نور الدين صمود - العقاد يسرق من طه حسين فكرة سبق الشعر للنثر

يُجمع الناس على أن النثر أسبق إلى الوجود من الشعر، معللين ذلك بأن النثر أسهل من الشعر لأن هذا الأخير يحتاج إلى موهبة وإلى معرفة زائدة تفوق ما يعرفه من يكتب النثر، ولكن طه حسين يخالف هذا الرأي الشائع بين الناس إذ يرى أن الشعر أسبق من النثر في الوجود بعدة عهود، وقد أثبت ذلك بأدلة طريفة مقنعة منذ عدة عقود، في محاضرته التي ألقاها «بقاعة الجمعية الجغرافية في20 ديسمبر 1930» وبسطها بهذا الشكل: (...يقول «جوردان»....السوقةُ لأستاذه الفيلسوفِ، في قصة من قصص موليير: «إني أريد أن ألقي إليك سؤالا». فيقول له أستاذه: «هات!» فيقول: «إني أريد أن أكتب بطاقة لسيدة جميلة، وأريد أن أستعين بك عليها». فيقول له أستاذه: «لك ذلك، هل تريد شعرا؟» فيقول: «كلا...» - «هل تريد نثرا؟» فيقول: «كلا». فيقول له أستاذه: «ومع ذلك فلا بد أن تختار إما شعرا أو نثرا، لأن الكلام لا يمكن أن يكون إلا شعرا أو نثرا» فيقول له صاحبه: «وإذن فعندما أطلب إلى خادمي أن يناولني قلنسوتي أو حذائي، فأنا أقول النثر؟» فيقول له: «نعم». فيقول: «يا للعجب! إذن فأنا أتكلم النثر منذ أربعين سنة ولا أدري؟»
ويعلق طه حسين على هذا المشهد الساخر من رواية موليير (البورجوازي المتنبِّلُ) بقوله: «أخشى أيها السادة أن نكون جميعا، كما كان «جوردان» هذا، نفهم النثر على نحو ما كان يفهمه «جوردان»، من أنه كل كلام لم يتقيد بالنظم والوزن والقافية. وعلى هذا جرى الأدباء ومؤرخو الأدب العربي فقسموا الكلام إلى منظوم ومنثور، وزعموا أن الكلام المنثور هو ما لم يتقيد بالوزن والقافية، وأن المنظوم هو ما تقيد بالوزن والقافية.)
وما دام الكلام العادي لا يعتبر أدبا فإن الإنسان القديم قال الشعر أولا، ثم كتب النثر بعد ذلك في عهد لاحق عندما عرف الكتابة، وبهذا برر طه حسين سبْقَ الشعر للنثر في تلك المحاضرة التي ارتجلها يوم 20 ديسمبر1930 ودوَّنها بعض الحاضرين من طلبته ثم ألحوا عليه في نشرها بعد ذلك فوافق على طلبهم، ونشرت في كتابه «من حديث الشعر والنثر».

هذه الفكرة المبتكرة وجدتها في كتاب «حياة قلم» لعباس محمود العقاد، وهو مجموعة فصول غير مؤرخة، قدمها بنفس الطريقة وبنفس الحجج والبراهين، وتحت الفصل الأول منها هذا التعليق: (كُتب هذا الفصل – وهو أول فصول حياة قلم – في أغسطس سنة 1957، أي بعد أكثر من ربع قرن من إصداع طه حسين بهذه الفكرة، وقد كتب العقاد موضوعه بعنوان (الشعر أسبق أو النثر؟) وقدم العقاد هذا الرأي في سبق الشعر للنثر بنفس الطريقة التي قدم بها طه حسين نفس الموضوع بقوله: (السيد «جوردان» شخصية مشهورة من الشخصيات المضحكة لإحدى روايات «موليير» التي استوى بها على عرش الفكاهة المسرحية في الآداب الفرنسية..ومدار الفكاهة في شخصية «جوردان» أنه غنيٌّ من مُحْدَثِي النعمة أراد أن يتشبه بالنبلاء فاتخذ له معلمين يعلمونه الرقص والمسابقة والبلاغة، وجاء بالطرائف التي لا تخطر على البال وهو يحاول أن يَفهم دروسهم ويُعقِّب على شروحهم وأقوالهم فإذا هو - كما قال - يتكلم «النثر» طوال حياته ولا يعرف ذلك حتى عرفه من كلام معلم البلاغة. لقد أفهمه معلمه معنى الشعر ومعنى النثر، فخُيِّل إليه أن النثر هو ما ليس بكلام موزون منظوم، وتخيّلَ إذن أن كلامه طول حياته داخلٌ في ذلك التعريف، وأنه كاد يقضي بقية حياته وهو يجهل هذه المعجزة..لولا أنه تلقى الخبر أخيرا من الأستاذ.)
وقد أشار طه حسين إلى أن بعض من سمعوا هذه النظرية منه، وذلك في مقدمة كتابه «من حديث الشعر والنثر» بقوله: «وكان كثير من الأصدقاء يسرفون في لومي والإنكار عليّ، لأنهم لاحظوا – فيما يقولون – أن هذه المحاضرات قد استُغِلَّتْ عند بعض الكتاب والباحثين استغلالا يتفاوت في الجودة والرداءة، وفي الأمانة والخيانة دون أن يشير المستغلون إلى ما استغلوا منها حين سمعوها أثناء الإلقاء أو حين قرؤوها في الصحف والمجلات، فأظهروا أنهم مبتكرون وغالى بعضهم فاتخذ هذا الابتكار المصنوع وسيلة إلى الطعن عليَّ والغضِّ مني، وكان هؤلاء الأصدقاء يريدونني على أن أُظهرَ من الحرص على آثاري وآرائي أكثر مما أظهرت إلى الآن.)

لا شك أننا جميعا مقتنعون بأن طه حسين هو الذي سبق العقاد إلى طرح هذه الفكرة بأكثر من ربع قرن حسب تاريخ إلقاء محاضرة طه حسين سنة 1930 وكتابة مقال العقاد سنة 1957، وأختم بمحاولة إقناع من لم يقتنع بهذه الفكرة بوجوب إضافة عنصر آخر إلى النثر والشعر نشأ مع الإنسان منذ أقدم عهوده وهو الكلام العادي، الذي لا شك أنه سبق الشعر والنثر، وعندما أراد الإنسان أن يعبر عن عواطفه ومشاعره، قبل أن يعرف الكتابة، عبَّر عنها نظما أو سجعا ليتمكن من حفظها وترديدها، ثم جاء دور النثر الذي يستطيع أن يسجل فيه الآراء والأفكار بالكتابة، وهذا جاء بعد الشعر بلا ريب، أما الكلام العادي الذي يدور بين الناس فقد سبق الشعر والنثر بلا شك والكلام العادي لا يعتبر ضربا من ضروب الأدب، ولعل الخطابة قد تطورت عن الكلام العادي فأصبحت نوعا من أنواع الأدب لكنها ليست شعرا ولا نثرا.

نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 27 - 02 - 2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى