د. علي خليفة - الخطابة

الخطابة هي أحد الفنون النثرية، وفيها يواجه الخطيب جماعة من الناس، ويحدثهم بغرض إقناعهم واستمالتهم، وتحتاج في نهضتها لوجود مناخ من الحرية، ولوجود رغبة من الأمة التي تنهض فيها في تغيير أوضاع بها، ثم تأتي المواهب الفردية في ظهور خطباء عظام موهوبين.
وقد نهضت الخطابة عند اليونانيين القدماء لوجود مناخ الحرية والديمقراطية عندهم، وظهر فيهم خطباء عظام موهوبون مثل ديموستيني، وتحكى بعض أخبار عن مهارته في الخطابة، ومع ذلك كان في بداية أمره مع الخطابة ينفرد بنفسه بين الجبال، ويخطب حتى تمكن من فن الخطابة، وصار خطيبًا مرتجلاً فريدًا في عصره.
والعرب في العصر الجاهلي عرفوا فن الخطابة، فقد توافرت الظروف عندهم التي تؤدي لنشأة هذا الفن ونهضته، فقد كانوا أحرارًا
لا يخضعون لأي سلطة غير سلطة القبيلة، وكانوا جريئين في التعبير عن آرائهم، وكانوا أهل الفصاحة والبلاغة والجدل؛ ولهذا جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا)وقوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) وعلق النبي على قول خطيب منهم بقوله صلى الله عليه وسلم "إن من البيان لسحرًًا".
ولم يكن غريبًا لاتصاف جملة العرب في الجاهلية بالبلاغة والفصاحة أن تكون المعجزة التي أتى النبي الكريم بها هي القرآن الكريم – الذي أنزله ربه عليه – وتحداهم وهم البلغاء أن يأتوا بمثله
أو بعشر سور منه أو بسورة منه، فعجزوا مما يدل أنه في مستوى بلاغي يعجز عنه البشر، فدل على صدق نبوة من نزل عليه، وهو الصادق الأمين محمد عليه الصلاة والسلام.
ووجدت في العصر الجاهلي المناسبات التي تستدعي نهضة الخطابة، فكان العرب في العصر الجاهلي في حروب لا تتوقف، وفيها يخطب الخطباء لتحفيز المحاربين، وهناك من يدعون للسلام، وكانت للعرب أيضًا أسواق كثيرة تقام خلال العام، فكل سوق تقام في فترة معينة من السنة، وبمجرد أن تنتهي سوق تبدأ سوق غيرها في مكان آخر، وهكذا، وكان من أهم هذه الأسواق سوق عكاظ وسوق ذي المجنة وسوق ذي المجاز، وكان العرب يبيعون ويشترون في هذه الأسواق، وفي الوقت نفسه كان شعراؤهم ينشدون شعرهم فيها وبلغاؤهم من الخطباء يخطبون فيها.
ولهذا لا نتفق مع ما ذكره الدكتور طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي" حين هون من شأن الخطابة في العصر الجاهلي، وقال: إنه لم توجد دواعٍ قوية لنهضتها.
وقد ذكر الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين" كثيرًا من خطباء العرب في العصر الجاهلي، وذكر نتفًا من خطابة بعضهم، وكان أشهر خطيب بينهم قس بن ساعدة الإيادي الذي يغلب على الظن أنه كان نصرانيًّا، وكان يدعو لعبادة الله في خطبه وتوحيده، كهذه الخطبة التي رواها له الجاحظ، وكان قد خطب الناس بها في سوق عكاظ.
وقد وصف الجاحظ العرب – في كتاب "البيان والتبيين" – بأنهم أمة مفطورة على الارتجال في خطابتها، فكل عربي في الجاهلية كان لديه هذه الموهبة، وهذا لم يتوافر لأي أمة قديمًا غير العرب. وفي كلام الجاحظ عن خطابة العرب حماسة واضحة؛ لأنه يرد على الشعوبيين
– خاصة من الفرس – الذين حاولوا أن ينزعوا عن العرب كل فضيلة بما في ذلك الخطابة، ويطلب الجاحظ إلى كل من يتشكك في كلامه في قدرة العرب على الارتجال في خطابتها أن يدخل بوادي العرب؛ ليشاهد فصاحة أهلها وارتجالهم في خطابتهم.
وقد دافع الجاحظ عن العرب فيما وصفهم به الشعوبيون من إمساكهم المخاصر – العصي – في خطابتهم وقد قالوا: إنه ليس بين العصي والخطابة نسب، ولكن لأن العرب كانوا رعاة في الجاهلية؛ فلهذا أمسكوا بها خلال خطابتهم بعد أن سكنوا الحواضر بعد ذلك.
وقد رد الجاحظ عليهم بأن إمساك العرب العصي أو استنادهم على الأقواس عادة من عادات العرب، كما أن لكل أمة عادات تعتز بها، ومن ذلك إمساك النساء المآلي في المناحات، وقد كان للجاثليق مظلة وعصا يمسكها. وقال: إن حمل العربي للعصا يدل على تهيئه للخطابة، واستعداده لها، ثم إن الحكم على الخطابة لدى العربي لا بد أن يكون بالنظر لما يقوله، وكان بليغًا باعتراف من شهد بلغاءهم في الجاهلية والإسلام.
وقد شكك كثير من الباحثين في مجمل ما وصلنا من خطب عن العرب في الجاهلية – كطه حسين وشوقي ضيف وزكي مبارك –، وعللوا ذلك ببعد العصر الذي دونت فيه هذه الخطب وهو العصر العباسي الأول عن الفترة التي قيلت فيها وهي العصر الجاهلي، ولكنني أظن أن بعض خطب العرب في الجاهلية يغلب على الظن أنها صحيحة النسبة، ومن ذلك ما رواه لهم رواة معروفون بالتوقي في الرواية، كالأصمعي وأبي عمرو بن العلاء، وما كتبه منها الجاحظ وابن قتيبة والمبرد – على وجه الخصوص – في كتبهم ووثقوه. وعلينا أن نأخذ في الاعتبار ما اشتهر به العرب في العصور القديمة من قدرة كبيرة على الحفظ لما يسمعونه من كلام ولو لمرة واحدة، وكان مما قوى ذاكرتهم أنهم كانوا أميين– في أكثرهم –، فاستعانوا بملكة الحفظ في حفظ معارفهم وآدابهم، ومنها الخطابة.
ووجدت عند العرب في الجاهلية فنون تتعلق بالخطابة، كالمنافرة والجدل والمناظرة، وكان لديهم خطابة حربية، وخطابة اجتماعية، وخطابة سياسية، وخطابة دينية.
ومن أهم الخصائص الفنية للخطابة في العصر الجاهلي أنها كانت بلا تكلف، فليس فيها محسنات بديعية كثيرة، وما يأتي منها فيها يأتي بغير تكلف، وفيها مزاوجة بين الترسل واستخدام بعض السجع. أما خطب الكهان فكان يغلب عليها السجع والعبارات الغامضة للتأثير في المستمعين لهم، وبث جو من الرهبة فيهم، وفي خطب العرب في الجاهلية فصاحة وجزالة في الألفاظ. وتعد الخطب التي صحت نسبتها للعصر الجاهلي مرآة صادقة لأحوال العرب في الجاهلية في شتى جوانب حياتهم.
وفي عصر صدر الإسلام نهضت الخطابة لا سيما الخطابة الدينية، فالنبي عليه الصلاة والسلام يعرف الناس بالإسلام من خلال الخطابة، والخلفاء الراشدون والقادة العسكريون يخطبون لحث الناس على الجهاد ولأمور أخرى.
وكان أبلغ الناس بعد النبي – عليه الصلاة والسلام – الصديق والفاروق وعلي بن أبي طالب عليهم رضوان الله جميعًا ووضح في خطب فترة عصر صدر الإسلام تأثر الخطباء بآيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وفيها وضوح وحماسة في التعبير.
والعصر الأموي هو العصر الذهبي للخطابة العربية، ففيه تكونت الأحزاب السياسية، كحزب الأمويين وحزب الزبيريين وحزب الهاشميين، وفيه أيضًا ظهر بعض الفرق الإسلامية، كالخوارج والمعتزلة والمرجئة، وكان زعماء هذه الأحزاب والفرق يخطبون ليوضحوا أفكارهم، ويدافعوا عنها؛ وليهاجموا أعداءهم، ويردوا على أقوال مخالفيهم.
ومن أهم خطباء هذا العصر زياد بن أبيه، والحجاج بن يوسف الثقفي، وعبد الملك بن مروان، ومصعب بن الزبير، وقطري بن الفجاءة، وواصل بن عطاء، وغيرهم من الخطباء.
وكانت الخطابة في هذا العصر تسير على ما عرف به العرب من قدرة على الارتجال، والفصاحة في التعبير، وعدم التكلف، ولم يظهر التأثر بالمنطق اليوناني إلا على ألسنة خطباء المعتزلة مع نهاية هذا العصر.
وفي العصر العباسي ضعفت الخطابة عما كانت عليه من قوة في العصور السابقة، فقد كثر العجم في البيئات العربية، وكثر اللحن منهم، وضعف وضع الحرية خلال فترات طويلة من هذا العصر، وقل نفوذ العرب مع نهاية القرن الثالث الهجري وقبله بقليل.
ومع ذلك استمر تيار الخطابة يتدفق – وإن كان ليس بالقوة التي رأيناها في العصور السابقة –، وكان منها خطابة سياسية، وبخاصة على ألسنة الخلفاء والوزراء والولاة، وخطابة دينية من علماء الدين، وخطابة اجتماعية من بعض دعاة الإصلاح الاجتماعي، وهناك أنواع أخرى من الخطابة في هذا العصر. ومن أهم خطباء العصر العباسي أبو جعفر المنصور والمأمون وجعفر البرمكي.
ومع بداية القرن الرابع الهجري وما تلاه من العصور حتى بداية العصر الحديث ظهرت المحسنات البديعية، والزخرفة اللغوية، والاحتفال بعناصر البديع في كتب الكتاب وخطب الخطباء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى