صديقة علي - عصيرُ الصّبار... قصة قصيرة

هذا الصباح عصيب، خوف ضمّني أميته في قلبي كاد أن يزعزع خطواتي، وأن يشي بهشاشتي، غير المتناسبة مع حجم مسؤولياتي... مسؤولياتي؟! أضحك بسخرية وأضبط نفسي ما أمكن فما أن اقتربتُ من باب مكتبي؛ حتى ارتديتُ ثياب الوقار، هرول أمامي لم يكن مجرد مدير مكتبي فقط، بل كاتم أسراري والوحيد الذي يحق له دخول مكتبي في غيابي، يفتح الباب على عجل، ويخبرني بجمله السريعة المتلاحقة، وأنا ألج مملكتي بثقة اكتسبها من عيون كانت تتبعني في كل يوم، يلحق بي كعادته:
- (كلّه تمام) أستاذة ... كما طلبتِ حضرتك بالضبط... لقد أتى الرجل منذ نصف ساعة وهمس لي بكلمة السرّ ففتحت له باب الغرفة، ثم أقفلتها عليه، ووقفت خارجاً لدقائق، وما أن قرع الباب من الداخل؛ حتى فتحت له بسرعة... ثم خرج دون أن يتكلم أيّ كلمة
- نعم نعم اختصر، ألا تغير عادتك بسرد التفاصيل ؟!لكن أخبرني من دخل الغرفة من بعده؟
وكأنه ينفي التهمة عنه، وينفي أي تقاعس منه في تنفيذ خطط وضعناها معا، يجيب على عجل:
- لا أحد... أبدا لم أدخِل أحداً... قط
- حسنا أحضر لي القهوة.
جلست بكل اعتداد على كرسي دوار، ورحت أتصفح أوراق إضبارة عوجاء، ملقية في داخل درج طاولتي، طافحة بالتآمر والاحتيال على القانون، تستقيم بعلبة مجوهرات وضعت خلسة تحتها، أفتحها بهدوء وبكل رباطة جأش أُغلِقها. وأبتسمُ ...
ما أن سحبت يدي حتى انبثق الدم من سطحها، نتوء لعين في أسفل الطاولة حزّ جرحا امتد من معصمي حتى الإبهام، التقطت دمي بمناديل ورقية، وانتابتني حالة من غضب نويت أن أفجِّره بوجه مدير مكتبي، لكن شيئا في أعماقي كان هاجعا استفاق بغتة، فأغلقت درج طاولتي بهدوء، ودون رغبة مني خرجت من الدرج حقبة من عمري تفصلني عنها عشرات السنين ومئات الأعاصير، كانت هاجعة في زاوية الذاكرة، صامتة، بل تمّ إسكاتها بمطرقتي كقاض، فما إن استلمت منصبي هذا، حتى أسقيت ماضيّ كلّه حبوباً منوّمة،
كان عليّ أن أركض بوعاء الحليب الطافح، هاربة من نباح يلاحقني، فيندلق الحليب على فستاني، لكن مع اشتداد خوفي وارتجاف يدي، وجدتني لا أستطيع التقيد بوعاء يحدّ من سرعتي، فسلمته للكلب كي يكفّ عن ملاحقتي، وضعت الإناء على حافة الدرب الترابي الذي تكسوه عتمة المساء، ...تعثرت وسقطت. بينما كان الكلب يلعق الحليب لمحت ورقة نقدية ملوّثة بالغبار وبقطرات الحليب، التي تتقطر من فستاني، كانت من فئة مائة ليرة، وكانت وقتها تشتري الكثير، التقطتها أمسح عنها الغبار بيدين ترتجفان فرحا وخوفا... ورحت أفكر كيف أتدبر لها مخبأ في جسدي، فأسقطتها في (عبّي) لتستقر محشورة خلف (مئزري)، سارعت إلى البيت أشغل أمّي بقصة الوعاء المتروك للكلب، وما أن امتدت يدها تتلمس فستاني الملوث بالأتربة المجبولة بالحليب، حتى جفلتُ، ورحت أبدّل ثيابي بعيدا عنها وأنا متوجسة أن تكون قد اكتشفت أمري.
مرّ الليل الطويل ثقيلا، أتقلب وقلقي في فراشي وسعادتي في ورطة كبيرة... كيف سأنفق كنزي؟ ... أحصي كم حبلاً من السكاكر سأشتري؟ كم كعكة؟ كم علكة؟ ولمن سأطعم من (قباقيب)1 غوار الهائلة؟ وأين سأتنعم بها دون أن تضبطني أمّي متلبسة بجرمي؟ وأنا أتقلب مؤرقة وقعت عيني على ندبة وقحة في يد أخي الأكبر النائم بعمق في فراش مجاور لفراشي...
تدفعني الندبة وكان عمرها أكثر من عام إلى الاعتراف، وكنت قد قاربت على نسيانها، لكن صراخ أخي عاد إلى ذاكرتي الجبانة، وهو يقسم أنه لم يسرق وهو يتألم ويد أمّي الممدودة بسيخ محمّى على نار العقاب، تكويه وتكوي قلبي.
-ستجعلهم يقولون ابنها حرامي... لم تحسن تربية أولادها من بعد زوجها لا والله لن أسمح لك بهذا ...
-لماذا لا تصدقينني أنا حقا وجدتها ولم أسرقها.
-كاذب. ألا تخاف الله؟! ستقصّر عمري بأفعالك المشينة.
يومها، كانت ملامح هذه المرأة لا تمتّ بصلة لملامح أمّي، بل بدت لي كجلّادة متوحشة لا قلب لها.
الحروق على يد أخي لم تستغرق وقتاً طويلاً كي تشفى، لكن جروح قلبي لم تشفَ أبداً. أمّي ثابرت على تضميدها ليد أخي بدموعها وبأوراق الزعتر البري الممزوج بزيت الزيتون، وعصير الصبّار، لكن الندبة بقيت وظلّت تؤلمني، وتؤجج الحقد في قلبي على أمّي القاسية حيناً والحنونة أحياناً.
عدت أقنع نفسي: صاحب الدّكان الوحيد في القرية كان خالي ولابد أنه سيخبرها... وسيسألني كعادته من أين لك هذا؟ سأقسم له يمينا أنني لم أسرق، لكنّه، لن يصدقني إذن فلأسلمها النقود وأنام، لكن سرعان ما نفضت الفكرة عن ذهني، فشريط المشتريات كان شهياً جداً، وخوفي ألا تصدقني كان أكبر من كل اشتهاء.
عند الفجر هدَّني التعب فغفوتُ على صلاة أمّي، وهي تدعو الله بأن يبعد عنا أولاد الحرام...
لمّا استيقظتُ لم أجد كنزي تحت وسادتي... شعرت بخيبة عارمة، وكدت أن أبلّل سروالي لشدة ذعري، أرتجف وأشعر بحمى تلهب جسدي أكثر مما يفعله سيخ أمّي المتوهج.
سمعتُ جارتنا تشكر أمّي وتدعو لها بالعمر الطويل، وتهنئوها على ابنتها التي حفظت الأمانة لأصحابها.
- الله وكيلك، لو لم أستردها لأكل عود الرمان من جسدي... فزوجي لن يصدق أني قد أضعتها، وسيتهمني بأني أعطيتها لأهلي.
أنهت أمّي حديث الجارة بصمتها المتواصل، ودخلت الغرفة الترابية التي كانت تشكل مع شجرة التوت بيتنا كله، تقترب مني، أشعر في نظراتها تخترق لحافي الذي غطّى رأسي وأنا أتكوّر على نفسي، وأتظاهر بالنوم وأنتظر محاكمتها، لكن الحمى اشتدت ورحت أرتجف والعرق يبلل فراشي، لا أنسى يومها نظرات خوفها ع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى