د. المختار حسني - السرقة الشعرية المفهوم وآليات الاشتغال -7- ابن الأثير

7- ابن الأثير :

يدرس ابن الأثير السرقات باعتبارها أمرا عاديا إذ «لا يستغني الآخِر عن الاستعارة من الأول»( )، وعلى الآخذ فقط أن يطيل معالجة "المأخوذ" لإدخاله في سياقه الجديد وهو ضامن له قدرا كافيا من التورية والاختفاء. أما المعاني التي تستحق الأخذ أو السرقة فهي المعاني المخصوصة المبتدعة لا ما كان فيه الشعراء مشتركين. وتتم هذه السرقة ولو بأخذ لفظة واحدة( ) وإن كان الوقوف عليها صعبا لا يتم إلا بحفظ الأشعار الكثيرة، لا بأن يُكتفى لاستكشافها على «تصفح الأشعار تصفحا...فإنه لا يظفر منها إلا بالحواشي والأطراف»( ).
وذكر ابن الأثير خمسة أوجه للسرقة؛ ثلاثة ذكرها بالاصطلاح عليها، واكتفى في الوجهين الباقيين بمجرد التعريف:
- الوجه الأول: النَّسخ: وهو: «أخذ اللفظ والمعنى برمته من غير زيادة عليه، مأخوذا ذلك من نسخ الكتاب»( ). وهو على ضربين: ضرب يسمى وقوع الحافر على الحافر( )، وضرب يؤخذ فيه المعنى وأكثر اللفظ( ). ومثال النسخ من الضرب الأول قول امرئ القيس [الطويل]:
وقوفًا بِها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ يقولون لا تَهْلِكْ أسًى وتَجَمَّلِ( )
وقول طرفة[الطويل]:
وقوفًا بِها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُم يقولون لا تَهْلِكْ أسًى وتَجَلَّدِ( )
-الوجه الثاني: السلخ : وهو: «أخذ بعض المعنى، مأخوذا ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ»( ). ويتفرع إلى اثني عشر ضربا ليس مذكورا منها غير أحد عشر وهي :
1-أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه وهو من أدق السرقات.
2-أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ وذلك صعب جدا.
3-أخذ المعنى ويسير من اللفظ وهو من أقبح السرقات.
4-عكس المعنى المأخوذ «وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حد السرقة».
5-أن يؤخذ بعض المعنى.
6-أن يزاد على المعنى المأخوذ.
7-يكسى المعنى المأخوذ بعبارة أحسن من الأولى.
8-«أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا وذلك من أحسن السرقات».
9-أن يعمم المعنى الخاص أو يخصص المعنى العام
10-«زيادة البيان مع المساواة في المعنى»
11-«اتحاد الطريق واختلاف المقصد»( ).
ومثاله من الضرب الرابع من السلخ قول أبي الشيص:[الكامل]:
أجِدُ المَلامَةَ في هَواكِ لذِيذَةً شَغَفاً بذِكرِكِ فَلْـيَلُمْني اللًّـــوَّمُ( )
أخذه المتنبي وعكسه إلى[الكامل]:
أأُحِبُّهُ وأُحِبُّ فيهِ ملاَمةً إِنَّ المَلامَةَ فيهِ مِن أَعْدائـهِ( ).
-الوجه الثالث : المسخ «وهو قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة ويضاده قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة وهذا لا يسمى سرقة وإنما هو إصلاح وتهذيب»( ). فالأول كقول أبي تمام[الطويل]:
فتَى لا يَرى أنَّ الفَريصةَ مَقْتَلٌ ولَكنْ يَرى أَنَّ العُيُوبَ مَقاتلُ( )
وقول أبي الطيب المتنبي[الطويل]:
يَرى أَنَّ مَا مَا بَانَ مِنْكَ لِضارِبٍ بِـــأَقْــتَـلَ مِمَّا بَـانَ مِنـكَ لِـعــائِبِ( )
فهو وإن لم يشوه المعنى فقد شوه الصورة، ومثاله في ذلك كمن أودع الوشيَ شُمُلاً، وأعطى الورد جُعَلاً، وهذا من أرذل السرقات»( ).
والثاني قول أبي الطيب[الكامل]:
لَوْ كاَنَ ما تُعْطيهمُ مِن قَبْلِ أَنْ تُعْطِيهِمُ لَمْ يعرِفوا التَّأْميلا( )
وقول ابن نُباتة السعدي [البسيط].
لَمْ يُبْقِ جودُكَ لِي شيئا أؤَمِّلُهُ تَرَكْتَنِي أَصْحَبُ الدُّنْيا بلاَ أَمَلِ( )
-الوجهان الرابع والخامس؛ قال عنهما: «وههنا قسمان آخران...فأحدهما أخذ المعنى مع الزيادة عليه، والآخر عكس المعنى إلى ضده وهذان القسمان ليسا بنسخ ولا سلخ ولا مسخ»( ). ولم يمثل لهما بشيء .
ويوهم عمل ابن الأثير هذا بالاستقصاء والدقة، والإتيان على كل قواعد السرقة. والمفروض، في الواقع، أن يكون الأمر كذلك ما دام من المتأخرين الذين أتيح لهم الاطلاع على كل أو جل ما تقدم من كتابة في الموضوع. ومصدر الإيهام أنه يتخذ لذلك سبيل الأحكام الجازمة، أو الجارفة كما يصفها د. إحسان عباس، لكي يكسب ثقة القارئ( ) ويضمن تخليه عن التحري والملاحظة، من مثل قوله في هذا المجال: «وأما السلخ فإنه ينقسم إلى اثني عشر ضربا، وهذا التقسيم أوجبته القسمة، وإذا تأملته علمت أنه لم يبق شيء خارج عنه»( )، وقوله: «وكل قسم من هذه الأقسام يتنوع ويتفرع، وتخرج به القسمة إلى مسالك دقيقة»( )
ولابن الأثير في مثل هذا ولع خاص بالتقسيم والإحصاء للإيهام بالعلمية أو «للظهور بمظهر من يعرف المنطق والحساب»( ) والثقافة المعاصرة. ولو تأملنا هذا التقسيم الذي وضعه ابن الأثير لما وجدنا له مبررا غير ما يمليه عليه طبعه وذوقه الخاص، بل إننا نستطيع أن نضع يدنا، بسهولة، على الخلل في التقسيم، مما يدل على أنه تقسيم فيه تسرع وارتجال؛ فإذا نحن تجاوزنا عن تقسيمه الوجه الثاني (السلخ) إلى اثني عشر ضربا ثم لم يذكر من هذه الأضرب غير أحد عشر( )، لاحظنا أن ما زعمه من زيادة وجهين يقول إنه استدركهما على ما فاته في كتاب كان قد ألفه في الموضوع( ) هو مجرد تكرار لا موجب له، لما سبق أن ذكره في الضربين الرابع والسادس من الوجه الثاني الذي هو السلخ. فالذي زاده الكاتب كما مر هو:
1-أخذ المعنى مع الزيادة فيه.
2-عكس المعنى إلى ضده.
وبهما تكتمل الخمسة الأوجه، وإن كان، ودون تبرير، حرمهما الاصطلاح الذي استأثرت به الأُوَّلُ وحدها. أما الضربان الرابع والسادس من الوجه الثاني (السلخ) فهما كما أشرنا إليهما سابقا:
1.أن يؤخذ المعنى فيعكس
2.أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه.
وهذان ذانك بغير زيادة ولا نقص، فلا مجال للحديث عن وجهين جديدين يذكرهما الكاتب بنفس التعريف ولا يمثل لهما بشيء كما هي عادته.
هذا، بالإضافة إلى أن هذه المصطلحات منفرة من الموضوع، فكلها تدل على تشويه الأصل نسخا وسلخا ومسخا مما يجعل طرحها للتداول معرضا لكثير من المصاعب، كما يستبعد الاتفاق مع الكاتب على كل ما قاله في تعريفها، وخاصة في مدى تطابق هذه التعريفات مع ما يورده من أمثلة اعتمد فيها على ذوقه وانطباعه العام، كما اعتمد ذلك في أحكامه، ورسخ في ذهن القارئ الفصل بين اللفظ والمعنى، وقد مر بنا كيف حارب عبد القاهر هذه الفكرة.
ودون أن نطيل في نقد أفكار الكاتب ومنهجه، فإن الظاهر أن دراسة السرقات بشكل علمي دقيق كما مر بنا مع النقاد والبلاغيين السابقين، قد سجلت لدى ابن الأثير تراجعا ملحوظا لم نسجل مثله لدى النقاد والبلاغيين المستعرضة آراؤهم إلا عند ابن وكيع.


1651599044759.png

الدكتور المختار حسني
الدراسة المنشورة في عدد اليوم السبت 23 أبريل 2022 من جريدة " الشمال " الغراء .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى