إدريس على بابكر - شجارُ طِفلَين.. قصة قصيرة)

أطفال حلوين أبرياء تكسو وجوههم السعادة واللطافة، في العقد الأول من العمر البهيج، ربما تجد في أوسطهم الأقل عمرًا قليلًا أو من يزيد قليلًا، كلما وجدوا متنفَّسًا من الوقت يضيق بهم ميدان الحارة الواسع باللعب واللهو والجري، فيحتويهم المكان بكلِّ سرور، يتنافسون ويمرحون، تُسمَع لهم أصوات الضجيج، أحيانًا تجدهم متشابكي الأيدي، اكتسبوا هذا السلوك من الكبار، إذ يؤمنون أنَّ الشجار لا طائل منه ولا منفعة، فلا عداء دائم، وفي اليوم التالي يطوي النسيان خلاف الأمس ولا يترك أثرًا في القلوب، تتخلخلهم الضحكات النقية والابتسامات السعيدة هكذا تمضي حياتهم اليومية وأيامهم الحُلوَة.
إثر تدخُّلٍ عنيفٍ أثناء اللعب بين أحمد وفاروق قام الأول بضرب الثاني وشدَّه من قميصه، لقد كانت الضربة مُوجعة، ثم أجَّج الصراع طفلٌ آخر حين مدَّ يده مُعبَّئةً بالتراب قائلًا: (المديدة حرقتني..) فضرب أحمد وتناثر التراب في وجه فاروق فحصل بينهما صراعٌ محتدم إذ إنَّ فاروق التمتام متأثِّرٌ بمشاهدة عنف المصارعة الحرة، لم يُعطِ صديقه أية سانحة، ضربه بحجرٍ على رأسه حتى نزف دمًا، فخاف وهرب من فعلته الشنيعة بينما ذهب أحمد إلى بيته باكيًا وقميصه مُلطَّخٌ بالدم، فور أن رأته أمه بذاك المنظر البشع عندما كانت جالسة مُخضَّبة -فهي امرأة تحب التزيُّن والأناقة وهما شُغلها الشاغل- أصابها الفزع على ولدها، لم تنتظر أن تنتزع الحناء من قدميها ويديها، انتعلت فورًا شحاطة كل فردة من لونٍ مختلف من شدة الاستعجال، اقتحمت منزل أم فاروق ووقفت على الباب وهي ممسكة بولدها غاضبة حتى أنَّها نسِيَت أن تغطي رأسها كعادتها، هي امرأة حمقاء حادة اللسان تُداهم الأشخاص عند الغضب كالعاصفة، حاولت أن تجُرَّ فاروق أمام أمه وتلقِّنه درسًا لن ينساه في حياته، قدَّمت أم فاروق اعتذارها بلطف وقالت إنَّ الأطفال لا يُبيِّتون النية وأنَّها مشاجرة عابرة، ولكن أمام هذا الاندفاع الجنوني عرجت أم أحمد إلى كلماتٍ كُلُّها إساءة، فهي متكبرة ومغرورة لا ترى في هذه الدنيا إلا نفسها، يُطلِق عليها أهلُ الحارة «الحكومة» بسبب تأثيرها على قرارات زوجها الوديع، وضعت يديها على خصرها الواسع ثم حركت جيدها ذات اليمين وذات الشمال وتهزُّ أرنبة أنفها الدقيق وتلوي شفتيها وهي تسبُّ وتجرَحُ أم فاروق ثم أردفت قائلة: «انتي فاكرة ولدك شنو؟ ما في النهاية ود حرام، تساويهو مع ولدي؟!».
لحظتها نفد صبر أم فاروق، هذه الكلمة أصابتها كالسهم في قلبها، لقد نبشت ذكرى مؤلمة بسببها كادت أن تخسر عائلتها، ولأنَّها جديدة بهذه الحارة ظنَّت أنَّ لا أحد يعرف شيئًا عن ماضيها فهي لم تُصرِّح به لإحدى نساء الحارة، عضَّت نواجذها من الغضب وتعصَّبت حتى تضخَّمت شرايينها، يبدو ظاهريًّا الصراع غير متكافئ، امرأة بدينة مصقولة العوارض ضدَّ امرأةٍ نحيفةٍ يُشفِق عليها من يراها، إلَّا أنَّ غضبها كان كبيرًا فلو رأت جبلًا أمامها لحركته، تشابكتا الأيدي وتصارعتا بعنف وفجأة هوت البدينة وسقطت كالفيل والنحيفة فوق جسدها الضخم تُشبِعها بالضرب واللكمات فلم تجد تلك وسيلةً غير عضِّها على يدها. هرول المارة والجيران وفكُّوا الاشتباك، لقد تعرَّضت البدينة لضرر كبير، تمزَّق فستانها فانشطر نصفين عتد الصرة فتدلَّ ثدياها الكبيران كأنثى الجاموس، أول مرة تُشَاهد بلا مكياج، قامت أم أحمد تُلملِم نفسها وبصقت على الأرض بصورة استفزازية وهي في يد الأجاويد، رجعت كلٌّ منهما إلى منزلها وكلُّ واحدةٍ تفكِّر في الانتقام من الأخرى. حضر الزوجان متأخرين، صحيحٌ أنَّهما أوقفا إجراءات البلاغ إلَّا أنَّه لم يكن هناك حلٌّ جذري للمشكلة، مجرد طبطبة وكلمات مجاملة لم تُزيل ما علق بالنفوس، مشاجرةٌ لم يخرج منها لا منتصرٌ ولا مهزوم. وبعد هذه الحادثة شُوهِدت مُقاطعةٌ تامة بين الأمَّين وليس بينها حتى السلام.
في اليوم التالي هبَّت نساء الحارة إثر سماعهم لخبر تعرُّضِ حاجة آمنة لكسرٍ في رجلها اليمنى أثناء الوضوء ، أرادوا الإطمئنان عليها، وفي أثناء عودتهنَّ من الزيارة انقسم مسار النساء إلى قسمين بين أم أحمد وأم فاروق، الأخرى تنظر بطرف عينيها وتمصُّ شفتيها بحرفٍ لا يُوجَد بين الحروف الأبجدية، تراشقتا بالنظرات واستفزازات وإيماءات بين الجانبين، وحين اقتربن من الدكان شاهدت كل النسوة الطفلين اللذين تشاجرا بالأمس بقرب لوحةٍ بديعةٍ وقد خرجا من الدكان مشتبكَيْ الأيدي يتقاسمان الحلوى ويحتفلان بالنصر، لقد كانت مشاجرةُ الأمس كأثر خطاوي في الرمال محاها المطر، بينما ظلت الضغينة في نفوس الكبار كبصمة أو بقايا دخانٍ من حريق التهم الأخضر واليابس.

إدريس على بابكر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى