركًا وراءه ثلاثة أبناء يديرون التجارة التي أسسها قبل عقود، وعاشت الأم في شقتها بالدور الأرضي في البناية التي أقامها، رافضة الإقامة مع أحدهم برغم حبهم لها.

عاش الأبناء في تماسك ونجاح، ولم يتوقفوا عن مواصلة أعمال الخير التي اعتاد والدهم عليها؛ فأكملوا قصة الكفاح.

بعد رفيق دربها، جلست وحيدة تتفكر في حالها، غير أنها أصرت على الاستمرار في شقتها مصغية لإذاعة القرآن الكريم تفتح ذراعيها لمن يمر عليها.

تملكتها الحيرة، وبخاصة أنها أصبحت في حاجة إلى من يرعاها، وأخذت تتحسر من الحرمان من أحب النعم إلى قلبها؛ إذ كانت تحلم أن تنجب بنتًا.

مكثتْ مع زوجات أبنائها، وأخذت تعيد الكلام، وتنطق بصعوبة، ولا تُحكم يدها المرتعشة السيطرة على ملعقة الطعام.

فوجئت زوجة ابنها الأكبر بوجود آثار تبول في موضع نومها! وبرغم أنها لم تنطق بأي لفظ جارح، إلا أنها هرعت إلى الهاتف!

سمعت الأم ما دار في المكالمة، وفكرت بقليل من الضيق وبدأ كل شيء بالدوران، جرحت الكلمات قلبها كشظية الزجاج غير أنها أسرّتها في نفسها ولم تبدها لهم، وتكرر بكل ألم ما حدث مرة ثانية خلال إقامتها مع زوجة ابنها الأوسط!

انتقلت للإقامة مع آخر العنقود، وتكررت المأساة، غير أن زوجته أزالت المُلاءَة في صمت، وطلبت منها في هدوء أن تستعد لأخذ حمام دافىء، وأقسمت عليها ألا تتردد في طلبها، وقالت:

-«كنا صغارًا لا نجيد التصرف، ولا نتحكم في أنفسنا، نكرر الكلام مرارًا، كم أسعدكم تحملنا!

كلما توجهت إلى المدرسة، أسعدتني ملاحقة عيني أمي من خلف الستائر تارة ومن الشرفات تارات أخرى، وعندما رزقت بالأبناء عرفت حقيقة الأشياء».

طلبت منها إعداد مائدة لكل أفراد العائلة في شقتها بالدور الأرضي.

انزوت الأم وحيدة في حجرتها المظلمة لبضع ساعات، ثم خرجت عليهم وقد انحنت إلى الأمام، وقد تم إعداد الطعام على أكمل وجه، وبينما هم يتحلَّقون حول منضدة الطعام يتملكهم العجب من تلك الدعوة غير المبررة، والكل ينظر في دهشة، والصمت الصارخ يغلف الجو!

قطعت كلماتها صمت الحجرة، التي لم يُسمع فيها سوى صوت تكات عقارب الساعة، استدارت فجأة وسرت قشعريرة خفيفة في رأسها، فقد حان الوقت أن تتكلم، وقالت بصوت ملؤه الحزن :

-«برغم قدرتي على تحمل نفقة ممرضة ترعاني إلا أنني سأخبركم بتفسير ما أنكرتم عليَّ من فعل، وما في نفسي من حاجة، وما يئول إليه أمري: سكبت على الأسِرَّة بعضًا من المياه النقية!

أحبكم أبنائي بنفس القدر، وأقسم عليكم أن تتركوا لي حرية اختيار المكان الذي أقيم فيه حتى يحين أجلي؛ أريد من تستُرني عند موتي؛ لذا سأقيم مع "عُلا"!

قبل دقائق، تواصلتُ هاتفيًّا مع دار الإفتاء لاستطلاع رأيهم الشرعي في أن أهَبها مما ورثت من مال برغم أنه لا يساوي ما تستحقه!»

وقفت الحاجة فاطمة والدموع تبلل وجنتيها، وقد تملك الجميع الذهول، والصمت قد ساد المكان إلا من صوت ضجيج نبضاتهم الخفَّاقة، وصرخاتهم المكتومة، ولسان حالهم يقول:

-«آه لو عادت عقارب الساعة إلى الوراء!»

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى