أ. د. محمد حسن عبدالله - (عاطف) ومعطوف.. قصة قصيرة

كان اسمه «عاطف زغلول» .. بدا هذا الاسم غريبا، متنافرا، جذابا في مجموعة تحمل أسماء: محمد ، وأحمد ، ومحمود ، وعبد الحافظ، وسالم .. مع أنه كان ينتمي إلى الريف مثل سائر المجموعة . غير أنه عندما التقت جماعتنا على باب مطعم الكلية، أراد أن يبدو مختلفا، ربما تجاوباً مع اسمه المختلف . مع هذا ظل مرتبطاً بمجموعة القادمين من القرية . لكنه أبداً لم يكن يدخل في محاورات ذات الطابع البيئي، كما أنه كان يديم التلفت، ربما ليكتشف آفاق المكان تأهبا للقفز خارج الدائرة . لفت انتباهي أن وراء أذنه اليسرى ثلاث نقاط زرقاء كبيرة بقايا وشم قديم، فلعل محاولة بُذلت لمحوها، ولم تنجح ، من ثم تركت أثراً خفيفاً من الجلد المدبوغ يحتاج إلى تدقيق النظر ليكشف عن وجوده .

لم يمض وقت طويل ليقفز «عاطف» خارج المجموعة الريفية، ذات الطابع الذكوري البلدي، ويلتحق بمجموعة هي خليط من الأوانس الزميلات – وبالضرورة: الجميلات – في حالة ازدواج مع عدد من شباب يحمل أسماء تنتمي إلى فصائل أخرى، مثل : مدحت ، وثروت ، وشوقي ، وطريف . أما البنات؛ فلم تكن تجرؤ مجموعتنا الريفية على مجرد الاقتراب والتسمع، علاوة على المصافحة وتبادل الحديث .

مضى زمن قصير – ربما شهر ، أو بعض شهر - في أعقابه ظهر «عاطف» في أفق الجماعة الأخرى، وقد تغير كثيراً ؛ بما جعل من ظهوره مفاجأة مثيرة بالنسبة لجماعتنا – التي حدثتك عنها – وقد كنا نطلق عليها/علينا : جماعة المدبّات !! [ والمدبّات جمع مدب ، وهو وصف شعبي للشخص الذي لا يجيد تدبر الأمور، أو تحسين صورته لدى الآخرين] .

كان «عاطف» - بعد التعديلات – يحضر إلى الكلية مرتدياً شورت أبيض، وقميصا كاروهات فضفاضا ، يكشف عن شعر صدره ، وفي يده مضرب تنس ، أو على الأقل مضرب راكيت، وبعض الكرات، وفي حين تتجه مجموعة (المدبّات) إلى المدرج لتلقي المحاضرات، كان «عاطف» يتجه مع أنداده ومجموعته الجديدة إلى ملاعب الكلية، وأحياناً إلى الكانتين لتناول السندوتيشات بصحبة الكوكاكولا، ولعلي – أنا الذي أحاول أن أتذكر كل ما جرى، أو أهم ما جرى – كنت أعجب من الجمع بين المشروب والسندويتش، وكان في ظني – تخيلاً – أن أحدهما يكفي عن الآخر ، أو أن الجمع بينهما يدل على مزيد من الرخاوة والدلع ، وقد أغنانا الله عنه !!

أشهد أن «عاطف» لم يتغير تجاه مجموعتنا (المدبّات) حتى بعد انقطاعه عنها تقريباً؛ كان إذا التقى بأحدنا في الممر ، أو في الساحة ، أو على مدخل المدرج – إذا رغب في أن يحضر بعض المحاضرات – صافحه بحرارة ، وسأله عن أحواله ، وربما حاول إقناعه بأن ينضم إلى مجموعة (النواعم) التي نال عضويتها في زمن قياسي !!

أمران ثابتان حافظ عليهما «عاطف زغلول» - عبر سنوات الكلية الأربع : تقدير (مقبول) في كشف الناجحين ، ولم يكن هذا التقدير المتواضع يحول بينه وبين الاحتفال مع أفراد شلة (النواعم) . وكانت فرحته بالمقبول في إطار أن المجموعة كلها تنقسم بين : أشباه له في هذا التقدير المتأخر، أو منقول بمادة، وأحياناً بمادتين . وهنا تحفظ لابد من الإشارة إليه ، وهو أن فتيات مجموعة (النواعم) : فايزة ، ونجاة ، ونبيلة ، ووردة .. إلخ ، كن ينجحن – غالباً – بتقدير جيد ، أو ما يقاربه . وقد استنتجت من هذا – حين استوعبت عن قصد تقديرات نجاح فريق (النواعم) في مقابل مجموعة (المدبات) ، مما أظهر هذه المفارقة التي أرجعتها إلى أن الشاب تستهلكه مشاعر الحب وقلق الاقتراب من الأنثى، في حين تكون هي – في نفس السن – قادرة على التماسك، والتفريق بين إضاعة الوقت في الكلية بمداعبات الزملاء ، والاستغراق في المذاكرة في البيت !!

الأمر الثاني : رائحة البرفان الذي يستعمله عبر سنوات الكلية دون تبديل، ولم نكن نعرف كلمة (برفان) اكتفاءً بذكر (الكولونيا) !! وقد حافظت على هذه التسمية ، حتى حين أهلت ذات الرائحة من شخص آخر في سياق مختلف ، وزمن مختلف ، كما سأذكر !!

مضت السنوات الأربع – سنوات الدراسة – بسرعة ، فوجدنا أنفسنا نتزاحم أمام لوحة (سنة الليسانس) ،وكما هو معهود ، كان فريق المدبّات يحمل تقديرات تبدأ بالجيد ، وكان فريق النواعم محافظا على المقبول في مستواه الذكوري، والخلط بين الجيد والمقبول في المستوى الأنثوي . على أن الجميع التقوا – بعد أشهر – أمام مكتب (القوى العاملة) الذي يوزع المتخرجين في وظائف ، ليس شرطا أن تكون مناسبة لتكوينهم الدراسي . وهكذا كان حظ «عاطف» أن يحل في موقع (رئيس مجلس قرية) – وكانت هذه الوظيفة جديدة؛ إذ هي ثمرة من ثمرات نظام الحكم المحلي، الذي أُخذ به في تلك الحقبة .

هكذا غاب «عاطف زغلول» عن أفق الرؤية؛ إذ كانت القرية التي حظي برياسة مجلسها في شمالي الدلتا ، في حين بقيت أنا في العاصمة موظفا بإدارة الجوائز التي أنشئت حديثاً بوزارة الثقافة !!

ما لبث «عاطف» أن غاب عن الذاكرة ، بعد أن غاب عن الرؤية ، بزمن قصير، ومع هذا كانت بعض تعبيراته تطفو على سطح الذكرى بين حين وآخر ، ربما إلى اليوم ، فمازالت أذكر ماركة السيارة التي ذكر أنها ملك أبيه العمدة ، كانت من ماركة (فارجو) – ودعني أعترف بعد هذا الزمن الطويل – أنني لم أشاهد في حياتي إلى اليوم سيارة من هذه الماركة ، ولكنني أصدق «عاطف»، فلم أعهده يكذب أو يفتعل ، غير تلك النعومة التي حرص عليها في الشورت الأبيض، والمضرب، والكرة ، ورائحة (الكولونيا)– في سياق محدد . غير أنني تمنيت أن أشاهده – ليس من منطلق الشماتة، بل من زاوية استكشاف التناقض، وربما التوافق – في رياسته لمجلس قرية في شمالي الدلتا .

.. ثم غابت الذكرى .. غير ومضات متباعدة جداً ، حتى لم تعد لها أي آثار نفسية ، أو فكرية ، غير أن أمراً ما لبث أن فرض نفسه ، فأحيا كل الانطباعات الباهتة التي تآكلت بفعل الزمن ، فبعد أكثر من عشرين عاماً ، وقد صرت – بدوري – مسئولا عن قطاع من نشاط الشباب (في الأقاليم) ، أعلنتُ عن مسابقة لتفعيل الحياة الثقافية في القرية المصرية ، فكان من بين «الملفات» التي وضعت أمامي ، مشروع مقدم في ورقات وردية، تفوح منها رائحة (الكولونيا) - التي استحضرتها خياشيمي من ذكرياتها الباهتة – والمفاجأة : أنه كان يتصدرها اسم «بهيج عاطف زغلول» !! كانت قراءة اسم «بهيج» منفرداً تثير الانتباه لطرافته ؛ فإذا أعقبه اسم «عاطف زغلول» فقد استوجب حقوقا لزمالة تاريخية ، علاوة على الإثارة التي مبعثها الرغبة في استعادة صورة ذلك الصديق القديم !

وبالفعل – حين عقدت اجتماعا لمقابلة أصحاب المشروعات المقدمة لمسابقة «تفعيل الحياة الثقافية في القرية المصرية»، حرصت على أن أكون موجودا عند استدعاء (بهيج) ، وهنا تحققت مفاجأة كاملة !!

كان الشاب يحمل سمرة أبيه الريفية، وإقباله الخفيف المرح – وكأنه سعيد باللقاء . تأملته : من أين جاءته العينان الخضراوان ، والشعر البني ؟

حين جلس بادرت : كيف حال الوالد ؟ أتعرف أن بيننا صداقة قديمة ؟

أجاب بمرح أعهده في أبيه : والدي – رحمه الله من زمن – وإلا كان اتصل بك !

ترحمت على صديقي القديم ، وعجبت لفعل الزمن ، وقبل أن أسأله عن معرفته بي ، بادر هو – وكأن عاطف نفسه هو الذي يتحدث : السيدة الوالدة هي التي حدثتني عنك ، فقد كانت زميلتك أيام الكلية.

لم أجد ضرورة لأسأله من والدته ، ولكن الشاب كان يحمل من جرأة الصراحة، والثقة بالنفس ، أن مال على أذني وهمس : والدتي زميلتكم - من شلة النواعم - التي كنت تطلق عليها اسم «الموناليزا» ، وهي التي حدثتني عنك !!

تذكرت «الموناليزا» واستحضرت زمنا تعلقت بها فيه ، ولكن حالت الظروف دون تطوير هذا التعلق ..

تبعثرت عباراتي التي كنت أختزنها ، وتمتمت في وجوم : نعم .. مفهوم .. مفهوم . أنهيت المقابلة ، وكتبت على خطة المشروع المقدم: «مقبول»!!

أ. د. محمد حسن عبدالله


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى