عبدالرحيم التدلاوي - خيط أريان، والتطريز السردي، قراءة في قصتي "قلعة الحروف والكلمات" و"قطار لومباردي" من مجموعة "قلعة المتاهات" لسعيد رضواني.**

لا يمكن فصل قصص "قلعة المتاهات" لسعيد رضواني عن التشبيك الحرفي ونسيج صياغتها، إنها بمثابة بيت عنكبوت قد يبدو واهنا، لكنه مخادع، يجرك إلى عوالمه جرا، طبعا، إن كنت تريد، إذ البداية بين يديك، فإن تهيبت لفظك، وإن تشجعت لاعبك، والسارد في كل القصص لا يحب أن يلاعب سوى القارئ المغامر والقارئ المستعد للاكتشاف، وسبر الأغوار. يخاطبك في جل القصص، ويدعوك إلى وليمة السرد المدوخ، ويترك لك حرية الاكتشاف والبحث عن مخارج ممكنة. إنه يشدد قبضته عليك بسحر اللغة، وجميل البناء، وتشعيب الدروب والمسالك، ويمكنك البحث عن باب للنجاة، فإن لم تجد، فستظل سجين القلعة، ضائعا في متاهتها، لكنه ضياع لذيذ لن تشعر معه بالملل، وإن رغبت في العودة فلن تجد باب الدخول، لكون الداخل ضائع، والخروج بمثابة ولادة.

التطريز السردي:
يتبدى بإدخال إبرة السرد في عروة الواقع. فالكتابة القصصية هندسة وبناء. ومهارة في التشييد. وبراعة في هندسة معمار السرد بصنع واقع مليئ بالمترادفات، حيث التناظر بين الواقعي والخيالي وصبهما في سبيكة ذهبية لا انفصام لعروتها. الكتابة القصصية تنكتب بانقضاء حياة الإنسان؛ تسلبه روحه حين ينفثها في الكلمات المشكلة لهرمية النص. قصة "قلعة الحروف والكلمات". تعج بثنائياتها من مثل الأعلى والأسفل بين الواقعي والخيالي. بين اليمين واليسار بين العمق والسطح. بين الأنا والآخر، وتوظيف العجائبي.
تستثمر القصة كل الإمكانيات بغاية خلق الدهشة وصنع المتعة، فلا قيمة للكتابة من دون فنيات، فترك البحث من أجل اكتشاف تقنيات جديدة لن يكون إلا إعادة كتابة ما سبقت كتابته، وكتابة على هذا النحو لن تحقق الدهشة المرجوة، والصدمة الجميلة المطلوبة. الكتابة مغامرة وتجديد وليست دورانا في الدائرة نفسها، إنها خرق ذكي ومتعمد.
وولع القاص سعيد رضواني بالتقنيات ليس ولعا جنونيا يدفع بالكتابة إلى هاوية اللامعنى، بل هو ولع متوازن يعمد إلى إمتاع القارئ الفطن، دون أن يفقده بوصلة الخروج من متاهاته المحكمة، لا ينفره بل يشده إليه ويجذبه إلى عوالمه من دون شعور بملل أو رتابة. لا يريد أن يبلغ بكتاباته مبلغ الغموض المنفر، أو الذهاب في متاهات التقنيات التي تجعل القارئ يصطدم بالحائط فيتولد لديه النفور من الكتابة.
إن سعيد حريص على الإبقاء على خيط التواصل قائما، مثل خيط أريان وشعرة معاوية
. الاعتماد على تقنية التوالد البيولوجي أو السردي:
فإذا كانت قصة "قطار لومباردي" قد اعتمدت التوالد السردي باعتماد فنية الدمى الروسية حيث كل شخصية هي وليدة خيال شخصية سابقة عليها، فإن قصة "قلعة الحروف والكلمات" قد اعتمدت التوالد البيولوجي لديمومة شخصياتها، فالأب أنجب ابنا نهض بفعل الكتابة التي راودت أباه، فبنى بالحجر والطوب، وفق هندسة دقيقة ومبتكرة، قصرا شبيها بالحروف. أي أن الأب نقل انشغالاته الأدبية إلى أرض الواقع بمقومات البناء، ليأتي الابن فيعيد إلى الهندسة المتجسدة على أرض الواقع بعدها الأدبي بالحروف والكلمات. والقصة متاهة فنية ووجودية في الآن ذاته، إذ جعل النهاية بداية في ما يشبه دائرة تشي بالانغلاق الجهنمي الذي يكبل الإنسان، ويقيد حركاته، ويسيره وفق هندسته، فالرمال لم تكف عن الحركة لتطمر كل شيء بما فيه الابن الذي سيخضع لمشيئة ذلك الكائن/الإله المتخفي تحت النتوء الرملي، والذي يكتب الحروف والكلمات المصائر: أنا هنا أكتب القصور، وأشيد القصائد وقد أكتبك أنت أيضا. ص22.
تنبغي الإشارة إلى التلاعب بالكلمات لدى هذا الكائن الذي انزاح في تركيب الكلمات عن المنطق المتعارف عليه في الإسناد، إلى منطق خاص به ليعبر عبره عن التحكم في اللغة وبالتالي في الحياة والإنسان. والقول السابق يتكرر على مسامع الأب كما على مسامع الابن، ويخضعان معا لسحره ونبوءته.
كما تجدر الإشارة إلى حضور الشجرة كتيمة معبرة في هذه القصة المتاهية في صورتها الدائرية الجهنمية التي جعلت القرية مجسما ينهض حقيقة ويتحول لغة لتمحوها الرمال معيدة إياها إلى لحظة البدء. فقد تم غرس شجرة واحدة لتصير غابة يتم اجتثاثها في ما بعد، لتتحول إلى رمز ينوء بحمله الأب، ثم تحمله في نهاية درامية، معلنة بذلك نهاية مرحلة وبدء أخرى. هذا الأب الذي ظل مدافعا عن التعايش، ساعيا إلى بناء عالم ينعم في السلم والهناء. رافضا أن يسوده الانغلاق والتطرف، فهو يؤمن بأن الله يتجلى في كل شيء بخلاف متطرفي الديانات الذين يبحثون عن وسائل إثبات لحضوره في الشجر أو غيره.
قصة "قطار لومباردي" تشبه سباق التناوب حيث كل متسابق يبلغ نقطة البداية ليسلم العصا لزميله الذي يقوم بالدورة الثانية وهكذا إلى بلوغ الدورة النهائية ليكتشف المتسابقون أنهم كانوا تحت سطوة منظم يتلاعب بهم وهم يظنون أنهم أحرار في مزاولة السباق، إن القصة هي مجموع القصص الثاوية في أعماق النص الأم، من رحمها تتوالد، ويصب بعضها في بعض، لتجد كل الشخصيات المتنوعة والتي استفردت بقصة ما أنها لم تكن سوى شخصيات خيالية من وحي لاعب ماهر لم يغادر مكتبته قط، وظل، كإله، يصنع حيواتها ويحدد مصائرها. مثلهم في ذلك مثل القطار الذي لم يكن سوى صناعة لغوية تكبر قصته بتوالي الحكي وتعدد الرواة. يولج القاص قصصه في بعضها كما يولج الليل في النهار. فتتوالد تباعا بتدرج لا دفعة واحدة. فسعيد حريص على تنقيط قصصه قطرة قطرة. بحركة لولبية تجعل العين والذهن تنتقلان من قصة لأخرى لتعودا إلى الأولى بإضافات جديدة وبهذا الشكل تنمو القصة الجامعة التي تشكل الإطار الكلي لبقية القصص التي تنمو بداخل رحم الأم هي الأخرى، كما لو كانت توائم. وفي نموها اعتمدت على غذاء التماثل والتوازي والتناظر،والتداخل بين الواقعي والخيالي، كون الخيالي له امتدادات في الواقعي كما للواقعي في الخيالي: رحلة امرأة تنطلق متدثرة بمعطف رمادي من أول طابق في العمارة إلى آخر سطر في القصة. ص30
. والمثير أن الشخصيات تكتب وتنكتب في الوقت نفسه؛ تكتب انطلاقا من رحلتها في القطار المعبر عن الزمن وحركته، وتنكتب لأن ساردا آخر يقوم بصنعها، إلى أن تبلغ نهايتها عند كاتب قابع في غرفته الذي هو الأخر سيعد شخصية متخيلة لسارد أكبر يقبع خارج كل النصوص.
وتشعر كل الشخصيات بالفاجعة المتمثلة في كونها جميعا تلوعب بها، وأنها مجرد كائنات من ورق ولغة وخيال: يدرك أن كل ذلك ليس إلا حياة على ورق، حياة يتلاعب بمصيرها أحد القصاصين. ص36.
وبناء عليه، يمكن القول: إن القصتين لعبة متقونة ومسبوكة ومطروزة، ومبنية بذكاء ومهارة. كما أن حكايتهما تبنى مع تطور القصة وامتداداتها الزمنية والمكانية وارتباطهما بتصورات الشخصيات وتفاعلها مع مشمولات الواقع واللغة. لنبلغ النتيجة التالية وهي أن القصة ليست معطى قبليا بل هي تشكل وبناء.



1651079380150.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى