د. سيد شعبان - الرومية والزغبي!

مرت أيام لست أحصيها؛ فقد أصابني داء النسيان، لاأدري ما الذي جاء بهذه المرأة إلى ذاكرتي؟
حين كنت أبحث في ديوان العبر؛ وجدت صورتها كما أوردها لسان الدين ابن الخطيب، هل تراه ذكرها في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة؟
يقال إنهم أحرقوه حيا، لعلهم جاءوا بأشيائه من كتب وأوراق وجعلوها وقودا لناره؛ لكم أضاعوا!
هل احتفظت إيزلبيلا بتلك الصورة إمعانا في القهر؟
لعلها تعير بها نسوتنا وقد تركن زينتهن!
ثمة قائل: لتجعل هؤلاء يتمنون بنات الروم، فما بهم غير هيام بالخدود ولتذهب الكتب والأسرار ومفاتيح العودة إلى غيابة جب يوسف!
هذا زمن الزغبي!
أخذتني إغفاءة، حين أكون مشغولا بأمر ما تتجمع خيوطه في ذلك الوسن، تمثل الأحداث شخوصا تتحرك، أجدني في عالم آخر، ربما يكون هذيانا، لكن ما أريته تلك الساعة كان أمرا يستدعي أن أحكيه عليكم، فالأحلام سلوى الحزين!
مثلت أمامي والوجه أرجواني، قرط ذهبي يتدلى من أذنيها، خصلات شعر صفراء تتماوج كأنما هي في سباق مع الريح!
ابتدرتني ابنتي قائلة:
ترى من تكون هذه المرأة؟
حاولت أن أتهرب منها، فلكم يخفي الآباء عن صغارهم مشاغبات الصبا!
-أكانت تلك فتاة أحلامك؟
-مؤكد أن الحديث عن ذلك العالم الذي تدثر بالنسيان يثير شهية الأبناء؛ فقد تكون تلك مدعاة لفك شفرة أبيها الذي ينطوي على أسرار لما يحن وقت البوح بها.
-بنيتي تلك ثريا!
حين تأكل نار الغيرة قلب المرأة تجعل البلادخرابا، تأتي بجنود لاقبل للرجال بها، حكاية تتكرر كثيرا، ألم أحدثك عما فعلته كليوباترا بيوليوس قيصر؟
هذه أختها، في بلادنا حكايات ليست للسمر!
-دهشت لما ذكرتها أمامها؛ أو كنت تعرف تلك الرومية؟
أجبتها:
ألم أخبرك ذات يوم أننا من بني الأحمر، لكننا تفرقنا في البلاد؛ هانحن نسكن البراري، لقد تفرقنا في بلاد الله!
فلكل شيء إذا ما تم نقصان!
-أي جمال يا أبي امتلكته ثريا الرومية!
عودها بل لمة شفتيها تلك الأسنان تبرق وميضا في عتمة الليل!
لم أشأ أخبرها عن خصرها الذي يتثنى كأنما هو أغصان الصفصاف، فكم من الأوصاف يبالغ الآباء في إخفائها عن الصغيرات!
ابتدرتها:
تذكرين جدك أبي عبدالله الذي صار بعد صغيرا، ومن يومها صار الزغبي، أكثر الأسماء عددا وشهرة، في هذه البلاد يعلون شأن هؤلاء الذين قامروا في الدهاليز الخلفية!
-وهل أضاعنا في الكفور والبوادي وأحراش البراري غيره؟
حاولت أن أصف لها جنة العريف وما بها من بساتين وضياع، زهر وورد وماء يجري، أعطاف الهوى تنثال عطرا في جنان الأرض وقد تثنت لما تفعله القيان، خدر ووسن عيون وطفاء، وكم يسلو المرء بأحاديث الهوى!
على الضفة الأخرى ذئاب تتربص لحوم الحملان!
ضل الرعاة يا صغيرتي!
تلك المرأة كما روى لي جدي عن أبيه عن آبائه قد يكونون خمسة أو يزيدون اثنين، فالزمن توقف ياابنتي يوم ارتدت ثريا عن دينها، بل وقفت مع عمتها ايزابيلا تلك المرأة التي شربت من دم أعمامك نخب الانتصار، يومها بكى أبو عبدالله محمد الذي صار صغيرا ملكا لم يحافظ عليه كالرجال!
تراقصت ثريا في محضر فرديناندو وياللأسى نصرت ولديها!
كانت جارية رومية، أكلت الغيرة قلبها، كم كانت تكره جدتك عائشة، فكثير من الحب يثمر وقليل من الحقد يشعل نيران الخراب، كانت الأيام تؤذن بالرحيل، جنود قشتالة يتجمعون، رجال بني الأحمر راقصوا القيان، ناموا يابنيتي آمنين والدهر يتقلب!
تسألني،وأين جند طارق بن زياد؟
ثمانية قرون مضت حاول بعدها موسى بن أبي الغسان أن يعيد البلاد!
تلك حكاية مضت لما يحن بعد أوان سردها!
-أجيبها والدمع يغلبني:
ماتوا، والبقية من أبنائهم تفرقوا، وقصور الحمراء ياصغيرتي شاراتها لاغالب إلا الله!
-أبتي!
أجبني:
أكل تلك البلاد كانت لنا؟
تلك القصور والضياع، هذه الأرض أكانت تعرفنا؟
-بل الشمس تذكر والقمر يبكي!
أهذا ما فعلته بنا ثريا الرومية؟
أخفي وجهي وأذهب بعيدا، يخرج من المقهى القريب صخب وعويل، لقد أضاع صلاح ركلة الجزاء!
ينادي الدلال:
رمش عينه جرحني!
يتبعه آخر:
إني أغرق!
بحثت عن طفلتي سناء فوجدتها بجواري تغط في نوم عميق!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى