إبراهيم سلامه إبراهيم - المدرسة الأولى

هذا الكيان الصغير الذى تتداوله الأيادى بين تباين الأمكنة والظروف والبيئات، دون دراية عما يصيبه بقصد أو دون ، يُشَكَل وجدانه ،داخل رقعة الظروف المقسمة بين الأبيض والأسود يتنقل بينها كقطعة شطرنج .. كيان لا يملك من نفسه شىء ، ، فمن مكانٍ الى آخر ومن بيئةٍ الى بيئة ، تجعله فريسة الظروف ، كقطعة لحم تُقطّع و تُشوَى بلهيب النار بعد ان كانت فى جمود الثلج ، ثم توضع على مائدة ثرى ، تُهمل ولا تؤكل ، فتفسد ، والى قطة تلتهمها ..

عاش وحيداً .. وله من الأخوة ثلاثة .. يتيماً لم يفقد ذويه ..

فى الداخلية درس وتربى منذ بلوغه الرابعة من عمره ..

هكذا كانت مدرسة الراهبات الداخلية فى الخمسينات من القرن العشرين .. وُجِدت فى ذلك الوقت لمن هم يعملون فى أماكن منعزلة ، بعيدة عن المدنية ، يوضع الأبناء فيها لتلقى العلم والتربية والرعاية والمعيشة الكاملة الى حين يكبرون وتقوى قامتهم .. تلك المدرسة التى تقبع فى أطراف العباسية وصحراءها حين كانت صحراء فى ذلك الزمن ..


هناك تولته باهتمامها الراهبة " Sœur Vincent” ليست مصرية ولكنها تتكلم العامية المصرية بلكنه محببة الى قلبه الصغير ، فى منتصف الثلاثينات من عمرها بشرتها شديدة البياض كروحها المتوهجة ، وجهها مستطيل ذو معالم دقيقة يميل الى الحمرة الوردية كثير النمش ، وتنمو الشعيرات الدقيقة الخفيفة الكستنائة على جوانب خدودها ، نحيفة القوام الى حد ما ، عروس بملابسها البيضاء وغطاء الرأس ذو جناحين يهتزان كطيور النورس البيضاء التى تحلق على وجه المياه ..

اتخذها قديسته الخاصة وملاكه الحارس منذ اطلالتها الأولى له بابتسامة ظن منها انها تعرفه .. ومن يدها التى أمسكت يده كلما تجولا سوياً فى فناء المدرسة ، استلم مفاتيح الفكر الراقى على صغر سِنّه .. فى محرابها نهل من الرقى والحب والحنو والذوق والتذوق .. فتفوق منذ أن حَبَى فى الحروف ، فزادته من جرعة الحب .. أحس بأهميته فى الحياة ، زرعت القوة والطاقة بروحه ، حسّنت فيه مخارج المشاعر ..

لم يكن له أسم دلع كما لكل الأطفال ، فاسمه من الأسماء القديمة .. قيل له انه اسم أبو الأنبياء .. كانت قديسته تنطق باسمه بلحن كروانى جميل .. أحب اسمه من فمها .. والغريب انه بدء يسمع نفس اللحن عندما يسمع اسمه على لسان الراهبات ، حتى تلك الراهبة الجادة الخشنة فى التعامل .. اكتشف انها رقيقة فى حقيقتها ، عندما كان فى المطعم وأثناء مضغ الطعام اصيب بما يسمى شرقة شديدة ، فى لحظات وجد هذه الراهبة أمامه بكوب من الماء ، تطبطب على ظهره ، لم تتركه حتى هداء واطمئنت عليه ، وعندما نطقت باسمه وجد نفس اللحن الكروانى ذو الجرْس الرائع .. فأحب اسمه القديم الذى لم يكن يشبه تلك الأسماء الحديثة فى ذلك الزمان ..

شجعته قديسته على ممارسة طقوس الحب ، فممارسة الحب عبادة ترقى بالروح .. وأول الدروس العملية لممارسة الحب ، عندما ادخرت جزءً يسيراً من مصروفه الشهرى .. أضافت اليه واشترت له قارورة عطر شهير "ريف دامور" .. اوصته ان يهديها الى أمه فى عيدها .. بعد أن علمته أن للأم عيداً ، فهى منبع الأعياد وحاملة الهموم بالوكالة ومرضعة السعادة ..

عندما حضرت أمه فى هذه الزيارة .. وفى أول هدية يقدمها الى شخص أمه ، وقف أمامها ومد يده اليها بقارورة العطر .... حملقت غير مصدقة .. أعجبه انبهارها ، نظر الى يده مبتهجاً فوجد نجمة من السماء فى يده تبرق ، تضىء وجه أمه ببهجة لم يعهدها قبلاً ، نظر خلفه يراقب قديسته ، ليتأكد من وجودها ودعمها ، فهاله هالة الشعاع المنير حول رأسها ، أدار رأسه مرة أخرى فوجد نفس الهالة المشعة تحيط رأس أمه ، نزلت اليه لتطوله ، قال لها "كل سنة وانتى طيبة ياأمى ، أشكرك من قلبى" .. رفعته أمه عالياً وقد رأى النجمة ترتفع للسماء رغم الضحى ، احتضنته وبكت .. أحس بحرارة فرحة دموعها ، وطعم حلاوة قبلات شفتاها على خدوده ..

دفئ لذيذ سرى فى جسده ، لا يتذكر متى كان آخر حضن احتواه .. أحسَّ انه لم يُسعَد منذ زمن بعيد .. وهو الطفل الذى لم يكن لعمره زمناً ..

لقد تركت تركيبة تلك المدرسة وبيئتها بمن منها وما فيها ، تأثيرأً واضحاً وممتدأً على حياته ..


غدا صبياً ، بعد ان أنهى الصف الثالث ، فقد أصبح يعتمد على خدمة نفسه بنفسه ، فكان لابد ان ينتقل لمدرسة خارجية ، مدرسة للرهبان الفرنسيسكان لاستكمال رحلة التعليم .. كانت المدرسة الجديدة بحى شبرا القريبة من مسكنه الجديد والذى انتقلت اليه أسرته حديثاً .. هناك سلمته قديسته بيديها بعد أن قامت بالاجراءت اللازمة ليصبح الطالب الجديد بالصف الرابع ، وَدّعته و أوصته بدوام التفوق .. لم يستوعب بعد انه كان وداعاً ، ظن انه مجرد تغيير مكان .. و لكن كل الأجواء تغيرت ، لم يعد هناك راهبات لم تعد هناك مواعيد الطعام المنتظمة ، او النوم فى الميعاد .. و الأهم من كل ذلك ، لم تعد قديسته اليه !! فهل تخلت عنه لأنه كبر ولم يعد طفلاً ؟ لم يعد هنا ملاك حارس ..

صباحاً الى المدرسة يذهب ، ويعود بعد انتهاء اليوم الدراسى لمنزله وسط اخوته وذويه .. لم يستطع التآلف معهم فى البداية .. أصرّ ان يكون وحيداً ، دخل الى ذاته ، يفتش عن مجتمعه الذى اخذوه منه .. افتقد قديسته رغم وجود أمه .. مكسوراً ظل منطوياً .. حاول ان يتأقلم مع وضعه الجديد بعد ان فقد المجتمع الذى ترعرع فيه .. لم يكن له سوى صديق واحد من نفس بيئته تقريباً ، انه نبيل ذلك الصديق الذى كان يصرّ على ملازمته ، واخراجه من انطوائيته ، يستذكران دروسهما سواياً فى منزل احدهما ، وتلك السندوتشات التى كان زملائه يحملونها فى شنطهم المدرسية خاصة التفاح الأمريكانى ، وسندوتش الجبنة الرومى ورائحته التى مازالت عالقه فى أنفه ..

لم ينتظر كثيراً .. وجد سلوته فى القراءة .. دخل المكتبة العامة ، انبهر بالكتب .. نهل على قَـدّه .. ولكن قَـدّه الصغير كان اكبر من مجلة ميكى التى يعشقها .. عندما يقف أمام أرفف الكتب هناك كان يرى القامات والأسماء بعيدة المنال عن يديه الصغيرتان القصيرتان ، وعيناه تلتقطان أسماء أمهات الكتب ، فيطلب من أحدهم أن يناوله هذا أو ذاك الكتاب ..

عندما وصل الى نهاية المرحلة الاولى من التعليم كان قد قراء وانتهى من عدداً كبيراً من الكتب فى الأدب والرواية وغيرها من المجالات لأدباء مصر والعالم الغربى ..

عاد من جديد الى عالمه استعاد بعضاً من نفسه .. واستعاض بها حنيناً الى مدرسته الأولى ، الى قديسته ، حنيناً الى شتاء تلك الأيام ، مع زخات المطر الخفيفة فى الصباح الباكر .. ولمعة أرض الطريق بقطرات الماء .. ومعها رائحة المطر التى تبهجه وذات القطرات على زجاج شباك غرفة مازالت مضيئة رغم بزوغ بعض من خيوط الذهب لضوء الشمس من بين سُحُب الشتاء الرمادية ، فى صراع خفى بينهما .. هواء خفيف بارد ينعشه رغم البروده فى طريق العودة للمدرسة بعد انتهاء أجازته الشهرية .. يد أمه تمسك يده الصغيرة ، وتمشى الهوينا كما خطاويه القصيرة .. صرير عجلات الترام يشق هدوء شارع شبرا فى تلك الساعة المبكرة ، كموسيقى وخلفية لمشهد لم ينساه .. وهذا محصّل الترام المبتسم يعطيه تذكرة أمه وكأنها تذكرته الخاصة ، فيبتهج بهذا التقدير .. انها مجموعة من الصور تمنى لو يرسمها .. ظلت الصور مطبوعة فى عقله تداعب خياله ، يخاف عليها من عوامل التعرية فتصبح ضبابية غير واضحة .. فوضوحها يجعله يعيش داخلها فيظل هذا الطفل سعيدأً ، قبل ضغوط الحياة التى تسحقه مبكراً ..

قبل امتحان المرحلة الابتدائية .. كانت هناك أخباراً حزينة ..

لن يستطيع استكمال رحلته فى المدارس الرهبانية .. فقد قدّم له والده للامتحان فى شهادة القبول لدى الحكومة تمهيداً لنقله الى المدارس الحكومية لعدم مقدرة ذويه على مصاريف المدارس الاجنبية ..

عقله لم يتنباء بما تخبئه له الأيام ، كل مايعرفه ان هذه مدرسة وتلك مدرسة ولا فرق بينهما سوى الأسماء ..

على غير العادة ، امتحن فى تلك السنة مرتان ، الامتحان الأول على مستوى مدرسته الخاصة .. والثانى على مستوى وزارة التربية والتعليم ..

مرّ الامتحان الأول فى مدرسته بتفوق نسبى وقد كان ترتيبه الثامن على مرحلته ..

فى هذه الأثناء وبعد استلام شهادة مدرسته ، طلب من والده ارسال النتيجة الى جريدة أخبار اليوم .. فقد أرسلت له الجريدة قبل شهر خطاب عليه علامة "أخبار اليوم" الشهيرة ، ، وبه رسالة من الورق الأبيض مختوم بنفس العلامة ومكتوب بخط ثُلُث رائع ، ولم يكن هذا الخط غريباً عليه ، أبلغته الرسالة بأنه فى حال نجاحه ووجود اسمه ضمن العشرة الأوائل على الصف ، يفوز بدراجة هوائية جديدة .. تجاوب والده ووعده بارسال الخطاب .. انتظر كثيراً .. ولكن لم تستجيب الجريدة .. حزن كثيراً ، وقرر انه لن يقراء هذه الجريدة بعد الآن .. رغم انه من عشاق عمود فكرة لمصطفى أمين ودنياه الوردية ، كذلك مقالات أنيس منصور بفلسفته وأفكاره الصادمة .. وقد كان مازال متأثراً ، شاكياً الى أمه كيف ان الجريدة خذلته .. تلك الجريدة التى كان يحملها والده يوم السبت من كل اسبوع عندما يعود مبكراً من عمله ، فقد كانت أجازته الاسبوعية نصف يوم السبت مع اجازة يوم الاحد ..

بعد مرور عدة شهور عرف الحقيقة .. صارحته أمه بأن والده هو من أرسل له الخطاب وليست الجريدة .. وكان يود ان يشترى له الدراجة ولكن ظروفهم المادية لم تسمح .. صدقها ، فقد تذكر الخط الثُلُث الذى كان يشتهر به والده .. ضحك كثيراً من المقلب ، وظلت الحكاية عالقة فى ذاكرته ، يبتسم لتلك الأيام كلما تذكرها ..

أمّا فى الامتحان الثانى فاختلف الأمر ، فالمنهج هنا باللغة العربية وليس بالفرنسية كمنهج مدرسته ..

دخل صاحبنا اللجنة ليصطدم بمادة الحساب (الرياضيات) وبعدها بمادة العلوم .. دراسته للمادتين الحساب والعلوم بالفرنسية .. كلما قراء سؤالاً بالعربية كان لابد ان يفهمه بالفرنسية أولاً ..

لم يكن لديه سوى خياراً واحداً ..

ترجم الأسئلة فى ورقتها بالفرنسية ، ليجيب عليها بالفرنسية التى يعرفها ، ثم يعيد ترجمتها للعربية ويضعها فى ورقتها .. عندما لاحظت مراقبة اللجنة هذا ، استفسرت منه عما يفعله فشرح لها ، أصابتها الدهشة ، وقد كان معه من نفس مدرسته خمسة او ستة من زملائه وقد اتفقوا على هذه الطريقة .. استدعت المراقبة عدداً من المراقبين زملاءها فى اللجان المجاورة ليروا ما لم يروه من قبل .. تحول المكان الى حلقة الحاوى فى الحوارى الشعبية الذى ينام على المسامير ويُخرج النار من فمه كما وحوش العصور القديمة فى الأساطير ، والتى رأه يوماً عند عودته من المدرسة .. ولم يبقى سوى تصفيق المتفرجين ..

بالطبع ضاع ثلثى الوقت فى الترجمة مرتين ، وبقى القليل منه للاجابة ، وبالطبع لم تتم بالكامل .. حينها عقّبت أحدى المراقبات المبهورات على ذلك بقولها : لو كنت مكان المسئولون لمنحتهم كامل الدرجة ..

انتقل للمرحلة التالية فى المدارس الحكومية .. بعد ان عجز ذويه عن استكمال تعليمه فى المدارس الرهبانية ، وكان قد اتقن الفرنسية الى حد كبير ..

مرة أخرى تعرض الصبى لنفس الصدمة فى الانتقال المفاجئ من مجتمع الى مجتمع مغاير تماماً لما تعود عليه ، عالم آخر من طبقات الدنيا .. بات فى حيرة من أمره .. انه يمشى على حبل فى الفضاء مختل التوازن ، يسقط فى الهاوية ولا يصل للقاع ، معلق فى الفضاء ، يمشى فى الشوارع بعد ان تعلم كيف يمشى وحده ، كمن تعلم القيادة ولا يعرف طريقه .. ومرة اخرى عاد وحيداً يتيماً.

الحياة فى مدارس الحكومة لها اسرارها .. طرقها. .. لم يعهدها و لم يجد يداً تمتد له بالمعرفة الحياتية الجديدة .. انه لا يحسن الشكوى أو طلب المساعدة .. وحيداً فى الشارع ، فى المواصلات المزدحمة ، فى المدرسة .. حتى وهو يحاور او يناقش .. وحيداً .. ترك نفسه للوحدة ، لم يقاوم ، كلما حاول التغلب على انطوائه ، يجد من يُكرِهه على عدم الخروج من شرنقته .. من غرابة الحوار ، بات يرتعب من الحديث ومن مواجهة الأغراب ، والكل أغراب ، ليس من عالمه ، لغته مغايرة لكل من حوله ، فلا يفهمه أحد ، بل لاأحد يسمعه .. يسمعهم من عمق بئر يرطنون و يبربرون من قاعه .. أصواتهم متداخلة عالية كالصفير أو قل صراخاً .. طبقة لم يختبرها من قبل رغم ان منزلهم يقبع بينهم .. الفاظ تصدم أذناه ، فيتوارى خجلاً منها ..

ها قد أجبرته روحه الضائعة بين مجتمعين ، وحدته المفروضة عليه ، و فوبيا المواجهة ، بتغيير مسار أفكاره التى كانت مسيّرة بسلاسة الى مستقبل كاد ان يراه ويتفائل به ، فأصبحت غير واضحة المعالم ، يبحث عنها فى انفاق مظلمة .. وانخفض به سقف توقعات أحلامه الى أدنى مستويات الأمانى والتمنى ..

لم يجد سوى القراءة واسكتش الرسم والقلم الرصاص ، حتى افرغ ما فى روحه وعقله على الورق ، يرسم ويرسم .. والغريب انه اكتشف موهبته .. لم يكن يهوى استخدام الالوان فى الرسم ، يفضل عليها الفحم والرصاص .. يطبع روحه الضائعة بسواد الفحم على الورقة البيضاء ليحيلها سواداً ..

اكتشف معلم الفرنسية فى مدرسته الحكومية انه يتقن الفرنسية ، عندما أوقفه لقراءة فقرة من كتاب الفرنسية .. علم انه قادم من مدرسة فرنسية ، فانبهر بلغته ولكنته ، عندها أسند اليه مهمة التدريس للفصل .. ولم يكن ينقصه ذلك الهمّ وتلك المسئولية التى هرب منها المعلم ذاته ..

حكى لأمه يوماً ضاحكا ، وهو متكئ برأسه على حِجْرَها كعادته عندما يريد أن يشكى لها او يحكيها من خواطره ، ان معلم الفرنسية ، يتكلم بلكنة فرنسية غريبة ، يظن انه لم يدرسها ، بل أخدها سماعياً من عم حسين الأسيوطى الذى يعمل ترجماناً فى منطقة الأهرامات والذى لفت نظره اليه ذات يوماً فى رحلة المدرسة ، بجلبابه الأبيض الواسع وعِمّته الملفوفة بلفات عديدة بقماش الدمّور الأبيض ..

" مسيو " عبد الفتاح ، كما يحب أن يُطلق عليه ، وكأنه لا يصدق انه مدرساً للفرنسية .. يحلق رأسه بالموس تاركاً أعلى رأسه بالشعر كطاقية صوف سوداء .. بذته الزرقاء النظيفة دائماً ، لم يغيرها طيلة العام .. أسمر ، مستدير الوجه يشبه كلاى ذلك الملاكم الأمريكى الشهير .. كان منبهراً بلكنة هذا التلميذ القادم من "مدارس الفرنجة" كما يطلق عليها ..

فى سياق هذه المرحلة ، لم يصادق احداً من زملائه فى مدرسة رمسيس الاعدادية بشبرا ، ذلك الحى القديم العجيب الذى يضم بجنباته كم من الجاليات وكم من طبقات اجتماعية تجاور بعضها مشكلة لوحة سيريالية من الفسيفساء التى لا مثيل لها ..


بالنسبة لأقرانه فهو شخصية غامضة ، يحترمونه احترامهم لمعلمهم ، حتى هؤلاء التلاميذ الذين يبلطجون على زملاءهم لم يتجراء أحداً منهم الاحتكاك به ، بل يحاولون التقرب منه مثل الباقين لعلهم يفوزون بدرجات أكثر فى مادة اللغة الفرنسية ..

عاش منطوياً على ذاته منذ ترك مدرسته الاولى .. لم يؤثر أحد هنا فيه مثلما أثر فيه مسيو عبد الفتاح بالغرابة والتعجب والاعجاب ..

عندما انتهى من المرحلة الاعدادية ..

نظر خلفه ، فوجد أنه منذ ان كان عمره أربعة سنوات وحتى ربيعه الخمسة عشرة قد عاش ثلاثة حيوات وليست حياة واحدة ..

و قد ظل"مسيو" عبد الفتاح معلم الفرنسية بذات البدلة الزرقاء النظيفة ، وحلاقته العجيبة ، وظل محتفظاً بلهجة عم حسين الترجمان بمنطقة الأهرامات ..

فى المقابل فان تلميذه القادم من "مدارس الفرنجة" ، مازال يقراء كتب الكبار جنباً الى جنب مجلة ميكى معشوقته ..

مفتقداً أيام المدرسة الأولى .. متشوقاً لسماع نطق اسمه على لسان قديستة كلحن كروانى ، محتفظاً فى عمقه بذكرى تلك الهالات المضيئة حول رأسها ، والنجمة التى أضاءت وجه أمه ..

وقد بات أو كاد يفقد لغته الفرنسية ، بفضل مسيو عبد الفتاح ..

وها هو يكتب لكم بالفصحى الركيكة ..


تمت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى