(1) وصايا
واصل، لا تهتم وسر في قراءتك. لا تنظر نحو أحدهم وامش بعينيك في السطور. مهما يكن، لن يحدث شيء خطير إذا تجرأ واحد منهم. تابع ما تقرأ، وتهيَّأ لتصل إلي نهاية لا تعرفها. لا تعبأ واعبر الصفحة الأولي. خذ نفسا عميقا من بطن الكتاب، وتمتع برائحة التونة الصابحة! دس أنفك في المكتب وشم الخشب. هذه الروائح لك أنت.
استمر في القراءة واعبر الصفحة الثانية. لا تخش هذا العملاق الذي يحدق فيك وبيده هراوة ستسقط حالا علي رأسك. ها أنت تقلب الثالثة والأمر يمضي معهم بسلام بارد. لا يشغلك أحدهم وقد أرسل إصبعه الأوسط في حركات خليعة. اطمئن، أنت في بيتك وعلي مكتبك. إنه لجنون حقيقي أن تضعهم في بالك. لا تهتم يا رجل واقلب الرابعة. كن فولاذيا حتي لا يظهر أحدهم أمامك في الصفحة ويزيح السطور السوداء. أبعده عنك كما تبعد ناموسة. بعدها، وقد نجحت في تهميشهم، اعمل بهذه الوصايا العشر العظيمة:
1- لا تلتفت لرنات الموبايل، حيث صديقك سيعيد ويزيد في قضايا الساعة.
2- لا تقرأ الجرائد السيارة، فحروفها السوداء تفوح برائحة القار.
3- لا تفتح تليفزيوناً، لأن الفاصل الإعلاني طويل جداً.
4- لا تنقر أزرار الحاسب وتدخل العالم، النت صار أكذوبة.
5- لا تكلم أحداً في سيارات الأجرة. لا أحد سيتكلم.
6- لا تتأمل في الشارع، فقد اختفي خلف النقاب.
7- لا تمتع عينيك بالبيوت القديمة ذات المشربيات والنوافذ الطويلة، عما قريب ستكون أبراجاً.
8- لا تُجب من يسألك عن شارع "سعد زغلول".
9- لا تنظر نحو القمر في الليل، فالسحب السوداء قد تآمرت عليه.
10- لا تتشاءم.. أنت لا تزال علي قيد الحياة.
عندما يحتال عليك أحدهم ويتنكر في ثياب الملوك أو الرؤساء أو أصحاب الفتاوي أو النساء ذوات الإسدال، فلا ترفع عينيك. فقط امض فالقصة توشك ان تضع نهايتها بنفسها. أغلق كتابك ونم.. نم كما لم تنم من قبل.
(2) أستاذ محسن
في الصباح: اغتسالك متعجل وفطورك بالخطف، وقطع الملابس تعرف طريقها إلي الرجلين والذراعين. نزولك متقافز علي الدرجات. لا شيء في الشارع خارج المألوف. لكن تمهَّل قليلا وهذا الغريب يسألك عن الأستاذ محسن. تتلفت حولك، تشير للعمارة في الخلف وتلفظ برقم الدور. تأخذ نفَسا مُنشرحا برأس يدندن إيقاعا حلوا لا يريد أن يمنح الذاكرة اسم الأغنية. تعرف أن الاسم سيأتيك فجأة أثناء اليوم، لكن بعد أن تنساه. قبل أن تستدير ستقف مرة أخري لاثنين يسألان عن الأستاذ محسن! تفتح عينيك في وجهيهما. تعطي الوصف الدقيق للعمارة والدور ونمرة الشقة. تُخرج ضحكة مكتومة: ماذا فعلت يا أستاذ محسن في نهارك هذا؟ تفتح خطواتك، تجري بشكل متقطع. تلعب قدمك بعلبة كانز مُدغدغة. تُصوب بها بين حجرين متقاربين. تدخل من بينهما فتفرح بالهدف النظيف. هذه المرة ثلاثة شبان بشعر منكوش وبناطيل ساقطة عن خصورهم. قبل أن ينطقوا الاسم تصف لهم لفتة الشارع والعنوان بالتفصيل. اليوم يومك يا أستاذ محسن، إما عملتَ مصيبة أو فُزتَ بجائزة نوبل! غير معقول أن تهل بركاتك كلها في يوم واحد، بركاتك الحلوة الطرية التي تُعيد نفس الموال. تُفكر أن تلغي عملك وترجع مع هذه البنت لتدلها علي العنوان. تقول لها إن الأستاذ محسن حبيبك جدا، ويعيش في حاله. تشكرك وتمضي بخطوات إيقاعية علي الأسفلت.
تنزع نفسك من ظهرها الحلزوني، وبلا نظرة معتادة في الساعة، تقعد علي أقرب كرسي في مقهاك الخالي. يأتي رجل المقهي مُرحبا بك علي غير العادة. وحتي تجيء القهوة؛ ستبقي عائشا مع نغم حروف يتشكل منها اسمك يا أستاذ محسن!
(3) فاطمة
تحكي »فاطمة» لزميلاتها أنها تحلم، وفي الحلم تكون خارجة من بيتهم؛ فتحاذيها دجاجات، وتدخل بين قدميها وتخرج أرانب وقطط ناعمة.
»فاطمة» رائدة فصل (6/2) الذي أدخله يوميا. معها طباشير الفصل ودفتر الغياب. خطها جميل وتكتب عناوين الدروس كأنها ترسم. من تلقاء نفسها، بادرت بكتابة قائمة جديدة بأسماء الفصل، بدلا من الأخري القبيحة الملطوعة علي الحائط، كما قامت بتسطير جدول جديد للحصص بأقلامها الملونة، فضلا عن لوحة مزدانة بالرسوم لمجموعات النشاط الأربعة. علقت »فاطمة» كل ذلك في المستطيل الخشبي المعلق جنب السبورة، والمقسم إلي مربعات متماثلة، بعد أن زينته بورق الحائط الوردي، ليتميز فصلنا بعد ذلك بأن فيه »فاطمة»! نعم تلك الصغيرة المهندمة. وجهها قطعة نقود جديدة يحلو تأملها في باطن الكف. حين أدخل الفصل تبادر إلي إخراج الطباشير من كيسها الأزرق، وتستأذن في سحب الكرسي لتطلع فوقه ماسحة السبورة، أو مُعدلة التاريخ إذا كنا في أول حصة. تفعل »فاطمة» تلك الأشياء، وتصر عليها حتي في وجود منغصات كثيرة. ففي مرة خرج صوت منافسها الأقوي »عبدالحميد»، مناديا إياها أن تنتهي: »خلاص بقي انزلي يا ورك النملة!»..استدارت »فاطمة»، من فوق الكرسي، بيديها في وسطها، وعينيها المفتوحتين: »اسم الله عليك يا ورك الجمل!». بالفعل كان الولد »عبدالحميد» طويلا نحيلا. حُشت نفسي عن الضحك وأنهيت الاشتباك.
كنا في مارس حين جاء »عبدالحميد» مبتسما، وقال إنهم يريدون تغيير »فاطمة»، واختيار »محمد عبدالمنعم» رائدا للفصل. قلت إن الموضوع لا يستأهل، خصوصا أن امتحانات آخر العام بعد شهرين، وذكَّرْتهم بانتخابات أول السنة التي فازت فيها »فاطمة». في النهاية وعدتُهم بفرصة كبيرة في انتخابات العام القادم.
حصة وراء حصة، ويوم يسحب يوما. وبعد سبعة أيام من اعتقادي بانتهاء الموضوع؛ فاجأتني »ندا» صاحبة »فاطمة» بأن الصبيان عملوها: اختاروا »محمد عبدالمنعم» رائدا للفصل، و»عبدالحميد» هو الأمين المساعد. توقفتُ عن أي شيء، وكادت الطباشيرة أن تقع من يدي. بسرعة دارت عيناي في الجانبين المتحفزين، ورأيت النار نائمة. زعقتُ بكل ما فيّ: خلااااص!.. مضيتُ في حصتي، دون فتح الموضوع بكلمة واحدة.
* نقلاعن اخبار الادب المصرية
3/2/2018
واصل، لا تهتم وسر في قراءتك. لا تنظر نحو أحدهم وامش بعينيك في السطور. مهما يكن، لن يحدث شيء خطير إذا تجرأ واحد منهم. تابع ما تقرأ، وتهيَّأ لتصل إلي نهاية لا تعرفها. لا تعبأ واعبر الصفحة الأولي. خذ نفسا عميقا من بطن الكتاب، وتمتع برائحة التونة الصابحة! دس أنفك في المكتب وشم الخشب. هذه الروائح لك أنت.
استمر في القراءة واعبر الصفحة الثانية. لا تخش هذا العملاق الذي يحدق فيك وبيده هراوة ستسقط حالا علي رأسك. ها أنت تقلب الثالثة والأمر يمضي معهم بسلام بارد. لا يشغلك أحدهم وقد أرسل إصبعه الأوسط في حركات خليعة. اطمئن، أنت في بيتك وعلي مكتبك. إنه لجنون حقيقي أن تضعهم في بالك. لا تهتم يا رجل واقلب الرابعة. كن فولاذيا حتي لا يظهر أحدهم أمامك في الصفحة ويزيح السطور السوداء. أبعده عنك كما تبعد ناموسة. بعدها، وقد نجحت في تهميشهم، اعمل بهذه الوصايا العشر العظيمة:
1- لا تلتفت لرنات الموبايل، حيث صديقك سيعيد ويزيد في قضايا الساعة.
2- لا تقرأ الجرائد السيارة، فحروفها السوداء تفوح برائحة القار.
3- لا تفتح تليفزيوناً، لأن الفاصل الإعلاني طويل جداً.
4- لا تنقر أزرار الحاسب وتدخل العالم، النت صار أكذوبة.
5- لا تكلم أحداً في سيارات الأجرة. لا أحد سيتكلم.
6- لا تتأمل في الشارع، فقد اختفي خلف النقاب.
7- لا تمتع عينيك بالبيوت القديمة ذات المشربيات والنوافذ الطويلة، عما قريب ستكون أبراجاً.
8- لا تُجب من يسألك عن شارع "سعد زغلول".
9- لا تنظر نحو القمر في الليل، فالسحب السوداء قد تآمرت عليه.
10- لا تتشاءم.. أنت لا تزال علي قيد الحياة.
عندما يحتال عليك أحدهم ويتنكر في ثياب الملوك أو الرؤساء أو أصحاب الفتاوي أو النساء ذوات الإسدال، فلا ترفع عينيك. فقط امض فالقصة توشك ان تضع نهايتها بنفسها. أغلق كتابك ونم.. نم كما لم تنم من قبل.
(2) أستاذ محسن
في الصباح: اغتسالك متعجل وفطورك بالخطف، وقطع الملابس تعرف طريقها إلي الرجلين والذراعين. نزولك متقافز علي الدرجات. لا شيء في الشارع خارج المألوف. لكن تمهَّل قليلا وهذا الغريب يسألك عن الأستاذ محسن. تتلفت حولك، تشير للعمارة في الخلف وتلفظ برقم الدور. تأخذ نفَسا مُنشرحا برأس يدندن إيقاعا حلوا لا يريد أن يمنح الذاكرة اسم الأغنية. تعرف أن الاسم سيأتيك فجأة أثناء اليوم، لكن بعد أن تنساه. قبل أن تستدير ستقف مرة أخري لاثنين يسألان عن الأستاذ محسن! تفتح عينيك في وجهيهما. تعطي الوصف الدقيق للعمارة والدور ونمرة الشقة. تُخرج ضحكة مكتومة: ماذا فعلت يا أستاذ محسن في نهارك هذا؟ تفتح خطواتك، تجري بشكل متقطع. تلعب قدمك بعلبة كانز مُدغدغة. تُصوب بها بين حجرين متقاربين. تدخل من بينهما فتفرح بالهدف النظيف. هذه المرة ثلاثة شبان بشعر منكوش وبناطيل ساقطة عن خصورهم. قبل أن ينطقوا الاسم تصف لهم لفتة الشارع والعنوان بالتفصيل. اليوم يومك يا أستاذ محسن، إما عملتَ مصيبة أو فُزتَ بجائزة نوبل! غير معقول أن تهل بركاتك كلها في يوم واحد، بركاتك الحلوة الطرية التي تُعيد نفس الموال. تُفكر أن تلغي عملك وترجع مع هذه البنت لتدلها علي العنوان. تقول لها إن الأستاذ محسن حبيبك جدا، ويعيش في حاله. تشكرك وتمضي بخطوات إيقاعية علي الأسفلت.
تنزع نفسك من ظهرها الحلزوني، وبلا نظرة معتادة في الساعة، تقعد علي أقرب كرسي في مقهاك الخالي. يأتي رجل المقهي مُرحبا بك علي غير العادة. وحتي تجيء القهوة؛ ستبقي عائشا مع نغم حروف يتشكل منها اسمك يا أستاذ محسن!
(3) فاطمة
تحكي »فاطمة» لزميلاتها أنها تحلم، وفي الحلم تكون خارجة من بيتهم؛ فتحاذيها دجاجات، وتدخل بين قدميها وتخرج أرانب وقطط ناعمة.
»فاطمة» رائدة فصل (6/2) الذي أدخله يوميا. معها طباشير الفصل ودفتر الغياب. خطها جميل وتكتب عناوين الدروس كأنها ترسم. من تلقاء نفسها، بادرت بكتابة قائمة جديدة بأسماء الفصل، بدلا من الأخري القبيحة الملطوعة علي الحائط، كما قامت بتسطير جدول جديد للحصص بأقلامها الملونة، فضلا عن لوحة مزدانة بالرسوم لمجموعات النشاط الأربعة. علقت »فاطمة» كل ذلك في المستطيل الخشبي المعلق جنب السبورة، والمقسم إلي مربعات متماثلة، بعد أن زينته بورق الحائط الوردي، ليتميز فصلنا بعد ذلك بأن فيه »فاطمة»! نعم تلك الصغيرة المهندمة. وجهها قطعة نقود جديدة يحلو تأملها في باطن الكف. حين أدخل الفصل تبادر إلي إخراج الطباشير من كيسها الأزرق، وتستأذن في سحب الكرسي لتطلع فوقه ماسحة السبورة، أو مُعدلة التاريخ إذا كنا في أول حصة. تفعل »فاطمة» تلك الأشياء، وتصر عليها حتي في وجود منغصات كثيرة. ففي مرة خرج صوت منافسها الأقوي »عبدالحميد»، مناديا إياها أن تنتهي: »خلاص بقي انزلي يا ورك النملة!»..استدارت »فاطمة»، من فوق الكرسي، بيديها في وسطها، وعينيها المفتوحتين: »اسم الله عليك يا ورك الجمل!». بالفعل كان الولد »عبدالحميد» طويلا نحيلا. حُشت نفسي عن الضحك وأنهيت الاشتباك.
كنا في مارس حين جاء »عبدالحميد» مبتسما، وقال إنهم يريدون تغيير »فاطمة»، واختيار »محمد عبدالمنعم» رائدا للفصل. قلت إن الموضوع لا يستأهل، خصوصا أن امتحانات آخر العام بعد شهرين، وذكَّرْتهم بانتخابات أول السنة التي فازت فيها »فاطمة». في النهاية وعدتُهم بفرصة كبيرة في انتخابات العام القادم.
حصة وراء حصة، ويوم يسحب يوما. وبعد سبعة أيام من اعتقادي بانتهاء الموضوع؛ فاجأتني »ندا» صاحبة »فاطمة» بأن الصبيان عملوها: اختاروا »محمد عبدالمنعم» رائدا للفصل، و»عبدالحميد» هو الأمين المساعد. توقفتُ عن أي شيء، وكادت الطباشيرة أن تقع من يدي. بسرعة دارت عيناي في الجانبين المتحفزين، ورأيت النار نائمة. زعقتُ بكل ما فيّ: خلااااص!.. مضيتُ في حصتي، دون فتح الموضوع بكلمة واحدة.
* نقلاعن اخبار الادب المصرية
3/2/2018