مناف كاظم محسن - في ساحة السوق

ارتفعت أصوات الباعة في ساحة السّوق المكتظة بالناس في هذا الصباح الشتائي البارد. تقدم بخطوات حذرة لكنّها ثقيلة جداً، وبين فترة وأخرى يقف متردداً، خائفاً، يتلفت هنا وهناك، يراقب بتوجس حركات الباعة والناس الذين أتوا للتسوق في وقت مبكر جداً، ثم هؤلاء العمال الجالسين على جانب ساحة السوق منتظرين أيّة فرصة عمل تأتي إليهم من أجل قوتهم اليوميّ، وطلبة المدرسة الابتدائية في منتصف السوق والذين يتسابقون راكضين للدخول الى المدرسة. أحس بالعرق ينز من كل أنحاء جسمه رغم البرد القارص، لكنّه الآن وقد تملّكه الخوف والرّعب ظلّ يردد البسملة والحوقلة وبين فترة وأخرى يقرأ الشهادتين محاولاً أن ينسى ولو لحظة واحدة ما أمروه أن يفعل. تحسس بيدين مرتجفتين الحزام الناسف الذي أٌحكم شدّه حول بطنه وتحت ملابسه. تذكر ذلك الصوت الخشن الذي صرخ بوجهه من خلف لثامه الأسود القذر ذو الرائحة الكريهة قائلا:
- حياتك مقابل حياة ابنك ... لا تنس ذلك لا تنس.
لقد قلبت صرخة ذلك القذر كيانه، فكيف يضحي بحياة أبنه الوحيد الذي انتظره طويلا، وجاء للدنيا بعد معاناة طويلة مرّا بها هو وزوجته. عشرة سنوات انقضت بعد زواجهما فقدا خلالها ثلاثة أطفال اثناء الولادة الّا طفلهم الرّابع هذا الذي سمّته جدّته أحمد كي يكون محفوظا ببركة صاحب هذا الاسم المبارك. أشرق أسم ابنه في فضاء ذهنه الملبد بالغيوم السوداء، فأنار سماءه بضياءٍ وهاج خفف كل ذلك العبء والفزع الذي يعيشه الآن تحت ثقل البارود الاسود الذي يعصر بطنه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة تلاشت سريعا عندما لامست أصابعه حافة الحزام الناسف. لم يستطع السيطرة على مشاعره المضطربة كبحر هائج، فأخذته الرجفة من أعلى رأسه الى أسفل قدميه، وانهمرت دموعه على خديه كالمطر. حاول كتم صوت بكائه بشدة خوفاً أن ينتبه إليه أحد من هذا الزحام الصباحيّ الصاخب، ويعرف ما الذي خبأه تحت ملابسه المبتلّة بعرقه البارد الذي لا يزال ينز من مسامات جسمه المرتجف كسعفة في مهب الريح. فتحول بكاؤه الى نحيب كأنه فحيح أفعى جائعة زاحفة بين الصخور اليابسة. أتعبته صور ابنه أحمد التي أخذت تظهر الواحدة تلو الأخرى في ذاكرته المشدودة الآن ككرة بلّورية شفافة. سحرته هذه الصور والخيالات البراقة، وأخذته الى ساحة الروضة حيث أحمد هناك. كل يوم عندما يذهب الى روضة الأطفال ليأخذ أحمد الى البيت، كان يقف دقائق يتأمله وهو يلعب بحيوية ونشاط محبوباً مع رفاقه في ساحة الروضة فيغمره الفرح، ويتمنى لو يركض اليه ويحمله من ذراعيه ويدور به كثيرا، ثم يضمّه في صدره كي يحفظه من كل شرّ وسوء في هذا العالم الذي يخطف كل شيء جميل ولا يترك غير الغصّة في القلب والمرارة في فم فارغ مفتوح للعواصف والغبار المتطاير.
ها هو الآن يمضي قدما من أجل حياة ابنه. بعد دقائق سوف يتلاشى الى شظايا قاتلة ورماد أسود حارق، بمجرد أن يضغط على هذا الزر اللعين في منتصف الحزام، سوف ترتج ساحة السوق بصوت الانفجار الهادر. لقد سمع ذا اللثام الاسود القذر يوصيهم أن يكثفوا عدد القنابل في هذا الحزام، حتى صار ثقيلا جدا، بثقل الموت حين يخيم على القلب. لم يستطع أن يحرك قدمه حركة واحدة عندما اقتربت اللحظة المرتقبة.
نفض رأسه بقوة، رافضا أن يكون سبب هلاك وآلة قتل لكل هؤلاء الأبرياء الذين خرجوا من منازلهم تحت رحمة الخالق، لا يعرفون ما الذي خبأ لهم الارهابيون من موت ودمار. خاصّة عندما تخيلهم بعد أن يضغط على الزر في وسط الحزام. لقد أخذ منه التوتر مأخذاً عظيماً حينما اقتربت اللحظة الحرجة، التي لا يعرف كيف ينسل منها ويهرب الى حيث لا تهديد يجعله عاجزا ولا قرار خاطئ يحوله الى قاتل. ضربات قلبه صارت صاخبة جداً، وصوت عقارب الساعة صار كالمطرقة التي تضرب على رأسه. لم يعد للبكاء فائدة ولا للتوتر والخوف فائدة. ولا لانتظار الخلاص فائدة. سيرن هاتفه النقال كي يأمروه بالضغط على الزر المدمر، فماذا سيفعل؟ تحت هذا الزخم الهائل من الخوف والرعب الذي يعيشه، وتحت الأفكار والخيالات المشتتة. ماذا سيفعل؟ وهل سينقذ ابنه فعلاً، لقد رأى الأطفال الراكضين الى المدرسة كانوا يشبهون أحمد تماما، وسوف يقتلون بهذه الطريقة الوحشية بعد لحظات.
رن هاتفه النقال... ومن شدة فزعه ضغط زر الحزام الناسف فكانت لهبة الانفجار قد مزقته شظايا صغيرة حارقة. اشتعلت النيران في السوق وأرتفع الدخان كثيفا الى عنان السماء. تناثرت جثث العاملين. والاطفال تمزقت أجسادهم وتناثرت أشلاؤها في ساحة السوق وساحة المدرسة وبين صفوفها. أصبحت ساحة السوق مصبوغة بالدم. أختلطت رائحة شياط اللحم المحروق برائحة الدم التي تدفع الى الغثيان والقيء. تدافع الناس في اتجاهات مختلفة، منهم من يهرع الى موقع الانفجار لإنقاذ الجرحى، حاملاً الذين مازالوا في الرمق الأخير نحو سيارات الإسعاف. وقسماً آخر يهرب من مكان الانفجار خوفاً من وجود إرهابي آخر يحمل حزاماً ناسفاً, مستغلاً تجمع رجال الشرطة والدفاع المدني والمتطوعين لحمل الجرحى. أخذت الجثث المتفحمة تبرد بعد أن غسلت بخراطيم المياه لإطفاء النيران التي عبثت في أحشائها. تصاعدت رطوبة المياه لتختلط ببرودة الطقس القارص. والناس أخذتهم الرجفة من البرد, والهلع من هول الصدمة.
أفزعته رنة الهاتف النقال وأيقظته من تراكم الأفكار والخواطر في رأسه المتعب. وقبل أن يفكر في أيّ شيء يجعله يتراجع عن قراره المفاجئ. ركض بكل قوته وصاح بأعلى صوته معلنا للناس أنّه مفخخ، لكنّ القناص الذي كان يتابع حركاته من سطح إحدى البنايات العالية أطلق عليه رصاصة استقرت في الحزام، فأرتفع صوت الانفجار عاليا كهدير الرعد.

مناف كاظم محسن
البصرة - العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى