كرم الصباغ - خد السحاب.. قصة

رنت الأرض؛ فرأت الطفل يلهو بين السحاب، يمزح ألوان قوس قزح بأشعة الشمس، و يرسم معارج خضراء، بفرشاة اتخذها من فروع الأشجار السامقة. ما إن يحط على رءوس الجبال، حتى تناديه النجوم؛ فيسارع إلى مداره. و لما يغشاه النعاس، يتخذ خد السحاب وسادة، و ينام. كان الطفل لا يشك أبدا في نسبه؛ فهو- بلا ريب- ابن نجم وضع نطفته في رحم سحابة بيضاء، هو ابن السماء، وداره الفضاء الرحب و الزرقة الصافية.
(٢)
اشتهت الأرض ألوان الطفل و دمه، اشتهت أن تتخذ من عرقه حبات مطر تروي رحمها الظامئ، اشتهت أن يتحول جسده إلى سماد يشبع تربتها الجائعة؛ فنسجت له فخا و غواية، أخرجت له من رحمها دارا، و شجرة، و طائرة ورقية، و بالونات، و أرجوحة، و أرغفة، و حلوى. و راحت تراوده، و تغريه، و تدعوه إلى النزول. و الطفل أخضر، بلا تجربة، خدعته الأرض العجوز. و لما هبط عليها، قصت جناحيه بمقصها الحاد، و نهته عن المخاطرة و التحليق، علمته أن يكون كالطيور الداجنة. راح الطفل يطير بالوناته و طائرته أمام الدار، فسلبتها منه أغصان الشجرة الشائكة، راح يتأرجح؛ فالتهم الصدأ أرجوحته. اشتهى الحلوى؛ فأفسد الهواء الملوث حلواه. نهشه الجوع؛ فضنت عليه الأرض بالرغيف. لاذ بالدار؛ ليتقي برد الليل القارس؛ فطردته منها الشياطين و الأشباح؛ صار الطفل مشردا في العراء. و لما اعتراه السأم، و أثقلته الهموم و الأوجاع، اتخذ من خضرة الحقول ألوانا، و من أعشاب البراري فرشاة جديدة، و راح يرسم على مرمى البصر براحا أخضر في آخره يقف ملاك يرفرف بجناحيه. اتخذ الطفل من ملاكه المرسوم رفيقا آنس وحدته؛ إذ نأى الصغير بنفسه عن اللهو مع من هم في مثل سنه؛ لقد فهم أخيرا أنه طيف، و أن الأرض مخادعة. و علم أن الأطياف لا تلمسها الأيدي، الأطياف تعيش في غربة الأرض الكاذبة. ظل خمس سنوات أسير الأديم، يلهو أمام الدار حينا، و يبكي تحت الشجرة أحيانا، يطارد الفراشات تارة، و يسابق الغزلان تارات، و الأرض تترصد خطواته، تقيدها، تستلب منه لذة الركض و الانطلاق، تنزع من قلبه المسرات. راح ينام في العراء مرة، و يكابد الأرق مرات. ظل يهفو إلى السماء، و ظلت الارض تحكم عليه الخناق، و تستلب كل يوم عرقه و دموعه و شيئا من دمه.
(٣)
الملاك يدعو الطفل سرا إلى التحليق، يعيره جناحين، و الأرض ذئب نائم يغلق عينا، و يفتح عينا أخرى. الطفل يضرب بجناحيه، يعلو ارتفاع جبل؛ فتجذبه يد الأرض الخشنة، تلقيه في جوف بئر سحيقة، تضم ضلوعه، تدق عنقه، تنزع جناحيه، تكشف عن وجهها القبيح، الأرض دميمة، و قعر البئر المظلم شيطان كريه. الطفل يبكي وحيدا في لجته المظلمة، و الملاك يسمع أنينه، الملاك يغادر كراسة الرسم، يمزق أغلال الورق و الخيال، الملاك يتحول إلى حقيقة. الملاك يرخي جناحه في قعر البئر، و الطفل يتعلق بريشه المنير، و الشيطان يجذبه، و الطفل يتشبث بحبل النجاة. الملاك يحمل الطفل، و يعرج به إلى السماء، الأرض الدميمة تصرخ، و ترسل الرياح من جوف الكهوف، و تثير رمال الصحاري، و الملاك يقاوم العواصف، و الرمال السوداء الثائرة، الملاك يصل- أخيرا- إلى النجوم، و يعيد الطفل إلى نجم كان في الأصل صاحب نطفته الطاهرة.


كرم الصباغ - مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى