عبده مرقص عبدالملاك سلامة - كورونا هى الحل.. قصة قصيرة

جلسا يحتسيان شاى العصارى الذى غالباً ما يتناولانه الساعة السابعة بعد أن يكون هو تناول عدة أكواب من الشاى الأسود الثقيل و دخن أكثر من سيجارة مع كل كوب ,
و لكن هذا الشاى المشترك له مذاق خاص و متعة لا توصف بالرغم إنه من الممكن أن تثار موضوعات لاذعة يشوبها نوعاً من الفكاهة ,و الدعابة التى تصل الى المثل القائل ( الدبة قتلت صاحبها ) مشهد يتكرر يوميا كأحد إعلانات التليفزيون بدون تغيير أو كالبرىامج الإذاعى الذى كان يذاع يوميا فى إذاعة البرنامج العام فى أواخر الستينات من هذا القرن الساعة الثانية ظهراً فى شكل مسلسل او حوار و كان أبطاله فايز حلاوة و تحية كاريوكا تحت عنوان ( لعبة كل يوم ) و كان ينقل مشاهد حياتية يومية بين زوجين بما فيها من ترهات و مواقف كوميدية او مأسوية .
سبعة و ثلاثون سنة زواج و أحداث المساء مازالت تحدث حتى يومنا هذا ,
تأتى بصينية الشاى عليها بعضا من البسكوت او قطع من ( الكيك ) و تجلس مقابله او بالجنب على كرسى بجوار المنضدة حيث يشاهدان التليفزيون او يستخدم هو النت و تقدم له كوبه الخاص و شيئاً مما على الصينية و هو يرفض و هى تحثه ان يتناول قطعة من الكيك او البسكوت ( علشان السجاير ) اللى بيدخنها على وعد انه لو تناول منها فانها ستكافئه بكوب اخر و هو يرفض و هى تصر و تمتعض لعدم استجابته , و ينطبق عليهما المثل القائل ( اعمى ينادى على اطرش ,لا الاطرش سامع و لا الاعمى شايف ) … سبع و ثلاثون سنة و يوميا لم تمل و لا تكل و لا هو يأكل شيئا مع الشاى و لا هى تتوقف عن حثه على ذلك . صابرة و مثابرة لعلها تنجح و بالرغم من كل هذه السنوات التى مرت فما زال لديها امل بانه قد يستجيب ذات مرة و كلما حدث هذا تذكر امه التى كانت تدعو له بان يرزقه الله بزوجة مثلها , و يضحك قائلا ( الخالق الناطق , امى عندما كانت تلح على ان اكل نصيبى من اللحم او الفاكهة ) ,,
و تجيب بانها تأمل يوما ان يكف عن التدخين و يتناول الشاى مع بعض مع الكيك او البسكوت ….فيقهقه ..قائلا لا تحلمى بصوت عال ,,,
أشعل سيجارته مع اول رشفة من كوب الشاى و ظلا يثرثران فى احاديث شتى ,و يعلقان على الاخبار و تتغير ملامح وجهيهما تبعا لما يذيعه التلفزيون ابتسامة يعقبها وجوم او ضحكة و لكنهما كانا فى توجس دائم لما الم بالعالم جراء هذا الوباء الجديد و يترقبان و قلباهما يتضرعان ان يسمعا بين لحظة و اخرى انحسار او انكسار هذا الفيروس الغامض,و غالبا ما يصحب ذلك سقوط بعض اللَّآلِئَ الحائرة من مكمنها و تنحدر على اخاديد حفرها الزمن و ذلك لمنظر انسانى او خبر مأساوى , و تخيم الكآبة مع صمت قاتل ,و اذا بخبر يحمل بين طياته فكاهة او دعابة من تلك الاخبار التى يطلقها بعض الظرفاء او من يستهويهم الاستخفاف بهموم الناس …
و يبدأ هو فى تصفح النت و صفحات التواصل الاجتماعى قارئاً كل ما تقع عينه عليه او مسجلاً بعضا مما يجول بخاطره و ان كان يضن على نفسه و قارئه من ان يبثه لواعج نفسه ,و يغلف كتاباته بما لا ينفر القارئ
و تنبهه الى الى القاء عقب السيجارة فى المنفضة فينظر اليها فتعلق : الا اعد لك شيئا تشربه بخلاف الشاى فيصمت و يخرج سيجارة من العلبة فتردف قائلة : اذن ساعد لك كوبا اخر من الشاى بشرط الا تشعل هذه السيجارة حتى أتى لك به ,فيبتسم و يشكرها , و يشرع فى استناف الكتابة ,
و يستغرق فى همومه
و عادت لتجلس حيثما كانت بعد ان احضرت الشاى و على الصينية بعضا من الخشكنان , و تبادره بالحديث : اتذكر , حينما خدعتنى ؟ فينظر لها مندهشا , و يجيبها : انا ,متى و كيف ؟
قالت :” نعم , انك خدعتنى و جعلتنى اعيش فى عالم الاوهام و الاحلام و جعلت رجلى لا تطأ ارض الواقع و كنت مسحورة باسلوبك و للاسف ما زلت لان لديك سرعة بديهة و يمكنك ان تخطئ و تجعل من اخطأت فى حقه يعتذر او يشعر بالندم بالاضافة الى قدرتك على الاقناع …و ها هى الشمس تشرق و انا احاول استفيق من غفوتى و انظر للواقع
اندهش و سألها : اليست راضية عما نحن فيه, ؟
قالت : بلى , راضية و سعيدة و لكن هناك اشياء وعدتنى بها كنت اتمنى ان تتحقق , فقد وعدتنى بان تجعل معظم كتاباتك لى و عنى و ان تخلد قصتنا فى رواياتك و اشعارك , و لكنك بنيت لى بيوتا اوهى من خيوط العنكبوت ,بيوت من الشعر , تقتلعها اقل نوة و قلت انك عبرت بى 17 بحرا فاذا بها بحور بلا مياه و لا شواطئ , و عندما حثيتك ان تبتاع لنا شاليها او قصرا , ووعدتنى بالقصور و الجنان ,فلم الاقى سوى
القصور و الجنان , حتى السيارة قلت لى انك لديك بساط الريح الذى لا يصدر صوتا و لا يتوقف امام منخفضات او مرتفعات
ضحك و قال يا لك من متمردة , و تمردك هذا جعلك لا ترين ما حولك و لا تدركين عظمة الاشياء التى لديك , اننى لم انسج بيوتا من الشعر و لكننى شيدت لك بيوتا من الشعر ستظل ابد الدهر خالدة و لن تتحول الى اطلال و جعلت لك جنانا , ربيعها دائم و ورودها متفتحة الاكمام على الدوام متعة لناظريك و البحور التى ذكرتيها ,تلك البحور التى لا تنضب و دائما تنبض بالحياة و الجمال و السلام و الحب ,و جعلتك تغوصين فيها و تلعبين مع عرائسها باللؤلؤ و المرجان , و نظمت لك عقدا تلألأت نجومه على جيدك و قرط و اساور من فيروز البحار .
قالت :الم اقل انك . يا الهى ,انك انسيتنى ما كنت اتحدث بصدده , اتذكر عندما اصطحبتنى لترينى ( الفيلا ) التى شيدتها فى مدينة السلام و اخذت تطنب فى وصفها و تتيه بها و قلت لى ان الحدائق تحيط بها و حتى الورثة لن يفكروا فى بيعها او التخلص منها و الناس هناك مسالمون و يكتنف المدينة الهدؤ و الصمت و لا توجد مشاكل و لا منغصات و لا يوجد ضوضاء و لا قسم شرطة فسكانها منتقون .هذا جعلنى اتوق لرؤية تلك المدينة و اذا بك تصطحبنى الى مقبرة على شاهدها كتبت عبارة ( انا فى انتظارك مليت ) , لا انكر اننى سعدت بها بعد احاديثك التى ترويها عن المشيعين و ما يقولونه عند دفن احد الاشخاص اين سيدفن و هل لهم مقبرة ا ام لا و سعدت بذلك
و جعلتنى اشعر بالامتنان لك و انك دائما على حق و اقتنعت باننى لو عشت فى اى قصر فاننى ساغادره و لكن تلك المقبرة الجميلة المحاطة بالازهار و الورود ستبقى ابد الدهر و سيدون عليها اسمى , و و خطر ببالى اننى لست اقل من تاج محل التى كنت اغبطها لحب زوجها النادر لها مما جعله يخلد اسمها على مدى التاريخ و تخيلت انك ستخلد مثل اغا خان الذى توجد مقبرته الشهيرة فى اسوان و الوردة الحمراء التى كانت ترسلها زوجته ( الرابعة ) البيجوم ام حبيبة تلك الفتاة الفرنسية ( إيفيت لابدوس) لمدة 43 سنة حتى وافتها المنية سنة 2000 و لا يوجد على مستوى العالم سوى 10 مقابر مشهورة ,ليتك تحدثنى عنها لانك شوقتنى لمعرفة اشياء لم تكن تخطر ببالى
اجابها و الابتسامة تعلو وجهه : عما قريب ساروى لك كل ما تريدين .
شكرته و اضافت : اما زلت تنوى تنفيذ خطتك المجنونة فى حالة لا قدر الله وفاتك او وفاتى , هل فعلا اوصيت احد المحامين و متعهدى الممثلين الذين يؤدون ادوارا ثانوية ( كومبارس )
ان يوفروا مجموعة من الرجال و السيدات للمشاركة فى تشييع اى منا يصحبة فرقة الموسيقي الجنائزية و ذلك التابوت الفخم من خشب الابنوس او الارز المطعم بالحلى البراقة و ان يظلوا طوال الايام الثلاث و هم يمثلون المعزين و اصحاب الواجب لتجنب اهلنا مشقة المشاركة فى الواجب و تلقى العزاء و تعطيل اعمالهم و عدم احراج من لا يريد المشاركة ؟
ضحك و قال اما زلت تعتقدين انها فكرة مجنونة ؟ الم تلاحظى ان كثيرا ممن وافتهم المنية تجنب اهلهم و ذويهم حضور مراسم الدفن و لم يقام لهم سرادق عزاء فكل اصبح فى شغل شاغل بهموم الحياة
قالت : لا اخفى عليك اننى انبهرت بتلك الفكرة و لكن كما قلت لك ان الريح تأتى بما لا تشتهى السفن و اراك ( عادل خيرى) فى مسرحية ( الا خمسة )دائما احلامك و طموحاتك تتحطم على صخرة الواقع و سؤ الحظ
قال :كيف ؟
قالت : كما قلت لك اننى عشت معك فى حلم جميل ,صدقته و لكن من المستحيل تحقيقه , و بهذا اكون لا طولت بلح الشام و لا عنب اليمن,فانا لا عشت فى قصر و لا سأدفن فى قبر
قال :كيف ذلك .
قالت :كأنى بك لا تدرى ان كورونا احتلت البلاد و استعبدت العباد و قتلت المشاعر , و لكن اراها فازت عليك بالضربة القاضية ,كل الخيالات التى راودتك عن مراسم الدفن و جعلتك تكلفنا ما لا نطيق و لم نتمتع يوما باى مقتنيات مثل باقى البشر , من اجل المقبرة و المظاهر فى مراسم لن نشاهدها ,وكل ذلك ذهب مع الريح
ففى ظل كورونا سيدفن كل منا فى حفرة عن طريق اثنين من المسعفين و اعز من لدينا لن يتجشم مشقة القاء نظرة وداع و لن يزورنا احد للترحم علينا فلا احد يعلم اين وريت جثاميننا
و يبقى ( ضريحك ) خاو ينعى من بناه و لكن قد يذكر التاريخ قصتنا و قصة القبر الفارغ
دامت احلامك يا شريك العمر
عبده مرقص عبد الملاك سلامة
دشنا – قنا – جمهورية مصر العربية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى