د. المختار حسني - السرقة الشعرية.. الآليات ومفهوم الاشتغال 5- ابن رشيق 1- العمدة:

5- ابن رشيق

1- العمدة:


وصف ابن رشيق ابنَ وكيع التنيسي بذلك، في كتابه "العمدة"، في معرض حديثه عن السرقة في مقدمة الباب الذي خصها به. وهو باب كما يقول: «متسع جدا لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه وفيه أشياء غامضة إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخرى فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل»( ). غير أن ابن رشيق لم يأت بأي جديد في هذا الباب، واكتفى بعرض أفكار غيره منتقدا ومؤيدا أو لازما موقف الحياد؛ فابن وكيع حادَ عن الصواب، وأستاذه عبد الكريم لا يهم ابن رشيق غير عرض آرائه، والقاضي الجرجاني عنده أصح مذهبا، والحاتمي في حلية المحاضرة يستعمل، في نظره، مصطلحات متقاربة في المفهوم، ومع ذلك يستعيرها ابن رشيق ويستخدمها على علاتها أو "كما خَيَّلَت" حسب تعبيره( ). ويعرض ابن رشيق أغلب المصطلحات قبل التمثيل لكل منها:
1.فالاصطراف: أن يصرف الشاعر بيتا أعجبه إلى نفسه إما اجتلابا أو انتحالا.
2.والاجتلاب والاستلحاق: أن يأتي به على سبيل التمثل
3.والانتحال: أن يدعي البيت لنفسه إن كان شاعرا
4.والإغارة والغصب: أن يأخذ الشعر من غيره غلبة
5.والمرافدة والاسترفاد: أن يأخذه هبة.
6.والاهتدام (النسخ): سرقة ما دون البيت.
7.والنظر والملاحظة: خفاء الأخذ مع تساوي المعنيين دون اللفظ( )
8.والإلمام: تضاد المعنيين ودلالة أحدهما على الآخر
9.والاختلاس (نقل المعنى): تحويل المعنى من غرض إلى آخر
10.والموازنة: أخذ بنية الكلام وحدها
11.والعكس: جعل مكان كل لفظة ضدها
12.والمواردة: أن يتفق قول الشاعرين دون أن يسمع أحدهما الآخر
13.والالتقاط والتلفيق (الاجتذاب والتركيب): تأليف البيت من أبيات قد ركب بعضها من بعض.
14.وكشف المعنى( )
15.والمجدود من الشعر
16.وسوء الاتباع
17.وتقصير الآخذ عن المأخوذ منه
18.وتساوي السارق والمسروق منه( ).
19.والاشتراك في اللفظ المتعارف.
20.ونظم وحل الشعر، وهو أجل السرقات في نظر ابن رشيق( ).
ويظهر من خلال هذا الجرد مقدار الأزمة التي كان يتخبط فيها النقد في مجال المصطلح باتجاهه إلى الاستكثار، غير المبرر، من المصطلحات، وبعدم الاتفاق على مفهوم ثابت لكل مصطلح، كما فهمنا من كلام ابن رشيق عن الحاتمي، وكما يفعل ابن رشيق نفسه عندما يورد مفهوما جديدا وهو الاستلحاق على سبيل التمثيل(( ، أثناء حديثه عن الاصطراف، (بمعنى أن يصرف الشاعر بيتا لغيره إلى نفسه على سبيل المثل لا على سبيل الانتحال والسرق)، فيقول ابن رشيق تعقيبا على قول جرير للفرزدق [الوافر]:
سَتَعْلَمُ مَنْ يَكُونُ أَبُوهُ قَيْنًا ومَن كَانَتْ قَصَائِدُه اجتِلابا
بأن الشاعر «وضع الاجتلاب موضع السرق والانتحال، لضرورة القافية»( ) ، فالانتحال بمعنى السرق، عند ابن رشيق، شيء، والاجتلاب، بمعنى الاستلحاق شيء آخر، ولهذا نراه يحمل على إيراد ابن سلام مصطلحَ "الاجتلاب" على أنه السرق(( . وتناول هذا المصطلح، د. الشاهد البوشيخي في أطروحته( ) بتوسع فخلص إلى القول بأن ابن رشيق يحمل هذا المصطلح ما لا يحتمل بالنظر إلى مجال استعماله وظروف عصره لأنه لم يكن يعني غير السرقة: «ولو أن ابن رشيق وضع في حسابه احتمال التطور الدلالي للمصطلح لما قال ما قال، ولو أنه فهم المصطلح حسب استعمال قائله وعصره له، لما انطرح عليه هذا الإشكال، والله اعلم»( ). فمثال الاجتلاب عند ابن رشيق هو ما قام به عمرو بن كلثوم من «استلحاق لبيتي عمرو ذي الطوق: [الوافر]
صَدَدْتِ الْكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو وكان الكأسُ مَجراهاَ الْيَميِنَا
ومَا شَــرُّ الثَّـلاَثَــةِ أُمَّ عَـمْرٍو بِـصَـاحِبِـكِ الـذي تَــصْبَحينا( )
أما الانتحال فمثاله قول جرير [الكامل]:
إن الذين غَدَوا بلُــبِّكِ غـــــادَورا وشَلاً بِعَــــيْــــنِكَ لاَ يَزال مَـعينا
غَيَّـضنَ مِنْ عبَراَتِهِـنَّ وقُـلْنَ لي مَاذا لَقيتَ مِنَ الهَوَى ولَـــقيناَ؟
«فإن الرواة [-يقول ابن رشيق-] مجمعون على أن البيتين للمعلوط السعدي انتحلهما جرير»( ).
والذي يدل عليه المثالان، في الواقع، إنما هو اضطراب مفهوم المصطلح في ذهن ابن رشيق، فليس في المثالين، نفسيهما، ما يدل لا على استلحاق ولا على انتحال، فقد يدلان على التضمين، مثلا، أو على غير ذلك، أما الحكم بالاستلحاق، أو الانتحال فحكم على "نية" الشاعر المضمرة، لا على النص؛ إذ كيف نبرئ ذمة عمرو بن كلثوم، مع أنه لم يشر إلى مصدر البيتين؛ ونتهم في المقابل، جريرا بانتحال ما هو مشهور بين الجميع أنه لغيره؟ أم كيف نوفق بين اتهام جرير بالسرقة والانتحال في (العمدة)، وبين تبرئته من قبل الناقد نفسه، بعد ذلك، في "قراضة الذهب"( )، وعند الحديث عن نفس البيتين وعن ذات المصطلح!؟ قال: «الاجتلاب يكون لغير معنى السَّرَق، وهو أن يرى الشاعر بيتا يصلح لموضع من شعره فيجتلبه، وقد فعل ذلك جرير في بيتي المعلوط السعدي...البيتين»( ).
فيكفي هذا دلالة على تحكم المزاج الخاص للناقد أحيانا في تحميل المصطلح ما شاء من دلالة فيستعمله للطعن تارة والإطراء أخرى. أو عساه أن يكون من ابن رشيق تطويرا وتعميقا لرؤيته إزاء السرقات في القراضة. والذي يرجح هذا أن الناقد في "العمدة" كان همه عرض موضوع السرقة كما فهمه النقاد قبله، وخاصة الحاتمي في "حلية المحاضرة"، فلم يدع بذلك لرؤيته الخاصة أن تتسرب إلى الموضوع إلا لماما، فكانت مجرد خطرات وانطباعات سريعة إن لم نقل متسرعة، ما تلبث أن تخلي السبيل للغرض الأساس الذي هو التعريف بالموضوع كما وصله تعريفا "شاملا".




* جريدة الشمال - يوم السبت 26 مارس 2022 م.


د. المختار حسني



1648651692214.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى