كرم الصباغ - مرايا النهار.. قصة

يستيقظ، يبلل وجهه الخمري بأحزانه الطازجة، يغلف جسده النحيل بجلبابه ( الكستور)، ينتعل قبقابه الخشبي؛ فيكسر خطوه صمت العزلة، يتجه صوب باب خشبي متهالك يحجبه في تلك الدار الضيقة عن كل ما يجري في الخارج. الأثاث هنا في غاية البساطة؛ فلا تكاد ترى سوى حصير مهترئ، و وسادة من ليف، و أغطية بالية، و أطباق قديمة، و أوان منطفئة البريق، و موقد كيروسين. ربما كانت هذه الدار الضيقة نقطة منسية، لا تحفل بها العيون، إلا أنها مثلت للصبي عالما من جمر، أضلاعه الوحدة، و نكهات مرة من الذكرى، و خوف فرخ صغير من كل ما يرتقي سلالم الاحتمال خارج تلك النقطة الباهتة تماما في خارطة الكون. هذا هو محمد بلا أي رتوش تزين اللوحة بعد موت الرجل، الذي كان يشعر عند الانصهار في رائحة عرقه بدفء، و نور آخر شعاع، خفت، في الخامسة من عمره، بعد أن سلب منه التراب صاحبة (حكايات) الشتاء والسكينة؛ فحرمه ملاذ صدرها.
كان وقتئذ فرخا أخضر، بالكاد يدثر الزغب عريه، و كان الشراب كعادته مرا؛ فلم تتورع الليالي يوما عن صب الكؤوس إليه. يا ألله! كم عاندته المواقيت؛ فأمسى الرقم (٥) سر حزنه المقيم، و أمسى الرقم (١٢) عدد الأوراق، التي قامر بها في تلك الليالي الواجمة!
(٢)
مسكون بالشوق إلى مرايا النهار، والانخراط في متاهات الزحام؛ لعل الأعين تلقي إليه بفتات من أمان، يطمئن- و لو قليلا- أذنيه الممتلئتين بالصفير و قلبه المرتعب من العواء؛ هذا ما دفعه إلى أن يجرجر قدميه في البكور إلى العراء، حيث دوامات البرودة. يستنشق نسمات من حليب الوقت تزيد الجذوة اشتعالا، يلقي نظرات متوترة على قاطرته المحدبة وفنطاس الكيروسين البيضاوي المثبت أعلاها. كل شيء في مكانه؛ يتنهد، و يفك قيد أتانه، يعلقها في عريش القاطرة، تسير بخطوات متلكئة، يتلهى بأنشودة ناعمة عبر نتوءات الطريق. عند مشارف النجع يخرج حديدته الصغيرة؛ فتتأرجح في الهواء نغمات ذات إيقاع منتظم، حفظوها عن ظهر قلب؛ يهلون من الشبابيك الواسعة، وفي أجسادهم بقايا من رائحة الفرش، يخضبون الفضاء بابتسامات صافية. ثوان يا محمد. هكذا يجيبون نداءاته. تمتلئ الصفائح بالكيروسين، يجمع القطع الفضية؛ فتتلطخ بعرق يديه. يرتد عائدا إلى داره. ثمة غدير على يمين الطريق الترابي، تتجمع فيه مياه المطر كل شتاء. تتعثر أقدام أتانه؛ يسقط الموكب في الماء؛ تنشق في وجهه أخاديد من ماء و ملح واستغاثة؛ يجتمع أهل النجع كعادتهم للإنقاذ، يمتزجون رويدا رويدا؛ فيطل وجه أبيه كبيرا كبيرا؛ فيملأ صفحة الأفق، و يرسل إلى الصبي ابتسامات حانية.
(٣)
أنتبه، فجأة، أمد بصري؛ فأرى مربوعة فسيحة، و أرى حشدا من أهالي النجع، يجلس بينهم شيخ، تشبه ملامحي ملامحه. ممتلئ الجسم هو، يرتدي جلبابا من صوف فاخر، بجواره عصا مزدانة بزخارف و نقوش عربية. الرجل يتكلم؛ فيصغي إليه الناس، و يصمت؛ فتتعلق به الأعين. ينهض بعد حين؛ فأجدني منجذبا إليه، أسرع إلى نعليه، أحملها، أنحني أمامه، و أقرب النعلين إلى قدميه. يشد عضدي، يجذبني إلى أعلى؛ فأنتصب كالرمح. يسير؛ فلا أسير حذاءه، بل أتأخر إلى الوراء مقدار خطوتين. أستنشق- خلسة- أريج العطر، الذي يفوح من جلبابه و جسده المشرب بالحمرة. نصل إلى الغدير، و الشيخ يحدق مليا إلى الماء، و بغتة، تتلاشى صورته المنعكسة على الصفحة الرائقة، و يحل محلها صورة أخرى، لصبي نحيل يرتدي جلبابا مهلهلا من ( الكستور), و ينتعل قبقابا خشبيا في قدميه. الشيخ يبتسم، و يستدير، و يستقبل بوجهه أتانا و قاطرة يعلوها فنطاس الكيروسين. و ما إن يستوي على مقعد القاطرة، حتى يدعوني إلى الجلوس إلى جواره. الأتان تنطلق، و الشيخ يشدو بأغنية قديمة، و سرعان ما نصل إلى دار طينية واطئة، تضج بالذكريات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى