أحمد القنديلي - ثلاث أطروحات في المسألة التنظيمية.. لينين، تروتسكي وروزا لوكسمبورغ

إن اختيار هذا الشكل التنظيمي أو ذاك داخل التنظيم الحزبي ليس مسألة شكلية أو تقنية، ذلك لأن كل شكل من أشكال التنظيم يتضمن في العمق تصورا إيديولوجيا / سياسيا لإشكالية وطبيعة الثورة ولطبيعة التحالفات الممكنة لإنجازها.
في كتابه " ما العمل؟ " يرى لينين أن لا بديل عن المركزة التي هاجمها الكثيرون، وعلى رأسهم روزا لوكسمبورك. فعقب انتكاسة مجموعة هائلة من الانتفاضات والحراكات انتبه لينين إلى أن سر الفشل، إنما يكمن في غياب المركزة السياسية والتنظيمية للنضالات الطبقية، إذ بهذه المركزة يتمكن التنظيم السياسي الطليعي، من جهة من تطوير الوعي الطبقي البروليتاري إلى وعي سياسي، ومن جهة إلى توجيه النضال الطبقي إلى غايته القصوى: الاستيلاء على السلطة السياسية.
غير أن الحزب السياسي الطليعي، لكي يتمكن من مركزة النضالات الطبقية، بقدر ما يجب عليه أن يبذل مجهودات تنظيمية وسياسية وفكرية كبرى، بقدر ما يجب عليه أن يهتم بالمطالب التقدمية لكل الطبقات والشرائح الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير.
هذه هي الملامح العامة للاستراتيجية التي بناها لينين من أجل إنجاز الثورة: ضرورة بناء طليعة ترتبط عضويا بالعمال المتقدمين عبر نشاط سياسي حثيث يخرجهم من إطار النشاط النقابي المحض إلى النشاط السياسي. هذا هو الدرس الأساسي المستقى من ثورة 1905 الفاشلة.
وبالنسبة لماركس، فإنه لم يترك لنا نظرية متكاملة عن الحزب، ففي مجمل مؤلفاته هناك شذرات متناثرة. أما لينين فهو الذي تمكن من لم شتات هذه الشذرات، ومن صياغة نظيرة متماسكة حول تشكل الوعي الطبقي شكلت - إلى جانب تمثله لمجموعة من التجارب في روسيا وغيرها – أسسه النظرية حول النتظيم.
تنطلق النظرية اللينينية في بناء التنظيم وفي تكوين الوعي الطبقي البروليتاري من التمييز بين الطبقة في ذاتها والطبقة لذاتها، وهو التمييز الذي أرسى ماركس معالمه في كتابه " بؤس الفلسفة ". ويتفرع عن هذا التمييز الهام تمييز آخر بين الوجود الموضوعي للطبقات الاجتماعية باستقلال عن مستوى وعيها، ومفهوم النضال الطبقي الموضوعي باستقلال عن مستوى الفهم الذاتي للمصالح التاريخية للطبقات الاجتماعية المعنية بالصراع الطبقي.
ولقد استنتج لينين من هذين التمييزين الهامين تمييزا ثالثا بين النضال الطبقي الابتدائي الذي يفرضه الاستغلال الطبقي على المستغَلين، والنضال الثوري الذي يحول الأول إلى نضال يعصف بأسس الدولة الرأسمالية. غير أن هذا الأمر يتوقف على وعي الطبقة العاملة وحلفائها وعلى تنظيمها السياسي وقيادته السياسية.
غير أن هذا النضال الأخير ليس شرطا حتميا للأول ما لم تتوفر مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية.
ومن جهة أخرى فإن سيرورة تكون الوعي الطبقي البروليتاري الثوري ليست سيرورة متساوية ومتصلة. وهذا يرجع من جهة إلى الأصول الاجتماعية المختلفة للطبقة العاملة، ومن جهة إلى الطبيعة اللامتساوية و اللامتصلة لتدخل الوعي البروليتاري من حيث هو فعل ذاتي يقوم به الحزب الثوري في شروط اللاتساوي واللااتصال على مستويي الإرسال والاستقبال.
والخلاصة هنا أن الطبقة العاملة لا تصبح طبقة لذاتها إلا بقد ما تتراجع عوامل الانقسام داخلها سواء تعلق الأمر بالمستوى القطاعي أو الإقليمي أو القومي أو اللغوي أو العرقي ... وحين تصبح طبقة لذاتها تغدو قادرة على النضال الشامل، أي النضال السياسي بواسطة حزبها المستقل.
مئات الإضرابات خيضت من طرف الطبقة العاملة في بريطانيا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومئات أخرى خيضت في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 1940 و1970، ولكنها لم تتخط المستوى الابتدائي/ الاقتصادي، وذلك بسبب غياب حزب عمالي طليعي. وهنا يجب الانتباه إلى دورية النضالات الكبرى التي تنتجها الأزمات الكبرى في الدول الرأسمالية. إن هذه النضالات حين لا تبلور بوضوح أفقها السياسي بواسطة الحزب العمالي الطليعي عادة ما تؤول إلى الفشل الذي عادة ما يعقبه انحدار في قتالية الجماهير، وتراجع حتى على مستوى النضالات الابتدائية/ الاقتصادية التي يلعب فيها الجدل بين الحفاظ على المكسب وتحقيق المطلب أهمية قصوى. والحفاظ على هذين العنصرين المتجادلين عادة ما تضطلع بهما النقابات المناضلة فعلا حتى في حالات الجزر والتراجع.
وخلافا لهذه التصورات اللينينية التي تتمحور حول مفهوم المركزة بمعنييها السياسي والتنظيمي والتي يترجمها على صعيد البناء التنظيمي مفهوم المركزية الديمقراطية، نجد المماحكات الشرسة للمناضلة الماركسية روزا لوكسمبورغ / شهيدة النضال العمالي الأممي. لقد جادلت روزا لينين بقوة حين اعتبرت أن الوعي الطبقي لا يتكون إلا في معمعان النضال الطبقي، بعيدا عن المركزة التي ينهض بها الحزب الطليعي. غير أن روزا التي تدافع هنا عن العفوية خوفا من الهيمنة البيروقراطية للحزب الطليعي اكتشفت في كتابها " ماذا تريد عصبة سبارتكوس؟ " في نهاية حياتها أهمية قيادة التنظيم السياسي الطليعي للنضالات الجماهيرية وخصوصا عقب دراستها لفشل ثورة 1914 الألمانية. ومع ذلك تبقى لأطروحة روزا أهمية نظرية وسياسية قصوى. لقد كشفت ثغرات أطروحة لينين الأولى في "ما العمل" التي كانت تراهن بصورة عمياء على الدور الحاسم للطليعة الثورية. والحال ان هذه الطليعة ذاتها يمكن أن تتبقرط، كما يمكن أن تساهم في كبح النضالات الجماهيرية كما حصل في تجارب كثيرة بدءا من تجربة 1905 إلى الثورة الأولى في 1917 في روسيا، مرورا بتجربة 1914 في ألمانيا أو في إسبانيا سنة 1936....
غير أن الجوهري في مختلف هذه التجارب أن الجماهير وحدها لا تستطيع تدمير جهاز الدولة البورجوازية وبناء دولة اشتراكية في غياب حزب طليعي ثوري. ولكن هذا في حد ذاته غير كاف. إن وجود الحزب الطليعي في حد ذاته لا يشكل بالضرورة ضمانة ثابتة لتحقيق هذا الهدف، وخصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الملاحظات النوعية لروزا التي تنم عن تخوف شديد من التبقرط الذي عادة ما يتضخم في الفترات الحاسمة، ويساهم في وأد المشاريع الثورية رغب في ذلك ام لم يرغب.
هنا بالضبط تكمن أهمية اكتشاف تروتسكي قبل لينين بقليل سنة 1906 للأهمية القصوى للسوفييتات من حيث هي تنظيمات ذاتية مستقلة للجماهير، والتي اعتبرها الشكل الذي يمكن أن تتبلور فيه الثورة الروسية والثورات البروليتارية على الصعيد العالمي. وتبقى الإضافة النوعية التي يقدمها لينين هنا هي دياليكتيك : سوفييتات / حزب. ففي غياب هذا الدياليكتيك يمكن أن تتجه السوفييتات في أي منحى ممكن بما في ذلك المنحى المضاد للثورة. ومؤكد أن الأسلوب الذي يمكن أن يضطلع به الحزب الطليعي هنا داخل السوفييتات إنما هو الديمقراطية المباشرة، وليس شيئا آخر، إن أي تخبط في هذا المجال يفضي إلى الكارثة.
هنا نلتقي مرة أخرى مع روح أطروحة روزا التي لم تستمت في دفاعها عن العفوية هربا من التنظيم، بل خوفا من البقرطة الوائدة للمشاريع الثورية. إن السوفييتات، من حيث هي تنظيمات مستقلة للعمال وعموم الكادحين، تحل هذا الإشكال المركب الذي أرق روزا، وتحافظ في ذات الوقت ليس على الثورة في ظل الدولة الاشتراكية الجديدة، بل على القيمة الثورية للثورة التي من أهم سماتها: تحقيق الديمقراطية الاشتراكية وضمان الرفاه المادي والروحي، ومناهضة كل استغلال أو تسلط بيروقراطيين.
وفضلا عن الخلافات الحيوية بين لينين وروزا حول قضايا التنظيم وطبيعة الثورة، فإن هذه الخلافات ذاتها بين لينين وتروتسكي لا تقل حيوية. لقد جادل تروتسكي لينين بشراسة حول طبيعة الثورة في روسيا. فبسبب عدم تجانس طبقة الفلاحين يؤكد تروتسكي عجزها عن الظفر بالسلطة. ففي كتابه " الثورة الدائمة " الذي كتبه في السجن يرى أن الثورة يمكن إنجازها بقيادة الطبقة العاملة التي تطورت في روسيا تطورا مركبا ولا متكافئا يسمح لها بتحقيق الثورة الاشتراكية إذا ما توفر الشرط العالمي: ثورات في البلدان الرأسمالية المتطورة.
وعلى عكس هذا التصور تماما يرى لينين: "أن خطأ تروتسكي يكمن في كونه لا يريد رؤية الطابع البورجوازي للثورة، وليس لديه تصور واضح للانتقال من هذه الثورة إلى الثورة الاشتراكية". ويرجع سر الاختلاف بين الطرفين هنا إلى مرجعية تفكير كل منهما. فإذا كان تروتسكي يستند في تحليله إلى خبرة ثورة 1848 الفرنسية، فإن لينين يستند إلى خبرة هزيمة ثورة 1905 الروسية. وهي الخبرة التي أنتجت كتابي " اطروحتا الاشتراكية الديمقراطية " و " موضوعات أبريل ".
وإذا كان كتاب " خطتا الاشتراكية الديمقراطية " الذي كتب عقب فشل ثورة 1905 مثار جدال عنيف ليس من قبل تروتسكي فقط، فإن كتاب " موضوعات أبريل " الذي كتب عقب ثورة فيراير 2017 البورجوازية هو الذي عجل ببلورة تلاقح خلاق بين الجوهري في فكر الرجلين، أو على الأقل الجوهري بين " الثورة الدائمة " و " موضوعات أبريل.
إننا إذ نسوق هنا هذه المقارنة بين هؤلاء المفكرين الماركسيين الثلاثة، فليس لكي تنجر مقارنتنا بخلفية حلقية إلى هذا الطرف أو ذاك. إن هذا النوع من الانجرار سهل، ولا علاقة له بالتفكير الماركسي، وهو الذي جر إلى الماركسيين على الصعيد العالمي رياح العصبوية التي تئد الجدل الفكري المنتج، وتحجب رؤية الأشياء في رحابتها الواسعة. إن غايتنا الأساسية هنا تكمن في فهم صعوبة الإشكاليات الكبرى التي كان هؤلاء المفكرون الماركسيون الثلاثة يواجهونها (التنظيم، طبيعة الثورة، التحالفات، التكتيك، الاسترتيجية....) فأين تكمن جدارة أطروحة كل مفكر من هؤلاء الثلاثة؟
- تكمن جدارة الأطروحة اللينينية في دفاعها المستميت عن فكرة التنظيم، وعن ضرورته الحاسمة في تحقيق الثورة.
- كما تكمن في القراءة الماركسية الحية للواقع الروسي الذي كان بحكم تطوره التاريخي آنذاك يفرض التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين.
- كما تكمن في القدرة الخلاقة على احتضان مطالب مجموعة من الفئات والطبقات وعلى رأسها البورجوازية التي كانت هي الأخرى تراهن على التغيير وعلى السيطرة الطبقية بعيدا عن الدولة القيصرية.
- كما تكمن في القدرة الفائقة، التي كان يمكن جدا ألا تتوفر، على الثورة على الدولة البورجوازية وليدة ثورة فبراير. فبين فبراير وأكتوبر سبعة أشهر ثورية توجت أول ثورة اشتراكية في العالم.
- تكمن جدارة أطروحة روزا لوكسومبورغ في قدرتها على الإجابة ليس على آليات إنجاز الثورة الاشتراكية فقط، بل على طرق الحفاظ عليها من التبقرط الذي ينتج عن انتقال الحزب السياسي الطليعي من إدارة الثورة إلى إدارة الدولة، مع ما يترتب على ذلك من دمار روحي للجماهير تفقد معه الإيمان بكل شيء. إننا أمام فكر يتجاوز التفكير في الثورة الاشتراكية إلى التفكير في مآلاتها المتشعبة.
- تكمن جدارة أطروحة تروتسكي في دفاعها المستميت عن أطروحة الثورة الدائمة التي تسقط الوهم الذي يمكن ان ينتعش في فكر قادة دولة اشتراكية ما بأن مهمتهم انتهت داخل حدودهم الترابية. فالاشتراكية إما أن تسود كنمط إنتاج عالمي، وإما أن تستمر مأزومة قابلة للانهيار في أية لحظة.
- كما تكمن في إبداعه لفكرة السوفييتات باعتبارها ضمانة لاستمرار الثورة الاشتركية في سياق بناء الدولة الاشتراكية بواسطة الجماهير المراقبة والمشاركة بديمقراطية مباشرة في صنع القرار، وفي ضمان الاستمتاع بالرفاه المادي والروحي في ظل تشريك وسائل الإنتاج بما يضمن استمرار المساواة الحقيقة قانونيا واجتماعيا بين جميع المنتجين المبدعين.
لقد سقنا هذه المقارنة بلباقة مقصودة بهدف تفكيك كل تفكير ماركسي عصبوي يمعن في الجدال من أجل الحيلولة دون بناء تفكير ماركسي نقدي جديد ومتجدد. إن العالم يتغير بنيويا بصورة متسارعة بواسطة فكر ليبرالي وفكر ليبيرالي جديد في غاية الحيوية يخرج من كل أزمة برؤى جديدة. ونعتقد هنا ان الماركسي معني بهذه التغيرات أكثر من غيره ما دام معنيا بالتغيير الجذري.
وتجدر الإشارة إلى الماركسيين تغافلوا لأكثر من قرن من الزمان عما كان الفكر الليبرالي بمختلف تلاوينه ينتجه من تحاليل تستهدف من بين ما تستهدفه تبخيس الجوهر النظري للماركسية، بدءا من البنيوية مرورا بالوجودية إلى الظاهراتية إلى التفكيكية، إلى فلسفة التأويل ثم إلى نظريات التلقي... لقد أعادت مجمل هذه الاتجاهات الروح مجددا إلى الفكر الأفلاطوني و الهيغيلي والكانتي... واستطاعت بواسطته وبواسطة ما كان يعتمل من تطورات متساوقة في المجالات العلمية البحتة من الانتقال إلى ما يصطلح عليه اليوم بمجتمع المعرفة الذي يستظل بمظلة امبرالية العولمة التي تحتفل بسداجة بنهاية التاريخ.
وختاما يكفي أن نستدل بنموذج من الفلسفات الآنفة الذكر لندرك ما ينتج من أفكار وكأنها ما وجدت ألا لكي تناهض الفكر الماركسي. يقول جاك دريدا في كتابه " أطياف ماركس " (ترجمة منذر عياشي مركز الإنماء الحضاري حلب ط 2 – 2006 ص: 72) بعد أن دار حول مؤلفاته دون ان يواجها بصورة علمية مباشرة: " وسنكون مستعدين أن نقبل عودة ماركس أو العودة إلى ماركس شريطة أن نكتم هذا الذي يأمر فيه ... بالقيام بتحول من شأنه أن يغير العالم." فلا توجد فلسفة من فلسفات القرن العشرين لم تبلور أسسها آخذة بعين الاعتبار ضرورة تهشيم أسس الفكر الماركسي.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى