كرم الصباغ. - كروان.. قصة

(1)

مرت الليالي الأخيرة ثقيلة؛ فقد طالت غيبته هذه المرة، و القلق غزا قلبها، و الأرق لازم مضجعها. من وقت إلى آخر كانت تتسلل من بين أخوتها، و تتوجه إلى غرفتها، و تحكم إغلاق الباب، و تخرج صورته بلهفة من بين طيات ملابسها. و ما هي إلا لحظات، حتى تسافر روحها إليه؛ فتبصره هناك بهيا، يرابط في برج حراسته، يقبض على سلاحه، و حوله تتراءى هالات النور. و لما كان لشوق العشاق جناحان، كان الفتى بمجرد أن ينهي نوبة حراسته، يرسل روحه على جناحي الشوق؛ لتبيت في خدر العذراء. لا عجب؛ إن زاد يحيي و يمام قصص العشاق قصة، أنارت جنبات النجع؛ ففي عيني يمام ليل ساج، و في وجهها يضئ المرمر، و من روحها تفيض الرقة. و في قلب يحيي نبع صاف، و من روحه ينثال السحر، و في وجهه سمرة تعشقها البنت. و كدأب قصص الحب العذرية، غنى فوقهما كروان، أطربته سطور القصة.

( 2)

تحت أضواء الكلوب اجتمع أهالي النجع على المقهى الذي يمتلكه والد يمام، و أخذوا يرهفون السمع إلى الراديو، و ما يذيعه من أخبار؛ فراحت الألسنة تلهج بالدعاء، و راحت الأفواه تثرثر، و سرعان ما نشب الخلاف بين الجالسين؛ فمنهم من رأى أننا لن نذهب إلى أبعد ما وصلنا إليه؛ فنحن نحارب أمريكا منذ عدة أيام، و الغولة لن تسمح بأن تضرب ابنتها المدللة على عينيها مرتين، و فريق آخر طفق يتحدث بحماس و انفعال عن أسودنا الذين مزعوا لحوم أولاد الهرمة، و طفقوا يسردون قصصا و حكايات. و في غمرة الحديث الساخن، انتحى البقال بأحد التجار، و جلسا على كرسيين بعيدين؛ فبدا عليهما أنهما غير عابئين بما يذاع، و بما يقال، و راحا يتحدثان بشغف عن الأرباح التي سيجنيها المحظوظون، الذين سيظهرون ما لديهم من سلع مخزنة بعد أن يستبد العطش بالسوق.

(3)

انتبهت يمام من نومها مذعورة، و أخذت بقلب منقبض تستعيذ بالله من سوء ما رأت، و في ذات الوقت، و على بعد مئات الكيلو مترات، كان يحيي وسط رفاقه على الجبهة الملتهبة، و كان الرصاص أعمى، اندفع ككلب جائع؛ ليستقر في قلب عامر بالحب، و الرمل كان مضطربا، استقبل دماء الفتى بخجل، و راح يتشربه على استحياء. و لما كانت روح يحيي تجيد السفر، توجهت جهة الغرب، قاصدة النجع. كان النهار وليدا، و كان الناس يطردون بقية نعاس علق بجفونهم، مالت روح يحيي على ثلة صيادين، تهيأوا لطرح شباكهم في الماء، و ما إن قبلت جباههم، حتى عرجت على حقول خضراء، التحفت بالندى، و هامت قليلا بين الزروع، و سرعان ما حلقت فوق رءوس تلاميذ مدرسة ابتدائية اصطفوا لتحية العلم تحت الشمس الحانية، و راحوا ينشدون نشيد بلادي بحماس.

(4)

الحي أبقى من الميت، بتلك العبارة الآثمة، خاطب البقال والد يمام، و لم يتورع عن طلب يد الفتاة المكلومة لابنه. و لما رأى الأب أن للأيام سطوة، سستمحو-حتما- ذكرى يحيي من قلب ابنته، أعلن موافقته، و لكنه رأى تأجيل إعلان الخبر، ريثما تنتهي مراسم دفن الشهيد، و رأى أنه من الأنسب التمهل مدة أربعين يوما؛ حتى تبرد نيران أهالي النجع من ناحية، و حتى يجد مدخلا مناسبا؛ كي يقنع ابنته بأمر الخطبة من ناحية أخرى.

خرج أهالي النجع جميعا، رجالا و نساء، بنين و بنات؛ ليشهدوا جنازة يحيي، حمل الجنود النعش الذي زينه العلم، و ساروا بوقار، و من خلفهم سار الأهالي واجمين، بينما حلقت الطيور فوق الرءوس. لم يكن الكروان الغائب الوحيد عن هذا المشهد المهيب؛ إذ بحث أهالي النجع عن يمام؛ فلم يروا لها أثرا. على شفير القبر تجمع الأهالي، و ما إن استقر جسد يحيي في اللحد، حتى هلل الحاضرون، و كبروا، و ودع الجميع الجثمان الطاهر، الذي واراه التراب، بينما تنفس ابن البقال الصعداء.

(5) مشهد جانبي: ( مالم يبصره أهالي النجع)

على حافة شباك يمام، انتظر الكروان صعود روحها الطاهرة، و ما إن غادرت الروح الجسد الذي تملكته العلة منذ أن سمعت الخبر الأليم، حتى رافقها الكروان إلى شجرة التين، التي شهدت لقاءها الأخير بيحيي قبل سفره. تحت ظلال الشجرة الوارفة التقى الحبيبان مجددا، و بدأ العرس، و سرعان ما عرجا سويا إلى السماء، حيث زفتهما الملائكة و الكروان إلى منزلهما الجديد.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى