جائزة بِاۢسْمِ مــقــــهـى يــعــبــق بــأنـــفـــاس عــمــالـــقـــــة الــفــكــر والإبـــــداع

"لي دو ماغو" (les deux magots) واحد من أشهر مقاهي العاصمة الفرنسية باريس. ولجته، فوجدتني أتنسم عطورا بعبق الفكر، وأرى أطيافا بنكهة الإبداع، تنتقل بين الكراسي والطاولات. تأملتها، فإذا هي لكبار الكتاب والمبدعين العالميين الذين كانوا يترددون على هذا المقهى الشهير الذي يجر خلفه تاريخا أدبيا حافلا، والذين مازالت أرواحهم تعيش بين جدرانه...

من الوجوه التي تعرفت عليها، في رحاب هذا المقهى، الذي افتتح منذ سنة 1885، الثنائي الشهير جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، وأراغون وإلزا وفيرلين ومالارميه ورامبو وألبير كامو وأندري جيد وجان جيرودو وفيرناند ليجيه وبريفير وهمنغواي وريموند كونو وجويس وبريخت وبيكاسو ورفيقته المصورة دورا مار وغيرهم من مثقفي وفناني اليسار، ممن كانوا يلتقون في هذا المقهى، لمناقشة أبرز المعضلات التي كانت تشد بخناق الإنسان في ذلك العصر.

وأنا في وضعي ذاك، تراءى لي جان بول سارتر آتيا ورفيقته سيمون دي بوفوار، يدخلان، يسلمان، يتجهان نحو مائدتين صغيرتين متجاورتين، يجلسان للكتابة، طيلة ساعتين، بلا توقف. تذكرت أن ذاك كان دأبهما، يوميا، طيلة سنوات، ليقدم سارتر للعالم روائعه وضمنها "الغثيان" ببطلها "أنطوان" متجولا بين المقاهي، ملاحظا تصرفات الإنسان وبدائيته ووحشيته... ولتقدم دي بوفوار روايتها الأولى "المثقفون"، وهي صرح لا يلخص الحياة الثقافية بفرنسا، في حقبة ما بعد الحرب، فحسب، بل هي أيضاً رواية الحب الجارف المستحيل.

مشهد آخر أثارني، إذ أثارني المعلم الكبير أندريه بروتون محاطا بأتباعه، وهو يدخن غليونه بوقار على رصيف المقهى، فيمر أنطوان آرتو الذي أبعد من المجموعة السريالية، لكي يلقي التحية بصوت خافت، فينحني له بروتون بإجلال أكبر...

للتذكير، فهذا المقهى الذي لعب دورا هاما في الحياة الثقافية الباريسية، منذ القرن التاسع عشر، احتضن السورياليين، قبل أن يحتضن الوجوديين، كما احتضن سواهم من المثقفين الذين أغنوا الفكر والإبداع الإنسانيين...

يقع مقهى "لي دو ماغو" في شارع "سان جيرمان دي بري"، قبالة مقهى ليب الشهير الذي اختطف منه عريس الشهداء المغاربة المهدي بنبركة... ويشير اسمه إلى التمثالين الصينيين الصغيرين اللذين يزينان داخله.

يتميز نادلو المقهى بمحافظتهم على تقاليد مهنتهم، إذ يلبس واحد منهم بذلة أنيقة سوداء ووزرة بيضاء، ومن ضمن ما يقدمونه للزبناء مشروبات تقليدية مثل الشوكولاتة المُذابة.

ومما ساهم في شهرة المقهى جائزة أدبية تحمل اسمه، وهي جائزة أحدثت سنة 1933 من طرف مجموعة من السورياليين، وجاءت ردا على جائزة الغونكور، التي اعتبروها "رسمية موغلة في الأكاديمية"...

تسلم الجائزة، كل سنة، لكتاب حقيقيين شباب موهوبين، تنتقيهم لجنة تحكيم مكونة من شخصيات من كبار عالم الأدب والفن، وكان زبناء المقهى هم من يمولون الجائزة، قبل أن يتحمل تكاليفها رب المقهى...

آخر من حصل على هذه الجائزة هو الناقد المبدع " Louis-Henri de la Rochefoucauld " عن روايته châteaux de sable" وقد سلمت له أواخر شهر يناير 2022...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى