تساقطتْ شظايا من بصرها على وجهه ، وهو يقف وسط الحشد الذي يكتظّ به الرصيفُ المقابل، فرفعتْ رؤوس أصابع يدها اليمنى ولوّحتْ له بها بحذرٍ خشية أن لا يلتقط بصرُه تلويحتها فيقتنصها بصرٌ آخرمتطفل. لكنّ بصرَه، التقط تلك التلويحة الحذرة، فشقّ طريقه بين الزحام قادما ً باتجاهها . عَبَرَ الشارع بخطىً سريعة تلاحقه نظراتُ أحد رجال الحراسة الشزرة، والذي ربما راعى كهولته فغضّ الطرفَ عن عبوره من هذا المكان.
حين بلغ الرصيف الذي تقف عليه، دسّ جسده بين الحشد وشقّ طريقه بصعوبة إلى أن صار قريبا ّ منها فنشرتْ على وجهها ابتسامةً عريضة ً والتقطت إصبعين من كفّه اليمنى وصارت تضغط عليهما. همس لها: ” لكأنّ هاجسا ً أنبأني أنني سأراك هنا هذا اليوم. أين بقيّة العائلة؟” ردّت متضاحكة: ” لا أدري والله. فقد خرج كلّ منّا بصورة منفردة. هكذا تسير الأمورُ بيننا كما تعلم. ” أشارت عليه بأن يقف خلفها لتتخلّص من محاولات مراهق ٍ نزق ٍ الاحتكاك بجسدها، فامتثل، وتلك اللحظة شعرتْ بالراحة تغمرها. بإمكانها الآن أن تتحرك كما يحلو لها ما دامت في ظلّ حماية جسده وقد بدأتْ تتحرّك فعلا ً إذ شعر بأعلى ظهرها يلتصق بصدره وبمؤخّرتها تضغط على أسفل بطنه وصارت تحتكّ به. ضايقه ذلك، وكان يمْكن غيرَه أن يسيء تفسيرَ حركتها، لكنه يعرفها جيّداً ويعرف الظروف التي مرّت بها فتركها تتصرّف كما تشاء.
كانت المواكب تمرّ ببط ء شديد والمهرجانُ في أوّله: عربات مزيّنة ترافقها خيولٌ مطهّمة يعلو صهواتها فرسانٌ في ثيابٍ مبهرجة يبدون معها مثل الطواويس منفوشة الريش. هذه هي المواكب الآليّة إذنْ، سيلٌ لا ينتهي من العربات، وسوف تليها المواكبُ الراجلة، كما هو مثبّتٌ في برنامج المهرجان، تتقدّمها زهراتُ رياض الأطفال وهن بثيابهنّ البيض، يُنشدن بألسنة ببغاوات، تليها فرقُ الرقص الشعبيّ.
فجأةً رآها تستدير نحوه وتمسك بيده وتسحبه باتجاه الخارج وسط دهشته واحتجاجه، وإذ صارا خارج الحشد، أفلت يدَه من يدها وتوقف، فتوقفتْ، وتساءلت عيناه ” لماذا؟! ” قالت ” لقد شاهدنا ما يكفي، وكلّ ما تبقى إنما هو تكرارٌ في تكرار.” عقّّـّب محتجا ً: ” ولكننا لم نشاهد الجزء المهمّ بعد! ” قالت: ” وماهو الجزء المهم الذي لم نشاهده بعد؟!” قال مبتسما ً: ” يقولون إنّ موكب راعي المهرجان سيمّر في آخر المطاف، وانه سيأتي ممتطيا ً سنامَ بعير.” انفجرتْ ضاحكةً: ” وماذا بعد؟” ”وإنه سينثر صرر النقود على رؤوس مريديه. ” قالت مكذ ّبة ً: ” لا تصدّقْ. يقولون ذلك لكي يزيّنوا صورته، وهل تعتقد انه ينام على خزائن قارون ليقدّم المالَ إلى كلّ هذا السيل العرم من البشر؟ هيّا الى البيت . نبتعد عن هذا الضجيج وهذه الفوضى ونأخذ قسطا ً من الراحة. ” سحبته من يده فطاوعها مضطرّا ً .
سارت الى جواره بقامة منتصبة وبدت في عمر صُغرى بناته. لا أحد يصدّق أنها تجاوزت الأربعين وأنّ ابنها البكر اجتازمرحلة َ مراهقته وأن ابنتها تقف على عتبة المراهقة. رآها تختلس منه النظر بين حين وآخر فانتابه هاجسُ قلقٍ خفيّ وقال مناكدا ً: ” أراك لم تلتزمي بتعليمات ألجهات المختصّة!” تساءلت باستنكار: ” وماذا تقول هذه التعليمات؟!” ردّ متضاحكا ً: ” لقد طلبوا الينا أن نظهر بأزهى ما لدينا من ثياب وها أنت تلبسين هذه الجبّة السوداء الخفيفة فوق ثيابك وكأننا في مأتم وليس في مهرجان للفرح!” سألت: ” ولماذا يطلبون إلينا ذلك؟” رد ّ على عجل: ” لكي لا نجد من يقول اننا محضُ حفنةٍ من جياع حفاةٍ وعراة. كان عليك أن تظهري بما يوحي انك في حالة فرح.” احتدّ صوتُها: ” لم يطرق الفرحُ باب قلبي منذ تلك الليلة المشؤومة.” وجم وخشي من أن تستعيد صورا منً تلك الأيام فتنتابها نوبةٌ مخيفة. ولكنها أشاحت بوجهها عنه ً، ثم التفتتْ إليه وهمست ضاحكة: ” من أين جئت بكل هذه الوسامة؟” انفجر مقهقها ً: ” وسامة وأنا في وشالة العمر؟!” ردّت ملهوجة ً: ” بل ما زلت في ذروة شبابك. ” قال وهو يمسك بيدها ويستعجلها السير: ” دعينا من المزاح الآن. لنصل البيت أولا ً .“
كان الشارع خاليا ً من السابلة، لذلك لن يراهما أحد وهما يسيران يدا ً بيد ويتحدّثان بصوت مرتفع. ولو وقع بصرُ أحدهم عليهما فلن يساوره الشكُ، في أنه واحدٌ من أفراد العائلة. فمنذ أن غيّب الموت أخاه، وجد نفسه مسؤولا ً عن رعاية اسرته، فرعى الأبناء مثلما يرعى أولاده. فقد كان يولي زوج هذه السائرة إلى جواره رعاية متميّزة. وكان يحمله على صدره وهو صغير ولا يردّ له طلبا ً . لم يكن غريبا ً إذنْ أن يدخل البيت ويخرج دون استئذان، بل كان في ميسوره أن يدخل غرف النوم ويستلقي على أيّ سريرٍ يشاء عندما يريد أن ينام القيلولة. أما هي فليست من العائلة. انها من خارجها، وقد استحوذ عليها ابنُ أخيه بعد أن انتزعها من مقاعد الدراسة وهي في سنتها الجامعية الاولى.
كانت مهمّته شاقـّة حين مرت ّ بمحنتها السوداء. وتحمّل مسؤوليتها لوحده! انه يستذكر الآن تلك الأيام، أيام التنقل بين المستشفيات وعيادات الأطباء النفسانيين، وأيام النوبات الشرسة. يرى نفسه الآن في عيادة الطبّ النفسي وقد طلب إليها الطبيب أن تنتظر في صالة الانتظار بعد أن انتهى من تدوين ملاحظاته عنها، واختلى به. يسمعه يقول له : ” أهي ابنتك ؟ ” فيردّ : ” يمكنك أن تقول ذلك . ” فيعود الطبيب يسأله : ” هل هي متزوجة ؟ ” فيقول : ” ولها ولدٌ وبنتٌ . ” يصمت الطبيب لحظة : ” وزوجُها ؟ ” يزفر بعمق : ” غائب عنها منذ أشهر . لقد تعرّض الى ظرف صعب فهاجر الى بلد آخر . ” . يرى الطبيب يدوّن ملاحظاته ، ثم يرفع بصره نحوه ويسمعه يقول : ” لا أخفيك أنّ حالة ابنتك لا تخلو من خطورة . إنها تعاني جوعاً جسديا ً بسبب غياب زوجها عنها وقد يقودها ذلك أما إلى الانحراف أو الى معاناتها من نوبات شبقٍ جنونيّ فتصبح خطرا ً على مَنْ معها . لابدّ من أن تكون حذرا ً معها وتحاول إشغالها عن التفكير بزوجها . سأكتب لها بعض العلاج ولامناص من جلسات أخرى . “
أثار كلام الطبيب الرعب في داخله . إن أيّاً من الاحتمالين مخيف وخطير . فأوصى مَن في البيت أن يحسنوا التعامل معها وأن يتوخّوا الحذر منها في الوقت نفسه . أجهد نفسه في توفير كلّ ما يمكن أن يشغلها به ولم يغمضْ عين رعايته وعين حذره عنها .
انتبه الى انه انشغل عنها قليلا ً فالتفت اليها معتذرا ً : ” آسف .. لقد انشغلت عنك . ” قالت ضاحكة وهي تنوس برأسها : ” أين سرحتَ ؟ ” رد ّ قائلا ً : ” في مكان ٍ قريب . ” قالت : ” ربما في المهرجان وصرر النقود ! ” شعر كأنها مدّت إليه حبل نجاة : ” بالضبط . كيف عرفت ذلك ؟ لكأنك تقرئين ما يدور في رأسي ! ” تضاحكت : ” لقد حدست ذلك . ” حاول ان ينتقل الى موضوع يبعدها عن التفكير بما يمكن أن يعود بها الى الشك في ما قال ، فتساءل : ” كيف حال الولد والبنت معك ؟ ” ردّت ضجرة ً ” في أسوأ حال ! إنني لا أنام الليل ربعه بسببهما .. كانا معتادين أن يناما في فراش واحد في طفولتهما ، وأخشى أن يستبدّ بهما الحنينُ الى تلك العادة الآن . إنّ عين مراقبتي تظل يقظة عليهما في الليل مع أنّ البنت تنام الى جواري على السرير . ” قال محاولا ً التخفيفَ من غلواء شكوكها : ” لا أرى ما يدعو الى مثل هذه الشكوك . فأنتِ تعبتِ عليهما وأحسنتِ تربيتهما فلا مدعاة للمخاوف . ” سألتْ بصوت منكسر : ” هل تظن أنني أحسنتُ تربيتهما حقا ً؟ ” قال : ” بل أنا متأكدٌ مما أقول . وهذا رأي الجميع أيضا ً . ” ابتسمت عن رضا ودمعت عيناها من الفرح .
فجأةً وجدا نفسيهما أما م باب البيت . أخرجت المفتاح من حقيبتها اليدوية ودسّت به في ثقب القفل ، وما لبثتْ أن دفعت الظلفة وهمستْ : ” تفضل ! ” قال :” أنتِ أولا ً . ” ردّت بعناد طفوليّ : ” بل أنتَ أولا ً . أنسيتَ انك ضيفي ؟ ” نظر اليها معاتبا ًوما لبث أن انحشر من خلال الفُرجة التي أحدثتها حركةُ يدها وهي تدفع الظلفة ووجد نفسه في المدخل . رآها تدخل وتغلق الباب بالمفتاح . تساءل مستنكرا ً : ” لماذا بالمفتاح ؟! ” قالت ضاحكة : ” ذلك أفضل ! ” عاد يسأل : ” واذا جاء أحدُهم ؟ ” ردّت وهي تجتازه : ” لا تقلقْ . كلّ واحد له نسختُه من المفتاح . ” سارت ، فوجد نفسه مضطرّا ً للحاق بها . رآها تتجه صوب غرفة نومها فوقف متردداً . التفتتْ إليه وتساءلت مستنكرة : ” ما هذا ؟! هل هذه أول مرة تدخل فيها هذه الغرفة ؟ ” هزّ رأسه بالنفي فعادت تسأل :” ألم تنم القيلولة فيها أكثر من مرة ؟ ” هزّ رأسه مؤيدا ً هذه المرة . سمعها تقول بنبرة احتجاج : ” لماذا تتردّد إذن . تعال . انها في الأقل أبردُ مكان في البيت . ” رآها تفتح الباب وتدخل فحسم تردّده . دخل وكانت تقف وراء الباب وإذ اجتازها رآها تردّ الظلفة وتدير المفتاح بل وضعتْ قفلا ً صغيرا ًفي مزلاج الباب وقفلته . سرت في جسده هزّة خوف حقيقيّ . انفجر محتجّا ً : ” لماذا كلّ هذا ؟ ” ردّت متضاحكة وهي تسير صوب وسط الغرفة : ” لكي نكون أكثر أمانا ً .” لاحقها صوتُه المحتج :” ولكنكِ تضعيننا في موقف محرج . ماذا سيقول مَن يأتي ويجدتي مختليا ً بك وراء باب مغلق ؟! ” قالت دون أن تلتفت اليه : ” لا تحملْ همّا ً . لن يجيء أحدٌ منهم قبل أول المساء . تعال ولا تظلّ واقفا ً هناك . “
سار صوب وسط الغرفة هو الآخر ووقف على بعد خطوتين أو ثلاث خطوات وراءها . سمعها تقول : ” هذا جيّد . ليبقَ كلٌ منا في مكانه ونتحدّث وأحدنا يرى الآخر من خلال المرآة . ” هزّ رأسه حائرا :ً إنّ تصرفاتها لا تبدو سليمة هذا اليوم . رآها تفتح أزرار جبّتها السوداء وتنضوها عنها وترمي بها على السريرالقريب فانكشفت ذراعان رائعتان عاريتان وعنقٌ طويل . قال ممازحا ً ومناكدا ً وقد رأى أنّ الثوب الذي ترتديه تحت الجبّة أسودُ هو الآخر : ” ما هذا ؟ إنكِ سوادٌ في سواد الى قطع النفس ! ” تضاحكتْ : ” لا ليس الى هذا الحدّ ، فتحت ثالثَ سوادٍ ثمّة بياض . ” فكّت الربطة من رأسها ونشرتْ شعرها فبان لامعا ً متوهّجا ً تزينه شعراتٌ بيضاء قليلة متناثرة . قالت : ” كيف تراني الآن ؟ ” ردّ مجاملا ً : ” على أروع ما تكونين . ” عادت تسأل هل تراني جميلة ؟ ” قال : ” جمال روح وجسد يجتمعان معا ً . ” تساءلت على حين غرة : ” ومَن أجمل من الأخرى : أنا أمْ بطلة لوليتا ؟ ” تذكّر أنه كان قد جاءها برواية ” لوليتا ” أيّام محنتها وربما أخطأ في اختيار هذه الرواية . قال على عجل : ” أنتِ بالتأكيد ! ” عادت تسأل بغنجٍ طفوليّ : ” ألا ترى أنّ الفارق بين عمرها وعمرعشيقها مُشابه ٌ للفارق بين عمري وعمرك ؟ ” ضايقه سؤالُها ، لكنه ردّ مضطرّا ً : ” لا بالتأكيد . فبطلة لوليتا صغيرة السن ، أما أنت فامرأة ناضجة والحمد لله . ” التفتتْ اليه ونشرتْ على وجهها ابتسامة رضا : ” أ تراني جميلة حقا ً؟” ردّ مجاملاً : ” بل أكثر من جميلة . ” أدارت وجهها عنه وزفرتْ بعمق : ” لماذا هَجرني إذن ؟ ” شعرتلك اللحظة انها بدأتْ تنكأ جرحا ً قديما ً . قال محاولاً تبرير فعلة ابن أخيه : ” أنت تعرفين ما أصابه من جور . ” احتدّ صوتها : ” ما أصابه أصابني أنا أيضا ً . لقد تحمَلتُ من العناء أكثر مما يمكن إنسانا ً أن يتحمّله . ” عقـّب بصوت خفيض : ” أعرف ذلك . كان الله في عونك . ” قالت وقد أغمضتْ عينيها قليلا ً : ” انني بأمسّ الحاجة إليه الآن ليس من أجلي وإنما من أجل الولد والبنت . أعرف انه يتكفـّل بكلّ ما نحتاجه لكنّهما في حاجة إليه وهما في مثل سنـّهما . ” قال : ” ما تقولينه صحيح ، ولكنه منحك ثقته حين أودعهما لديك وقد كنتِ عند حسن الظن . بارك الله فيك . ” احتد صوتها : ” لماذا أجد من يحمّلني مسؤولية ما حدث و كأنني كنتث وراء هجرته ؟ ” ردّ متوددا ً : ” مخطىء من يحمّلك المسؤولية . لا أنت ولا هو تتحملان المسؤولية . اؤلئك الأشرار هم مَن يتحملها . عليهم اللعنة . ” ارتفع صوتها قليلا ً : ” لينتقم الله منهم شر انتقام . “
أطرقتْ قليلا ً وسرحتْ بعيدا ً وعلى حين غرّة قالت وقد هبطتْ نبراتُ صوتها : ” آه لوكنت معنا في تلك الليلة . خلعوا الباب الرئيسيّ ودخلوا الى البيت مثل اللصوص ثم اقتحموا هذه الغرفة علينا ونحن نيام ، فهببنا واقفين وبدأ الطفلان يصرخان فهدّدوهما بفوّهات البنادق . كنتُ أرتدي قميص نومي الشفـّاف وكان هو لا يستر جسدَه سوى سروالٍ داخليّ قصير . ” غطّت وجهها بيديها وهي تتحدّث بصوت خفيض : ” سحبوه أرضا ً وحاول أن يقاوم فلطموه على وجهه ولووا ذراعيه وراء ظهره وأوثقوا يديه بقطعة حبلٍ خشن وأنزلوا سرواله فوقف عاريا ً تماماً . أما أنا فقد أجبروني على أن أتعرّى وأن استلقي على السرير أمام ناظريه . رأيتُه ينظرإليّ بعينين ذليلتين ، دامعتين .. . ” صمتتْ للحظات ثم تهدّج صوتها : ” لقد أقاموا وليمة شهيّة على جسدي . تناوب ثلاثةٌ منهم عليّ ، أما الرابع فقد ظل واقفا ً يتسلّى بالمشهد ، أو ربما أنِفَ من أن يتناول من فضلات مائدة غيره . ” وانفجرت باكية ثم قالت بعد هنيْهة وهي تنهنه : ” سحلوا المسكينَ على الأرض كما تُسحل الفطيسة وخرجوا به وكأنهم لم يفعلوا شيئا ً . أعادوه الينا نصف انسان بعد أشهر . أهانوا رجولَتـَه مرتين : مرّة هنا وهو يراهم يغتصبونني ومرّة هناك . لماذا فعلوا به ذلك وهو لم يرتكبْ إثما ً حين أختلف معهم في الرأي ؟ ! ” انتبهتْ إليه عبر المرآة وهو يكفكف دموعه . مسح عبنيه بكمّ قميصة وتهدّج صوتـُه : ” لأنهم يخافون من كلّ رأيٍ مغايرٍ لرأيهم . ” طالت فترةُ صمتها بعض الشيء ومالبثتْ أن قالت : ” انني لأعجبُ كيف انني لم أحبلْ من أحدهم ! ” قال بأسى ً : ” احمدي ربك . ” رفعتْ بصرَها إلى الأعلى فاصطدم بعتمة السقف وغمغمت : ” لا أراه ! ” تلقـّف غمغمتها بغضب : ” إننا لا نراه بأعيننا ياابنتي ! ” أوشكتْ أن تصرخ في وجهه أن يتوقف عن مخاطبتها بـ “يا ابنتي” فهي تثير اشمئزازها ، لكنها تراجعتْ في آخر لحظة . وفجأة أدارت نحوه وجهَا ً مبللاً بالدموع قالت بلسان ليّن: ” لا تغضب أيها الوسيم . حقا ً لم تقل لي من أين جئت بكلّ هذه الوسامة ؟ ! ” هز ّ رأسه : ” أية وسامة هذه التي تتحدثين عنها ؟ أما ترين التجاعيد التي تملأ وجهي ؟! ” نظرتْ اليه بحنان وقالت بعناد : ” بل أراك في منتهى الوسامة والشباب . أنت بحُسن ِ يوسف تماما ً . تعال نلعب لعبة ! ستكون أنت يوسف وأنا امرأة العزيز . ” وتمتمت : ” وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك . “
أحسّ بخوفٍ حقيقيّ فها إنّ امارات النوبة أخذت تتّضح تماما ً . نظر صوب الباب فقالت متضاحكة : ” لا تُتعبْ نفسك . صحيح أنّ المفتاح موجود على الباب لكنّ القفل الصغير مقفل ومفتاحه مشبوك بزيق ثوبي بدبّوس . لن أدعك تفلت مني مثلما فعلت امرأة العزيز مع يوسف ! انظرْ ! ” ورآها ترفع ثوبَها الأسودَ وقميصّها الداخليّ الأسودَ الى وسطها، فيتكشّف مثلثُ القماش الأبيض وهو يضغط على أعلى الفخذين المرمريين وتلتمع سمانتا ساقيها الممتلئتان . أحسّ بها تتراجع نحوه وهي تقول : ” هيّا ياحبيبي ! ” شعر انها تريد أن ترتكب حماقة وتدفعه لأن يرتكب الحماقة نفسها ، ولكنْ هيهات . فها إنّ كلّ إيمانه بالقيم النبيلة ينهض في داخله الآن . قال بصوت هادىء : ” تعقـّلي يا ابنتي . ” تفجر صوت غضبها : ” لماذا تخاطبني بـ ” ياابنتي ؟ ! ” عاد يقول بما يقترب من الهمس : ” تعقّـّلي يا عفاف . ” لكنه رآها تتمادى وتقترب منه أكثر فتراجع على عجل وتراجعتْ هي في إثره حتى صار ظهرُه لصق الجدار وصارت تضغط عليه بجسدها وتحتك به . حاول أن يتحايل عليها . قال متوددا ً ” دعينا نذهب الى السرير . ” فكّرت للحظات وما لبثت أن قالت : ” لا .. لا.. قد أحبل منك ونحن على السرير، وأنا لا أريد ذلك . هنا أفضل . ” قرر أن يتخلى عن عاطفته وعن حذره مؤقتا ً. هذه لحظات حاسمة لن يدعها تتغلب فيها عليه . دسّ ، بعد تردد قصير ، يديه في فتحة زيق ثوبها وراحت يده اليسرى تحتوي هذا الثدي وتداعب حلمته تارة وتحتوي ذاك الثدي وتدعك حلمته تارة أخرى ، فبدأت تتراخي وهمستْ : ” نعم هكذا يا زوجي العزيز ! ” وصارت تزداد التصاقا ً واحتكاكا ً به ، وكانت أصابع يده اليمنى تبحث عن المفتاح حتى استطاعت أن تنتزعه من زيق الثوب . دسّ المفتاح الصغير في جيبه وسحب يده اليسرى فوجمت لحظة ثم تساءلت بصوت خفيض : ” لماذا توقفت ؟ ! ” قال : ” لأنّ اللعبة انتهت . ” صاحت : ” ماذا تعني ؟ ! ” ردّ : ” أعني ما أعني . انسحبي عني لأذهب وأفتح الباب .” قالت ساخرةً : ” كيف تفتح الباب ومفتاحُ القفل مشبوكٌ في زيق ثوبي ؟ ! ” تضاحك : ” كان . أما الآن فلا . ” مدّت يدَها الى صدرها وتحسّستْ موضع المفتاح وأطلقتْ صرخة حادة واستدارت نحوه وبدأتْ تلطم وجهَه : ” كيف سرقته مني ؟ ” أمسك يديها ورأى أنّ ذلك الوجه النورانيّ استحال الى وجه كائنٍ بشع . لوى ذراعيها وراء ظهرها , وظل ممسكا ً يديها بيد ، محاولا ً أن يكمّم فمها باليد الأخرى ليوقف صراخها لكنها أوشكت ْ أن تُنزل أنيابها على أصابعه لولا انه سحبها في اللحظة المناسبة . فجأة ًاستدارت بوجهها نحوه وصرخت به : ” مَنْ أنت ؟ لماذا أنت هنا ؟ مَنْ أباح لك أن تقتحم غرفة نومي ؟ وما هذا الذي تريد أن تفعله بي ؟ سأخبر زوجي. “
كان صوتُها يخترق جدران الغرفة . برقتْ في ذهنه فكرة . صاح بصوت أعلى من صوتها : ” بل أنا الذي سأخبر زوجك . ” خفتتْ حدّةُ صوتها : ” وبماذا ستخبره ؟ ” همس : ” سأخبره بكل ما أعرفه عنك ! ” وجدها تنزلق من يديه وتتهاوى على الأرض وهي تتمتم : ” لا تخبره أرجوك . دعني أبوس حذاءك . ” أدرك أنّ ذروة موجة نوبتها آلت الى الانكسار فاستبدّ به العطف عليها . انحنى وأمسك بكتفيها وبدأ يُنهضها من الأرض . وقفتْ بقامةٍ منحنيةٍ ، دامعةّ العينين وإذ التقى بصرُها بوجهه وتبيّنته وقد زالت غمامةُ النوبة عن عينيها ، ألقتْ رأسَها على صدره وأخذتْ تجهش بالبكاء !
بغداد-2008
- نشرت هذه القصة في العدد ( 1،2،3 شباط 2009) من مجلة الآداب
.
حين بلغ الرصيف الذي تقف عليه، دسّ جسده بين الحشد وشقّ طريقه بصعوبة إلى أن صار قريبا ّ منها فنشرتْ على وجهها ابتسامةً عريضة ً والتقطت إصبعين من كفّه اليمنى وصارت تضغط عليهما. همس لها: ” لكأنّ هاجسا ً أنبأني أنني سأراك هنا هذا اليوم. أين بقيّة العائلة؟” ردّت متضاحكة: ” لا أدري والله. فقد خرج كلّ منّا بصورة منفردة. هكذا تسير الأمورُ بيننا كما تعلم. ” أشارت عليه بأن يقف خلفها لتتخلّص من محاولات مراهق ٍ نزق ٍ الاحتكاك بجسدها، فامتثل، وتلك اللحظة شعرتْ بالراحة تغمرها. بإمكانها الآن أن تتحرك كما يحلو لها ما دامت في ظلّ حماية جسده وقد بدأتْ تتحرّك فعلا ً إذ شعر بأعلى ظهرها يلتصق بصدره وبمؤخّرتها تضغط على أسفل بطنه وصارت تحتكّ به. ضايقه ذلك، وكان يمْكن غيرَه أن يسيء تفسيرَ حركتها، لكنه يعرفها جيّداً ويعرف الظروف التي مرّت بها فتركها تتصرّف كما تشاء.
كانت المواكب تمرّ ببط ء شديد والمهرجانُ في أوّله: عربات مزيّنة ترافقها خيولٌ مطهّمة يعلو صهواتها فرسانٌ في ثيابٍ مبهرجة يبدون معها مثل الطواويس منفوشة الريش. هذه هي المواكب الآليّة إذنْ، سيلٌ لا ينتهي من العربات، وسوف تليها المواكبُ الراجلة، كما هو مثبّتٌ في برنامج المهرجان، تتقدّمها زهراتُ رياض الأطفال وهن بثيابهنّ البيض، يُنشدن بألسنة ببغاوات، تليها فرقُ الرقص الشعبيّ.
فجأةً رآها تستدير نحوه وتمسك بيده وتسحبه باتجاه الخارج وسط دهشته واحتجاجه، وإذ صارا خارج الحشد، أفلت يدَه من يدها وتوقف، فتوقفتْ، وتساءلت عيناه ” لماذا؟! ” قالت ” لقد شاهدنا ما يكفي، وكلّ ما تبقى إنما هو تكرارٌ في تكرار.” عقّّـّب محتجا ً: ” ولكننا لم نشاهد الجزء المهمّ بعد! ” قالت: ” وماهو الجزء المهم الذي لم نشاهده بعد؟!” قال مبتسما ً: ” يقولون إنّ موكب راعي المهرجان سيمّر في آخر المطاف، وانه سيأتي ممتطيا ً سنامَ بعير.” انفجرتْ ضاحكةً: ” وماذا بعد؟” ”وإنه سينثر صرر النقود على رؤوس مريديه. ” قالت مكذ ّبة ً: ” لا تصدّقْ. يقولون ذلك لكي يزيّنوا صورته، وهل تعتقد انه ينام على خزائن قارون ليقدّم المالَ إلى كلّ هذا السيل العرم من البشر؟ هيّا الى البيت . نبتعد عن هذا الضجيج وهذه الفوضى ونأخذ قسطا ً من الراحة. ” سحبته من يده فطاوعها مضطرّا ً .
سارت الى جواره بقامة منتصبة وبدت في عمر صُغرى بناته. لا أحد يصدّق أنها تجاوزت الأربعين وأنّ ابنها البكر اجتازمرحلة َ مراهقته وأن ابنتها تقف على عتبة المراهقة. رآها تختلس منه النظر بين حين وآخر فانتابه هاجسُ قلقٍ خفيّ وقال مناكدا ً: ” أراك لم تلتزمي بتعليمات ألجهات المختصّة!” تساءلت باستنكار: ” وماذا تقول هذه التعليمات؟!” ردّ متضاحكا ً: ” لقد طلبوا الينا أن نظهر بأزهى ما لدينا من ثياب وها أنت تلبسين هذه الجبّة السوداء الخفيفة فوق ثيابك وكأننا في مأتم وليس في مهرجان للفرح!” سألت: ” ولماذا يطلبون إلينا ذلك؟” رد ّ على عجل: ” لكي لا نجد من يقول اننا محضُ حفنةٍ من جياع حفاةٍ وعراة. كان عليك أن تظهري بما يوحي انك في حالة فرح.” احتدّ صوتُها: ” لم يطرق الفرحُ باب قلبي منذ تلك الليلة المشؤومة.” وجم وخشي من أن تستعيد صورا منً تلك الأيام فتنتابها نوبةٌ مخيفة. ولكنها أشاحت بوجهها عنه ً، ثم التفتتْ إليه وهمست ضاحكة: ” من أين جئت بكل هذه الوسامة؟” انفجر مقهقها ً: ” وسامة وأنا في وشالة العمر؟!” ردّت ملهوجة ً: ” بل ما زلت في ذروة شبابك. ” قال وهو يمسك بيدها ويستعجلها السير: ” دعينا من المزاح الآن. لنصل البيت أولا ً .“
كان الشارع خاليا ً من السابلة، لذلك لن يراهما أحد وهما يسيران يدا ً بيد ويتحدّثان بصوت مرتفع. ولو وقع بصرُ أحدهم عليهما فلن يساوره الشكُ، في أنه واحدٌ من أفراد العائلة. فمنذ أن غيّب الموت أخاه، وجد نفسه مسؤولا ً عن رعاية اسرته، فرعى الأبناء مثلما يرعى أولاده. فقد كان يولي زوج هذه السائرة إلى جواره رعاية متميّزة. وكان يحمله على صدره وهو صغير ولا يردّ له طلبا ً . لم يكن غريبا ً إذنْ أن يدخل البيت ويخرج دون استئذان، بل كان في ميسوره أن يدخل غرف النوم ويستلقي على أيّ سريرٍ يشاء عندما يريد أن ينام القيلولة. أما هي فليست من العائلة. انها من خارجها، وقد استحوذ عليها ابنُ أخيه بعد أن انتزعها من مقاعد الدراسة وهي في سنتها الجامعية الاولى.
كانت مهمّته شاقـّة حين مرت ّ بمحنتها السوداء. وتحمّل مسؤوليتها لوحده! انه يستذكر الآن تلك الأيام، أيام التنقل بين المستشفيات وعيادات الأطباء النفسانيين، وأيام النوبات الشرسة. يرى نفسه الآن في عيادة الطبّ النفسي وقد طلب إليها الطبيب أن تنتظر في صالة الانتظار بعد أن انتهى من تدوين ملاحظاته عنها، واختلى به. يسمعه يقول له : ” أهي ابنتك ؟ ” فيردّ : ” يمكنك أن تقول ذلك . ” فيعود الطبيب يسأله : ” هل هي متزوجة ؟ ” فيقول : ” ولها ولدٌ وبنتٌ . ” يصمت الطبيب لحظة : ” وزوجُها ؟ ” يزفر بعمق : ” غائب عنها منذ أشهر . لقد تعرّض الى ظرف صعب فهاجر الى بلد آخر . ” . يرى الطبيب يدوّن ملاحظاته ، ثم يرفع بصره نحوه ويسمعه يقول : ” لا أخفيك أنّ حالة ابنتك لا تخلو من خطورة . إنها تعاني جوعاً جسديا ً بسبب غياب زوجها عنها وقد يقودها ذلك أما إلى الانحراف أو الى معاناتها من نوبات شبقٍ جنونيّ فتصبح خطرا ً على مَنْ معها . لابدّ من أن تكون حذرا ً معها وتحاول إشغالها عن التفكير بزوجها . سأكتب لها بعض العلاج ولامناص من جلسات أخرى . “
أثار كلام الطبيب الرعب في داخله . إن أيّاً من الاحتمالين مخيف وخطير . فأوصى مَن في البيت أن يحسنوا التعامل معها وأن يتوخّوا الحذر منها في الوقت نفسه . أجهد نفسه في توفير كلّ ما يمكن أن يشغلها به ولم يغمضْ عين رعايته وعين حذره عنها .
انتبه الى انه انشغل عنها قليلا ً فالتفت اليها معتذرا ً : ” آسف .. لقد انشغلت عنك . ” قالت ضاحكة وهي تنوس برأسها : ” أين سرحتَ ؟ ” رد ّ قائلا ً : ” في مكان ٍ قريب . ” قالت : ” ربما في المهرجان وصرر النقود ! ” شعر كأنها مدّت إليه حبل نجاة : ” بالضبط . كيف عرفت ذلك ؟ لكأنك تقرئين ما يدور في رأسي ! ” تضاحكت : ” لقد حدست ذلك . ” حاول ان ينتقل الى موضوع يبعدها عن التفكير بما يمكن أن يعود بها الى الشك في ما قال ، فتساءل : ” كيف حال الولد والبنت معك ؟ ” ردّت ضجرة ً ” في أسوأ حال ! إنني لا أنام الليل ربعه بسببهما .. كانا معتادين أن يناما في فراش واحد في طفولتهما ، وأخشى أن يستبدّ بهما الحنينُ الى تلك العادة الآن . إنّ عين مراقبتي تظل يقظة عليهما في الليل مع أنّ البنت تنام الى جواري على السرير . ” قال محاولا ً التخفيفَ من غلواء شكوكها : ” لا أرى ما يدعو الى مثل هذه الشكوك . فأنتِ تعبتِ عليهما وأحسنتِ تربيتهما فلا مدعاة للمخاوف . ” سألتْ بصوت منكسر : ” هل تظن أنني أحسنتُ تربيتهما حقا ً؟ ” قال : ” بل أنا متأكدٌ مما أقول . وهذا رأي الجميع أيضا ً . ” ابتسمت عن رضا ودمعت عيناها من الفرح .
فجأةً وجدا نفسيهما أما م باب البيت . أخرجت المفتاح من حقيبتها اليدوية ودسّت به في ثقب القفل ، وما لبثتْ أن دفعت الظلفة وهمستْ : ” تفضل ! ” قال :” أنتِ أولا ً . ” ردّت بعناد طفوليّ : ” بل أنتَ أولا ً . أنسيتَ انك ضيفي ؟ ” نظر اليها معاتبا ًوما لبث أن انحشر من خلال الفُرجة التي أحدثتها حركةُ يدها وهي تدفع الظلفة ووجد نفسه في المدخل . رآها تدخل وتغلق الباب بالمفتاح . تساءل مستنكرا ً : ” لماذا بالمفتاح ؟! ” قالت ضاحكة : ” ذلك أفضل ! ” عاد يسأل : ” واذا جاء أحدُهم ؟ ” ردّت وهي تجتازه : ” لا تقلقْ . كلّ واحد له نسختُه من المفتاح . ” سارت ، فوجد نفسه مضطرّا ً للحاق بها . رآها تتجه صوب غرفة نومها فوقف متردداً . التفتتْ إليه وتساءلت مستنكرة : ” ما هذا ؟! هل هذه أول مرة تدخل فيها هذه الغرفة ؟ ” هزّ رأسه بالنفي فعادت تسأل :” ألم تنم القيلولة فيها أكثر من مرة ؟ ” هزّ رأسه مؤيدا ً هذه المرة . سمعها تقول بنبرة احتجاج : ” لماذا تتردّد إذن . تعال . انها في الأقل أبردُ مكان في البيت . ” رآها تفتح الباب وتدخل فحسم تردّده . دخل وكانت تقف وراء الباب وإذ اجتازها رآها تردّ الظلفة وتدير المفتاح بل وضعتْ قفلا ً صغيرا ًفي مزلاج الباب وقفلته . سرت في جسده هزّة خوف حقيقيّ . انفجر محتجّا ً : ” لماذا كلّ هذا ؟ ” ردّت متضاحكة وهي تسير صوب وسط الغرفة : ” لكي نكون أكثر أمانا ً .” لاحقها صوتُه المحتج :” ولكنكِ تضعيننا في موقف محرج . ماذا سيقول مَن يأتي ويجدتي مختليا ً بك وراء باب مغلق ؟! ” قالت دون أن تلتفت اليه : ” لا تحملْ همّا ً . لن يجيء أحدٌ منهم قبل أول المساء . تعال ولا تظلّ واقفا ً هناك . “
سار صوب وسط الغرفة هو الآخر ووقف على بعد خطوتين أو ثلاث خطوات وراءها . سمعها تقول : ” هذا جيّد . ليبقَ كلٌ منا في مكانه ونتحدّث وأحدنا يرى الآخر من خلال المرآة . ” هزّ رأسه حائرا :ً إنّ تصرفاتها لا تبدو سليمة هذا اليوم . رآها تفتح أزرار جبّتها السوداء وتنضوها عنها وترمي بها على السريرالقريب فانكشفت ذراعان رائعتان عاريتان وعنقٌ طويل . قال ممازحا ً ومناكدا ً وقد رأى أنّ الثوب الذي ترتديه تحت الجبّة أسودُ هو الآخر : ” ما هذا ؟ إنكِ سوادٌ في سواد الى قطع النفس ! ” تضاحكتْ : ” لا ليس الى هذا الحدّ ، فتحت ثالثَ سوادٍ ثمّة بياض . ” فكّت الربطة من رأسها ونشرتْ شعرها فبان لامعا ً متوهّجا ً تزينه شعراتٌ بيضاء قليلة متناثرة . قالت : ” كيف تراني الآن ؟ ” ردّ مجاملا ً : ” على أروع ما تكونين . ” عادت تسأل هل تراني جميلة ؟ ” قال : ” جمال روح وجسد يجتمعان معا ً . ” تساءلت على حين غرة : ” ومَن أجمل من الأخرى : أنا أمْ بطلة لوليتا ؟ ” تذكّر أنه كان قد جاءها برواية ” لوليتا ” أيّام محنتها وربما أخطأ في اختيار هذه الرواية . قال على عجل : ” أنتِ بالتأكيد ! ” عادت تسأل بغنجٍ طفوليّ : ” ألا ترى أنّ الفارق بين عمرها وعمرعشيقها مُشابه ٌ للفارق بين عمري وعمرك ؟ ” ضايقه سؤالُها ، لكنه ردّ مضطرّا ً : ” لا بالتأكيد . فبطلة لوليتا صغيرة السن ، أما أنت فامرأة ناضجة والحمد لله . ” التفتتْ اليه ونشرتْ على وجهها ابتسامة رضا : ” أ تراني جميلة حقا ً؟” ردّ مجاملاً : ” بل أكثر من جميلة . ” أدارت وجهها عنه وزفرتْ بعمق : ” لماذا هَجرني إذن ؟ ” شعرتلك اللحظة انها بدأتْ تنكأ جرحا ً قديما ً . قال محاولاً تبرير فعلة ابن أخيه : ” أنت تعرفين ما أصابه من جور . ” احتدّ صوتها : ” ما أصابه أصابني أنا أيضا ً . لقد تحمَلتُ من العناء أكثر مما يمكن إنسانا ً أن يتحمّله . ” عقـّب بصوت خفيض : ” أعرف ذلك . كان الله في عونك . ” قالت وقد أغمضتْ عينيها قليلا ً : ” انني بأمسّ الحاجة إليه الآن ليس من أجلي وإنما من أجل الولد والبنت . أعرف انه يتكفـّل بكلّ ما نحتاجه لكنّهما في حاجة إليه وهما في مثل سنـّهما . ” قال : ” ما تقولينه صحيح ، ولكنه منحك ثقته حين أودعهما لديك وقد كنتِ عند حسن الظن . بارك الله فيك . ” احتد صوتها : ” لماذا أجد من يحمّلني مسؤولية ما حدث و كأنني كنتث وراء هجرته ؟ ” ردّ متوددا ً : ” مخطىء من يحمّلك المسؤولية . لا أنت ولا هو تتحملان المسؤولية . اؤلئك الأشرار هم مَن يتحملها . عليهم اللعنة . ” ارتفع صوتها قليلا ً : ” لينتقم الله منهم شر انتقام . “
أطرقتْ قليلا ً وسرحتْ بعيدا ً وعلى حين غرّة قالت وقد هبطتْ نبراتُ صوتها : ” آه لوكنت معنا في تلك الليلة . خلعوا الباب الرئيسيّ ودخلوا الى البيت مثل اللصوص ثم اقتحموا هذه الغرفة علينا ونحن نيام ، فهببنا واقفين وبدأ الطفلان يصرخان فهدّدوهما بفوّهات البنادق . كنتُ أرتدي قميص نومي الشفـّاف وكان هو لا يستر جسدَه سوى سروالٍ داخليّ قصير . ” غطّت وجهها بيديها وهي تتحدّث بصوت خفيض : ” سحبوه أرضا ً وحاول أن يقاوم فلطموه على وجهه ولووا ذراعيه وراء ظهره وأوثقوا يديه بقطعة حبلٍ خشن وأنزلوا سرواله فوقف عاريا ً تماماً . أما أنا فقد أجبروني على أن أتعرّى وأن استلقي على السرير أمام ناظريه . رأيتُه ينظرإليّ بعينين ذليلتين ، دامعتين .. . ” صمتتْ للحظات ثم تهدّج صوتها : ” لقد أقاموا وليمة شهيّة على جسدي . تناوب ثلاثةٌ منهم عليّ ، أما الرابع فقد ظل واقفا ً يتسلّى بالمشهد ، أو ربما أنِفَ من أن يتناول من فضلات مائدة غيره . ” وانفجرت باكية ثم قالت بعد هنيْهة وهي تنهنه : ” سحلوا المسكينَ على الأرض كما تُسحل الفطيسة وخرجوا به وكأنهم لم يفعلوا شيئا ً . أعادوه الينا نصف انسان بعد أشهر . أهانوا رجولَتـَه مرتين : مرّة هنا وهو يراهم يغتصبونني ومرّة هناك . لماذا فعلوا به ذلك وهو لم يرتكبْ إثما ً حين أختلف معهم في الرأي ؟ ! ” انتبهتْ إليه عبر المرآة وهو يكفكف دموعه . مسح عبنيه بكمّ قميصة وتهدّج صوتـُه : ” لأنهم يخافون من كلّ رأيٍ مغايرٍ لرأيهم . ” طالت فترةُ صمتها بعض الشيء ومالبثتْ أن قالت : ” انني لأعجبُ كيف انني لم أحبلْ من أحدهم ! ” قال بأسى ً : ” احمدي ربك . ” رفعتْ بصرَها إلى الأعلى فاصطدم بعتمة السقف وغمغمت : ” لا أراه ! ” تلقـّف غمغمتها بغضب : ” إننا لا نراه بأعيننا ياابنتي ! ” أوشكتْ أن تصرخ في وجهه أن يتوقف عن مخاطبتها بـ “يا ابنتي” فهي تثير اشمئزازها ، لكنها تراجعتْ في آخر لحظة . وفجأة أدارت نحوه وجهَا ً مبللاً بالدموع قالت بلسان ليّن: ” لا تغضب أيها الوسيم . حقا ً لم تقل لي من أين جئت بكلّ هذه الوسامة ؟ ! ” هز ّ رأسه : ” أية وسامة هذه التي تتحدثين عنها ؟ أما ترين التجاعيد التي تملأ وجهي ؟! ” نظرتْ اليه بحنان وقالت بعناد : ” بل أراك في منتهى الوسامة والشباب . أنت بحُسن ِ يوسف تماما ً . تعال نلعب لعبة ! ستكون أنت يوسف وأنا امرأة العزيز . ” وتمتمت : ” وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك . “
أحسّ بخوفٍ حقيقيّ فها إنّ امارات النوبة أخذت تتّضح تماما ً . نظر صوب الباب فقالت متضاحكة : ” لا تُتعبْ نفسك . صحيح أنّ المفتاح موجود على الباب لكنّ القفل الصغير مقفل ومفتاحه مشبوك بزيق ثوبي بدبّوس . لن أدعك تفلت مني مثلما فعلت امرأة العزيز مع يوسف ! انظرْ ! ” ورآها ترفع ثوبَها الأسودَ وقميصّها الداخليّ الأسودَ الى وسطها، فيتكشّف مثلثُ القماش الأبيض وهو يضغط على أعلى الفخذين المرمريين وتلتمع سمانتا ساقيها الممتلئتان . أحسّ بها تتراجع نحوه وهي تقول : ” هيّا ياحبيبي ! ” شعر انها تريد أن ترتكب حماقة وتدفعه لأن يرتكب الحماقة نفسها ، ولكنْ هيهات . فها إنّ كلّ إيمانه بالقيم النبيلة ينهض في داخله الآن . قال بصوت هادىء : ” تعقـّلي يا ابنتي . ” تفجر صوت غضبها : ” لماذا تخاطبني بـ ” ياابنتي ؟ ! ” عاد يقول بما يقترب من الهمس : ” تعقّـّلي يا عفاف . ” لكنه رآها تتمادى وتقترب منه أكثر فتراجع على عجل وتراجعتْ هي في إثره حتى صار ظهرُه لصق الجدار وصارت تضغط عليه بجسدها وتحتك به . حاول أن يتحايل عليها . قال متوددا ً ” دعينا نذهب الى السرير . ” فكّرت للحظات وما لبثت أن قالت : ” لا .. لا.. قد أحبل منك ونحن على السرير، وأنا لا أريد ذلك . هنا أفضل . ” قرر أن يتخلى عن عاطفته وعن حذره مؤقتا ً. هذه لحظات حاسمة لن يدعها تتغلب فيها عليه . دسّ ، بعد تردد قصير ، يديه في فتحة زيق ثوبها وراحت يده اليسرى تحتوي هذا الثدي وتداعب حلمته تارة وتحتوي ذاك الثدي وتدعك حلمته تارة أخرى ، فبدأت تتراخي وهمستْ : ” نعم هكذا يا زوجي العزيز ! ” وصارت تزداد التصاقا ً واحتكاكا ً به ، وكانت أصابع يده اليمنى تبحث عن المفتاح حتى استطاعت أن تنتزعه من زيق الثوب . دسّ المفتاح الصغير في جيبه وسحب يده اليسرى فوجمت لحظة ثم تساءلت بصوت خفيض : ” لماذا توقفت ؟ ! ” قال : ” لأنّ اللعبة انتهت . ” صاحت : ” ماذا تعني ؟ ! ” ردّ : ” أعني ما أعني . انسحبي عني لأذهب وأفتح الباب .” قالت ساخرةً : ” كيف تفتح الباب ومفتاحُ القفل مشبوكٌ في زيق ثوبي ؟ ! ” تضاحك : ” كان . أما الآن فلا . ” مدّت يدَها الى صدرها وتحسّستْ موضع المفتاح وأطلقتْ صرخة حادة واستدارت نحوه وبدأتْ تلطم وجهَه : ” كيف سرقته مني ؟ ” أمسك يديها ورأى أنّ ذلك الوجه النورانيّ استحال الى وجه كائنٍ بشع . لوى ذراعيها وراء ظهرها , وظل ممسكا ً يديها بيد ، محاولا ً أن يكمّم فمها باليد الأخرى ليوقف صراخها لكنها أوشكت ْ أن تُنزل أنيابها على أصابعه لولا انه سحبها في اللحظة المناسبة . فجأة ًاستدارت بوجهها نحوه وصرخت به : ” مَنْ أنت ؟ لماذا أنت هنا ؟ مَنْ أباح لك أن تقتحم غرفة نومي ؟ وما هذا الذي تريد أن تفعله بي ؟ سأخبر زوجي. “
كان صوتُها يخترق جدران الغرفة . برقتْ في ذهنه فكرة . صاح بصوت أعلى من صوتها : ” بل أنا الذي سأخبر زوجك . ” خفتتْ حدّةُ صوتها : ” وبماذا ستخبره ؟ ” همس : ” سأخبره بكل ما أعرفه عنك ! ” وجدها تنزلق من يديه وتتهاوى على الأرض وهي تتمتم : ” لا تخبره أرجوك . دعني أبوس حذاءك . ” أدرك أنّ ذروة موجة نوبتها آلت الى الانكسار فاستبدّ به العطف عليها . انحنى وأمسك بكتفيها وبدأ يُنهضها من الأرض . وقفتْ بقامةٍ منحنيةٍ ، دامعةّ العينين وإذ التقى بصرُها بوجهه وتبيّنته وقد زالت غمامةُ النوبة عن عينيها ، ألقتْ رأسَها على صدره وأخذتْ تجهش بالبكاء !
بغداد-2008
- نشرت هذه القصة في العدد ( 1،2،3 شباط 2009) من مجلة الآداب
.