شعرية اللغة السردية في رواية “نساء وادي النوم”

شعرية اللغة السردية في رواية "نساء وادى النوم" للمغربي "جلول قاسمي"
IMG_1371.jpg

كتب: أحمد رجب شلتوت”*”
أعلن الروائي المغربي “جلول قاسمي” عن نفسه كروائي متميز، في مطلع القرن الجديد بأن أصدر روايته: “سيرة للعته والجنون”، (2002) وهي الرواية التي انشغلت بقضايا العمال بمنجم الفحم بمدينة “جْرَادَة” في شرقَ المملكة المغربية، لذلك وَسَم النقاد رواياته بـ”المَنْجَمية”، فضموها بذلك الوسم إلى تيار روائي غربي شهير بدأه إميل زولا بروايته “جيرمينال”، التي عرضت لجوانب من صراع العمال مع إدارة المنجم، فضموا روايات جلول قاسمي عن جرادة، إلى هذا التيار بزعم أنها _ وكما وصفها الدكتور نجيب العوفي _ “تتخذ من المنجم فضاء للصراع الاجتماعي، وتجعل منه تيمة أساسية في تحْبيك الأحداث وتأزيمها”، وخلال سبع سنوات أكد الكاتب حضوره في المشهد الروائي المغربي برواياته: “سوانح الصمت والسراب” ، و”مدارج الهبوط”، ثم “العابر”.
وإذا كانت روايات جلول قاسمي قد ارتبطت بجرادة، فالمدينة نفسها ارتبطت باكتشاف منجم من الفحم الحجري بها في يناير 1927 ، وهو المنجم الوحيد من نوعه في المغرب فاستغله المستعمر الفرنسي، الذي عمل على جلب العمالة للمنجم من شتى أنحاء المغرب لعدم كفاية العمال المحليين، فأعدّوا لهم مساكن للإيواء في منطقة داخل المدينة أسموها “الحي الوطني”، وعلى النقيض منها أقاموا في الجانب الآخر، مساكن فاخرة للأجانب وكبار الموظفين وأطلق الناس عليها اسم “منازل النصارى”، هكذا حملت جرادة منذ تأسيسها بذور انشقاقها.
على أن “سيرة للعته والجنون”، لم تنشغل بإدانة المستعمر ولا بتصوير معاناة العمال في المنجم بقدر انشغالها برصد التغييرات الحادثة على نمط الحياة في المدينة وما حولها، ثم تجسيد صدمة الناس هناك إثر قرار توقيف العمل بمنجم جرادة الذي تحول تدريجيا من “نعمة” إلى “نقمة”. وما بين تشغيل المنجم وتوقيفه مرت سنوات وسنوات تشكل فيها مجتمع جديد وعرفت جرادة واقعا جديدا، استشرفته تلك الرواية، وحاول الروائي ملامسته في أعماله الأخرى، وبطرق سرد مختلفة، وعبر موضوعات متباينة، فالكاتب وإن استقر على اختيار جرادة فضاء لأعماله، و حقبة ما بعد الاستقلال نقطة انطلاق، لمعالجة حيوات البشر المهمشين إلا أنه لم يستقر على طريقة سرد معينة، وهذا من شيم المبدع الذي لا يعرف الاستقرار الفني ودوما يسعى إلى التجديد، ففي روايته “مدارج الهبوط”، أسبغ على سرده بعدا شاعريا غلف به حكايته القائمة على تعدد وجهات النظر وما استتبعه من تعدد الضمائر الساردة وتداخل الأزمنة، ويبدو أن قلق الفنان وسعيه في أثر الجديد هو ما دفعه لإيثار الصمت لأكثر من عشر سنوات قبل أن يعود بروايته الخامسة “نساء وادي النوم”، وصدرت مؤخرا عن دار “روافد للنشر والتوزيع” بالقاهرة، وفيها يعود إلى جرادة ومنجمها وناسها، مطورا الشكل واللغة اللذين اهتدى إليهما في “مدارج الهبوط”.
شعرية اللغة
يذهب ميلان كونديرا في كتابه “فن الرواية” إلى أن الرواية تتميز عن الشعر في قدرتها الفائقة على الاستيعاب، فهي تستطيع استيعاب الشعر دون أن تفقد أي شيىء من هويتها المتميزة، ويتفق معه إمبيرتو إيكو في تعامله مع النص الروائي ككون منفتح على كافة الأنواع الأدبية، وغير الأدبية، فيفيد منها كأساليب خطابية تغني المادة الحكائية. ويمكن للشعر أن يكون مكونا جوهريا في بناء السرد الروائي.
وقد أصبحت اللغة هاجسا نما تدريجيا لدى جلول قاسمي الذي سعى لتطويعها من أجل استيعاب الأسئلة التي يثيرها نصه الروائي. مع إدراكه لحقيقة أن اصطناع الرواية للغة الشعر، لا يجب أن ينتهك خصوصيتها كفن سردي، لذا تلجأ الرواية عموما إلى دمج هذه اللغة الشعرية الوافدة عليها فتكسبها قيما جديدة يحددها الروائي، بشكل متناغم من المكونات السردية فتحقق بذلك ثراء لغويا ودلاليا، دون أن يفقد النص هويته السردية.
فلم تعَد وظيفة الرواية إعادة إنتاج الأفكار والمشاعر، بل تتعداها إلى تعميق الرؤية والتقاط تفاصيل الحياة اليومية، لذلك تقدم الرواية سردا ذي طابع شعري بالمعنى الواسع للشعري، وهي في ذلك تفيد بعض آليات الشعر وتقنياته بشكل يساعدها في تطوير أنماطها وأساليبها. ويمنحها ثراء لغويا ودلاليا، دون أن تفقد هويتها السردية. وقد شكلت اللغة الشعرية الملمح الأبرز في ملامح أحدث روايات قاسمي ” نساء وادى النوم”، إذ امتزجت اللغة السردية باللغة الشعرية ليتشكل من امتزاجهما إيقاع جديد للنص الروائي يعكس اغتراب الذات الكاتبة واحباطاتها.
ويمكن للسرد الروائي أن يحتضن النص الشعري في صور متعددة، منها التضمين، حيث يكون النص الشعري مجرد “نص” استدعته الحاجة إلى التعبير عن وظيفة شخصية روائية ما، أو الوقوف للاستراحة قبل متابعة السرد، أو الانتقال إلى مستوى آخر من الحكي. ولم تكن اللغة الشعرية حلية فنية أو مجرد إطار للنص، بل جاءت كضرورة فنية لازمة، فأحداث الرواية تدور في وادي النوم، وهو القعر المنجمي الذي يحيل على الفناء وعلى الموت، وهو في الآن نفسه المنجم الذي أضحى مصمتا نتيجة توقف الأشغال، وهو جرادة المدينة النائمة جراء نهاية حياة نشيطة، أو كما يقول الروائي في مفتتح روايته ” طیف مدینة، طیف حیاة”، ويختار الروائي نقطة انطلاق روايته من انتهاء حياة أخرى، إذ تبدأ بموت أم فضلة، وهي الأم الكبيرة أو “عميدة العائلة”، ويمثل موتها مؤشرا للأحداث، يحيل إلى تحولات المدينة التي تستشرف أفولها بعد إغلاق المناجم مع ما أعقب ذلك من تحول اقتصادي واجتماعي وانهيار للقيم والتوازنات داخل المدينة التي كان المنجم عصب الحياة فيها، وهو ما أوحى به النص بداية من جملته الأولى ” الآن وقد انتهى كل شيء؛ عليك أن تعيد ترتيب الأوقات..”، وأكده في الصفحة 12 بقوله ” وفي الأفق البعيد امرأة ممددة على بساط. وفي الأفق البعيد مدينة آيلة للسقوط.. وفرسان يختنقون داخل دروعهم”.. وعسس، ومخبرون، وجماهير مهزومة”، فالراوي الناظر من بعيد، ربما بعين المخيلة وقت أن أتاه خبر موت الأم، يربط بين موت الأم وسقوط المدينة، الواقعة تحت سطوة العسس والمخبرين. ويبدو الراوي منشطرا بين أنا وآخر هو الأنا نفسه، فيتراوح السرد بين ضمير المخاطب وضمير المتكلم، وفي الحالين يرسم الصورة بعين البعيد المغترب، وتنفلت منه كلمات تدل على بعده صراحة كما في قوله” في قبيلتنا الصحراوية البعيدة، الناس يخشون غضبة الجِمَال. يقولون: “اتق غضبة الجمل الحرون”. ” وأنا ذلك الجمل. جمل ضل الطريق زمنا.. لكنه اهتدى.”
وهنا تبدأ مفردات الصحراء في الظهور.. فنقرأ: قبيلة/ صحراء/ جمل/ ورويدا رويدا يقترب الراوي فتتضح معالم الصورة.
IMG-1481.jpg

وأحسب أن اللغة الشعرية جاءت كما سبق وأشرت كضرورة فنية في المقام الأول، فهي من ناحية أضفت مسحة شعرية على النص الروائي، كما أنها كانت لازمة للتعبير عن الشخصيات الروائية، والكشف عن عوالمها المنسية والدفينة للشخصية الروائية، التي أسرفت في استدعاء الذكريات الحزينة، فتمنح النص دفقا شعوريا لا يصف ولا يحلل الخارج إلا بعد تحويله إلى مسألة ذاتية وشخصية، فيقف السارد حائرا بين الخارج وأحداثه الكبيرة وقضاياه التي يمتهن فيها الإنسان، فيكون واقعا تحت تأثير “أنا” مأزومة “إشكالية” لا تتلاءم والواقع الخارجي، والرواية الشعرية بهذا المعنى تحطم التراتبية الكلاسيكية في الأنساق التعبيرية، وتقوم بتكثيف الدلالة، وتمنح الأصوات مساحات ملائمة لكي يعرض كلّ منها وجهة نظره.. وإذا ما قرأنا ” نساء وادي النوم” نجد اللغة الشعرية ترافقنا من بداية الرواية إلى نهايتها، في انسياب وسلاسة، فالروائي يملك قدرة فائقة على المزج بين لغة السرد ولغة الشعر والمزاوجة بينهما، لتنتج نصا ذا طاقة إبداعية متفجرة، يقول السارد: ” خرائط المخيلة تنفي الحدود، بينما المضمار واحد. الزمن فيه رديف الزمن، وبين الغائب والشاهد غمر هائل من مشاعر الخيبة. ولا من يقيد المد العاتي لبحر الأحزان..”. فالرواية هنا وفي مقاطع أخرى تستعين بلغة الشعر، وتلجأ إلى التكثيف والترميز، وتأتي بالتشبيه والاستعارة، وما يعرف بالصورة الشعرية والانزياح، بما يناسب وجدانية البوح في عدة مواقف، وفي حالات أخرى تلجأ الرواية إلى التضمين، بمعنى أن يأتي الكاتب بنص شعري استدعته الحاجة السردية، وقد يكون النص عربيا فصيحا، يذكر السارد قائله كما في قوله : “كل الأحبة يرتحلون، فترحل في العين، شيئا فشيئا، ألفة هذا الوطن”. رحم الله أمل دنقل”. هنا ذكر النص وصاحبه، وقد يأتي بنص دارج يبدو وكأن الراوي يحدو به إبل قافلة العودة :
“تحْلْحَلْ يا كافْ كَرْدَادَ ورْحَل
دَرَّكْتْ عْلَيَّا جْبَالْ الطَوَّايا
دُونْ غْزالي مَا لْقيت مْنينْ نْطلْ
غيمكْ طَاحْ رْوَاكْ خَبَّلْتْ سْدَايا”
هذه الأغنية الشعبية التي تتردد في ثنايا النص، تمنح السارد سمت الراوي الشعبي فلم تأتي الأغنية في النص لمجرد الغناء، وإنما أسهمت في دفع حركة السرد إلى الأمام، فضلا عن أنها تظهر بعض سمات البيئة المحلية المشكلة لفضاء الأحداث، وقد أدت هذه اللغة الشعرية إلى أن يكون نمو الحدث بطيئا جدا وهو ما أبطأ السرد، وجعل شعورنا بمرور الزمن ثقيلا، وهو الأنسب لمواقف التذكر وإثارة الشجون التي استدعت اللغة الشعرية المرتبطة براو لا يعمد إلى الفعل بل يجتر ألمه، ويعبر عن قلقه وحيرته، كما أن حركة السرد البطىء تناسب منطقة وادى النوم وجرادة باعتبارهما من الأماكن الصحراوية الساكنة.
أساطير آفلة
أوضحنا أن جلول قاسمي ينتصر في روايته لإيقاع البطء؛ فهذا الإيقاع هو الذي يحصن الذاكرة من النسيان، وكان ذلك لازما للحفاظ على جرادة من خطر النسيان، والاندثار حتى من الذاكرة، بعدما توقفت الحياة فيها أو كادت إثر توقف تشغيل المنجم، ولعل رمزية قطع الشجرة الكبيرة وتحويلها إلى فحم تشير إلى المصير الذي تنبه إليه الرواية، وتقاومه باستعادة حكاية جرادة وأسطورتها، فتصف المدينة بأنها ” جرادة صعقة من صعقات ا لمجاز. مدينة نبتت من أسطورة، من لعبة استعارة مغالية”. فجرادة النائمة فوق كنز منجمي، نقطة وسطى ، بين الشرق والجنوب، لا هي شرقية ولا هي جنوبية، هي فقط خلطة هجينة بين جغرافيتين..
ويربط السارد بين جرادة والشجرة الكبيرة، يقول “كانت في مدخل المدينة، شجرة كبيرة “سالف العذراء” كانت الصبايا يتبركن بها ويعلقن في أغصانها قطعا من ثيابهن، ويرششن سيقانها بالحناء، بغية الزواج”. هكذا تشكلت أيضا أسطورة الشجرة التي توسعت وصارت تشبه غابة كثيفة. يستظل بها الزوار، ويقيل عند حجرها الهاربون من حر المدينة المنجمية. وهم من الفقراء، أما أغنياء المدينة الألفية وجدة، فقد وجدوا ضالتهم في المساحات الخالية التي بيعت برخص التراب. وبنوا عليها الفيلات التي شفطت عيون الماء، وجففت النبع والزرع،
فقطعت الشجرة وصارت حطبا لنار الفيلات، وصارت جرادة وبحسب وصف السارد “تربة متفحمة علت صفرة الرمل. قطعة بلور مسنونة، تمد أطرافها في القيعان. شجن تسري به الركبان ويطير قصصا”، ويعيده مصير الشجرة إلى جرادة فيقول ” فدان الجمل المنيع اسم قديم. هو المكان الذي تأسست فوقه جرادة. جرادة المدينة، نبتت من أسطورة.. منامة من منامات ذوب. ومن منامته، نَسَلت الفراشات الملونة، والجراد الأخضر، والأرانب ذوات الأنوف الحادة والفرو الأبيض والأسود الصقيل”. و تلتحم شخصيات الرواية بالمكان ، فيسهب الكاتب في وصف جغرافيا جرادة ، وتفاصيل تضاريسها ، وبيئتها ، وما روي عنها من أساطير غذت خيال سكانها قبل اكتشاف الفحم . ومنهم أمه التي بدأت الرواية بخبر موتها لتشكل مع المدينة والشجرة ثالث أضلاع الأسطورة الآفلة، نقرأ “جرادة وطني الأول. وطني الرابض في دمي مثل ثأر قديم. جرادة وطن هجر أم الخير على عجل، وبادلته أمي غيابا بغياب. وها هو الوطن يهجرني كما تهجر الأعشاشُ الطيورَ ، تفر من فوقها إلى العراء البعيد”.. وفي موضع آخر يقول ” أمي، أيضا، كانت مدينة. مدينة عامرة. أمة. جرادة وفراشة، وعين ماء، وغابة فيحاء، ومنجم عامر بالعطاء. إذن؛ لا خلاف. لا خلاف أن وضعية التماهي ثابتة. ولا اختلاف أن الرصاصة التي ضربت من بعيد أردت قتيلين. وهرب الصياد”.
وهكذا أثارت الرواية أسئلة التحول والمصير ، فلم تهتم برصد ملامح التحول الحضاري الذي طرأ على جرادة، ويفترض أنه يتضمن الانتقال من حياة البادية إلى حياة المدينة الكبيرة، كما أنها لم تنسق وراء غواية ثنائية نقاء البادية / شرور المدينة، لكن تركيزها كله انصب على دراسة إشكالية الزمن وتجليات فعله وتأثيره في الفضاء الروائي، وبالتالي تأثيره في التحولات الطارئة على المكان وناسه، في دورات السموق والأفول المتعاقبة، باستخدام لغة شعرية موحية، استبطنت دواخل الناس ومدينتهم، ولامست بطء مرور زمانهم الموشك على التوقف.
___
* كاتب روائي وناقد من مصر

http://www.facebook.com/sharer.php?u=https://thakafamag.com/?p=60619

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى