خيري حسن - وصفته صحيفة ( الدستور) المصرية فى عددها اليوم: [كشف ثقافي وإنساني] من خلف جدران الغرفة

الشاعر محمد سيف:
"كريم" ابنى حي.. وياسر عرفات أنقذه من الموت بسرطان الدم.
"لا شيء يثبت أني حي
ولا شيء يثبت أني ميت"
(المعهد القومي للأورام ـ 1983 )

" لقد أصبحتَ أقرعَ مثلي يا كريم" بهذه الكلمات القليلة، والبسيطة، والساخرة، والضاحكة داعب الشاعر أمل دنقل الطفل كريم - صديقه الوحيد الذي اختاره من بين عشرات المرضى في المعهد - عندما دخل عليه ذات صباح صامتاً، وشارداً، وحزيناً بسبب تساقط شعر رأسه كاملاً نتيجة جلسات العلاج الكيماوى.
مد "أمل" يده الحانية إلى طاولة صغيرة بجواره، وسحب من فوقها "كاسكيت أحمر" (كاب).. واقترب وقرَّب كريم إليه حتى يضعه فوق رأسه الأقرع قائلاً بابتسامة حزينة: "أنت الآن أكثر جمالاً برأسك الأحمر يا رفيق"! في هذا الصباح بكى كريم بشدة على غير عادته منذ أن اقتحم الغرفة وفرض صداقته البريئة - وأمل على غير العادة قبِلها بسعادة غامرة - والتي استمرت حتى فرّق المرض بينهما. سأله أمل بتأثر شديد: "لماذا تبكي؟.. نظر كريم وهو يشير إلى يده التي تتلقى في الصباح والمساء وخز الحقن المتلاحقة، والمتتابعة، والتي تجعله يبكي بكاءً مريراً. حاول أمل قدر استطاعته - ونجح في ذلك - في إقناعه" بأنها شىء جميل للغاية ولا يستحق البكاء"! بعد لحظات خرج كريم عائداً إلى غرفته، فيما دخل أمل في نوبة بكاء مريرٍ وهو يكرر قوله لكل من يدخل إليه "ما الذي جناه طفل في الرابعة ليسكنه هذا العذاب المؤلم؛ ليذوب جسده خلية بعد أخرى"، لقد انهارت حصون أمل الدفاعية التي كان يتمترس خلفها حتى لا يبكي حاله، ومرضه، وعمره، ونفسه، وجسده طيلة السنوات الماضية التي هاجمه فيها المرض وسكن، وأحكم قبضته القاسية تحت جلده الرهيف، وجسده الضعيف. الآن سقطت الحصون، وانهمرت الدموع حزناً على طفولة كريم المعذبة تحت ضربات السرطان المؤلمة إلى حد القسوة وكأنه - فى واقع الأمر - بكاء النفس على النفس دون أن يشعر أمل بذلك!
***
"جائِعٌ يَا قَلبِيَ المَعروضَ فِي سُوقِ الرِّيَاءْ
جائِعٌ.. حتَّىَ العَيَاءْ
مَا الذِي آكلُه الآنَ إذن ....
كَي لا أمُوت"
(القاهرة - 1982)
في شهر مارس من ذلك العام، وبالتحديد يوم (
😎
- دخل أمل دنقل المعهد يوم (
😎
وسكن في الغرفة (
😎
- للمرة الثالثة بعدما عاوده السرطان هذه المرة بكل شراسته، وقوته، وعنفه، رغم مقاومته البطولية له. (كان المرض قد بدأ هجماته الأولى في سبتمبر/ أيلول 1979، وهجمته الثانية في مارس/ أذار 1980، وهجمته الثالثة والقاضية في فبراير/ شباط 1982 والتى جاءت إلى به إلى المعهد).. أما الطفل كريم (وكان عمره 4 سنوات) فقد هاجمه المرض "اللوكيما" - سرطان الدم- في عام 1982 وبعد زيارات مرهقة وشاقة، للأطباء لمعرفة ماذا أصابه (بدأت بأعراض ضيق فى التنفس) وزيارات مشابة لمعامل التحاليل وأجهزة الإشاعات شخّص الأطباء الحالة، بأنها سرطان! ونصحوا بدخوله المعهد فوراً. وبالفعل عاد الأب محمد سيف هذه المرة - كان يأتى زائراً لصديقه أمل دنقل - للمعهد مع طفله الصغير. استقبله الدكتور إسماعيل السباعى الذي كان يعالج "أمل" ويشرف عليه مع مجموعة كبيرة من الأطباء كانت تدرك قيمة أمل ونبوغه الشعري، وبعدما انتهى من الكشف على كريم قال: "المرض وصل للمرحلة الرابعة...كيماوي فوراً"! (الدكتور إسماعيل هو شقيق الأديب الراحل يوسف السباعى وزير الثقافة الأسبق) وهو الذي كان قد أجرى الجراحة الأولى - قبل سنتين - لأمل ويومها قال له: "إن السرطان لن يعاودك إذا مرت عليك خمس سنوات.. لكن المرض عاوده قبل أن تنقضي السنوات الخمس"!
***
"يا بلاد رمتنا للأسى والموات
ما عادشي حتى للسكات
طعمه
لإننا بنموت في نفس اللحظة ميت مرة"
(المعهد - 1982)
منذ اللحظة الأولى لدخول أمل هذه المرة إلى عالمه الجديد للعلاج في المعهد، فرض على نفسه حصاراً شديداً حتى لا يقترب من غرفته نزلاء المستشفى الذين ـ نظراً لشهرته الواسعة وقتها ـ قد بدأوا في التردد والدخول إليه. هذه الطريقة - وهى شائعة فى المجتمعات العربية بين المرضى النزلاء في المستشفيات - رفضها بشدة بعدما حوّل غرفته إلى عالم سحري شعري خاص به، فهو ـ بتركيبته الإنسانية الصلبة ـ لا يحب الضعف الإنساني - وهو أمر طبيعي - ولا يحب البكائيات والكلمات والدعوات - وهى مطلوبة - والتي توقع سماعها من النزلاء المرضى. أمل رفض كل ذلك وشدد كثيراً من الحصار على غرفته ونجح - بمساعدة الآخرين - في ذلك، لكنه فشل - ربما للمرة الأولى في حياته - في أن يمنع إنساناً فرض صداقته عليه. هذا الإنسان هو الطفل كريم الذي نجح في كسر هذا الحصار، والقفز فوق الزمان، وتحطيم أسوار المكان بطفولته وبراءته وجسده النحيل، وصوته الهادئ الجميل، وعاش معه، يتردد عليه كلما شاء في الصباح والمساء، وكأنه صديق أرسلته عناية السماء!
***
"أنا بارتجف
وبكرة في كفي كما الخنجر
أنا بارتجف وخنجري في اليد
يا بحر مالهوش حد
يا صوت هدير الفجر والحرية"
(القاهرة - 1983)
في الوقت الذي كان فيه أمل مقتنعاً بالعلاج في مصر، واثقاً في أطبائه وفخوراً بكفاءتهم العلمية، ربما بعدما غضب طبيبه من فكرة السفر إلى أمريكا أو موسكو، على الرغم من تراجع الفكرتين (التراجع حدث عندما لم يسع أحد لسفره إلى واشنطن. والمرة الثانية بسبب عرقلة أو عدم اهتمام عبد الرحمن الشرقاوي بطلب خالد محيي الدين بتسهيل سفره إلى موسكو) كل ذلك حدث مع قناعته أصلاً بأن الموت لن ينتظر لحظة، لا في موسكو ولا واشنطن.. على الناحية الأخرى كان الشاعر محمد سيف يسابق الزمن ليطير بابنه إلى الخارج لاستكمال علاجه هناك.
وكان كلما جلس إلى جواره يداعبه ويحدثه عن خطواته التي يسير فيها للوصول للهدف قائلاً: "بإذن الله سوف تسافر يا كريم للعلاج.. يا كريم.. ربك كريم"، بالفعل نجح الأب وجاء موعد السفر قبل ساعات من موت أمل دنقل. الآن يفترق الصديقان ـ رغم اشتراكهما في نفس المكان والزمان والأحزان ـ يفترقان للأبد.. فبينما عاد الشاعر ودُفن ـ حسب وصيته - بجوار أبيه في جنوب مصر، طار كريم (قبل 48 ساعة) إلى باريس للعلاج هناك بتأشيرة من الزعيم الفلسطيني أبو عمار (ياسر عرفات) على نفقة منظمة التحرير الفلسطينية، لينجو كريم من الموت بأعجوبة ـ في دراما إنسانية غريبة وعجيبة وغير متوقعة ـ بعدما نجح الفريق الطبي المعالج - وإرادة الله فوق كل ذلك وقبل كل ذلك - في هزيمة ذلك المرض اللعين، ليعيش كريم الآن حياة عادية جداً في باريس وعمره الآن 44 سنة! سبحان الله!
***
"ده الوقت حامي الحد
سرّاق
يشبه سقوط الموت على الأسواق
بلا ضجة"
(المعادى ـ 2022 )
منذ عدة سنوات مرت ـ وأنا أفكر في الطفل كريم.. بعدما جاء اسمه وذكره وصوره ـ في بعض الكتب والحوارات والحكايات التي خرجت لنا من خلف جدران الغرفة (
😎
.. وكنت أسأل بيني وبين نفسي ـ هل مات؟.. هل حي؟.. هل نجا من ذلك المرض اللعين؟.. وظلت الأسئلة عالقة، وساكنة في ذهني منذ سنوات حتى نشرت الأسبوع الماضى ـ الحلقة الأولى من "تعليق على ما حدث فى الغرفة (
😎
" وبعد النشر عادت الأسئلة تلح علىّ للوصول إلى الأب محمد سيف (شاعر العامية) والد كريم، وبالفعل وصلت - بمساعدة الصديقين جلال عابدين (مسرحي) ومحمد خطاب (باحث) وذهبت إليه في بيته على نيل المعادى ذات ظهيرة حارة وهادئة. في هذا اللقاء سألته في البداية عن كريم؟ رد: "كريم الحمد لله نجا من الموت بسرطان الدم ويعيش الآن مع والدته في باريس، ودرس الفلسفة والسينما وهو الآن (إذا جاز اللفظ) مثقف ومحلل سياسي وفنان، ويزور القاهرة في إجازات صيفية متباعدة ثم يعود إلى مقره ومستقره في باريس. قلت وأنا في حالة ذهول تام: كريم عايش؟!.. رد: "نعم.. والحمد لله". قلت وأنا أطيح بما معي من أوراق وهدوء وضبط للنفس (ثم اعتذرت عن هذا بعد ذلك) طفل عمره سنتان يصاب بسرطان الدم، ورغم ذلك يعالج وينجو، ويعيش، ويتعلم، ويدرس، وينجح، ويتسكع فى الشوارع، ويجلس على المقاهى ويمشي في الأسواق مثل باقى خلق الله؟!.. "ياما أنت كبير يا رب"، كررتها عدت مرات حتى تركنى الأب متجهاً إلى المطبخ وهو يقول لى مبتسماً: "أكيد أنت تريد فنجان شاي"؟ هززت رأسى الذى مازال يدور وتثور بداخله عشرات الأسئلة، والحكايات، وأنا أرد قائلاً: "ياريت.. يا أستاذ"! بعد دقائق استعدت توازنى وطلبت منه الاتصال بكريم حتى اسمع صوته.. وقد كان!
***
"والخيط سحابة خوف
كيف نسمع الأنات
وف وش صخر الجبال
كيف يقطع المحرات"
(باريس ـ بعد 20 دقيقة)
من مدينة الحرية والأحلام والأوهام جاء صوته (يتحدث عربي مكسر): "أهلا.. أهلا.. قال لي والدي عن هذا الريبورتاج الصحفي.. والحقيقة أنا كنت صغير ـ كما تعلم ـ عندما عرفت عمو أمل.. وما أذكره قليل.. لكن مازالت ملامح وجهه في ذهني لا أنساها.. وعندما كبرت عرفت قيمته وموهبته وتاريخه واسمه في عالم الشعر... وأنا سعيد أن اسمي ارتبط باسمه في الغرفة (
😎
التي كان يسكنها. وقبل أن يفصل الخط بيننا قال: "الله يرحمه".. ثم فصل الخط. قلت للأب: "أريد أن أعرف الحكاية منذ البداية" نظر لي بابتسامة ثم قال: "اتفضل الأول.. اشرب الشاي"!
***
"يا مين يجمل حية مكروهة
يا مين يسايس بنت معتوهة
يا مين يلم الكلمة م التوهة"
(القاهرة ـ 1980)
كنت من أصدقاء أمل دنقل نجتمع معاً على مقاهي وسط البلد، حيث تعرفت عليه مطلع الستينيات تقريباً في ظل حركة ثقافية قوية تهز أركان العاصمة وشوارعها وجدرانها في شتى الفنون. وجاءت النكسة لتسحب هذا الزخم الغاضب والرافض للهزيمة لدعم حرب الاستنزاف، والاستعداد لحرب التحرير، وخلال ذلك تنقلت للعمل في مهن عديدة وسافرت إلى عدة دول عربية للعمل في تأسيس مجلات وصحف هناك، ثم عدت للقاهرة.
في عام 1979 ولد كريم دون أي شكوى أو متاعب صحية، وبدأنا نسمع عن مرض أمل دنقل ودخوله إلى مستشفى العجوزة وخروجه منه بسلام، ثم دخوله مرة ثانية ثم خروجه، ثم المرة الأخيرة التى كانت عام 1982 والتي كانت المرة الأخيرة. في هذه المرة مرض ابني كريم، وبدأت عليه أعراض غريبة تتلخص في ضيق شديد في التنفس، وتجمع سائل متكرر على الرئة. وبعد رحلة شاقة من زيارات عيادات الأطباء ومراكز الأشعة والتحاليل اكتشفنا أنه مصاب بسرطان الدم. الصدمة زلزلتني، صعقتني، أفقدتني الثبات والتركيز والعقل بعض الوقت، ثم بسرعة اتجهنا ـ حسب إرشادات الأطباء ـ إلى معهد الأورام (لم يكن وقتها يوجد مستشفى خاص لأورام الأطفال) وعندما كشف عليه الدكتور إسماعيل السباعي، الذى كان يعالج أمل أيضاً، قال: "المرض في المرحلة الرابعة، ويجب دخوله فوراً للمعهد". قلت: "هل كان أمل دنقل في المعهد وقتها؟".. ردَّ: "نعم دخل قبل كريم بعدة أسابيع، وعندما علمت بوجوده لم أرد إبلاغه حتى لا أزيده حزناً فوق حزنه. لكنني منذ اللحظة الأولى قررت السعي إلى سفر كريم للعلاج بالخارج. ومثلما التف جميع رموز الحركة الثقافية في مصر والوطن العربي حول أمل دنقل، فقد فعلوا الشىء نفسه مع ابني. بدأ كريم يتلقى العلاج الكيماوي، وبدأت أنا طيلة النهار والليل أبحث عن وسيلة سريعة لسفره خارج مصر، لذلك أرسلت ملفه الطبي لكل الأصدقاء في روسيا ولندن وباريس. وبعد عدت أسابيع جاء الرد من باريس.
****
بالليل/ بالقمر الدوار
بالغبش المتنطور جوه الشبابيك الركبة بالمندار
بصريخ النار/ وبدمعة انسكبت على كلمة
حروفها انطرشت فوق كل طوار
امتى النهار يرجع نهار"
(القاهرة ـ 1983)
في الوقت الذى كان فيه الأب يبحث عن طريق سريع للسفر، مع إيجاد تكاليف العلاج الباهظة، وهو في ذلك الحين بالكاد يستطيع أن يوفر له علبة اللبن!.. كان كريم - ببن فترات الراحة من تلقي العلاج الإشعاعي القاسي - يتسلل إلى غرفة الشاعر أمل دنقل بعدما تعرّف عليه وأحبه أمل - وأحبه أكثر - عندما عرف أنه ابن صديقه الشاعر محمد سيف. في الغرفة (
😎
كان يجلس كريم ويزور صديقه (إذا جاز المسمى) أمل ويجلس إليه. وكثيراً ما بكى أمل عندما كان يراه حالق الرأس بسبب جلسات الكيماوي، وفي يده أماكن الحقن وعلى وجهه شبح المرض اللعين.
***
(المعادى ـ 2022)
عندما تذكر الأب هذه اللحظات قال: أول مرة دخلت إلى أمل في غرفته قال: لماذا يا محمد لم تقل لي إن كريم ابنك؟.. قلت: كفاية اللى أنت فيه يا أمل. فاحتضننى وهو ممدد على سريره وبكينا معاً حتى أتعبنا البكاء! بعد أسابيع جاء الرد من باريس قائلاً: "يحضر كريم فوراً للعرض على دكتور متخصص قد وافق على علاج الحالة"، يومها - هكذا يقول الأب - دارت بى الدنيا عندما وجدت طاقة أمل لعلاج ابني فتحت أمامي. لكن من أين تكاليف السفر والعلاج؟ طرحت هذا السؤال على الكثير من الأصدقاء والذين كانوا يشاركونني البحث عن وسيلة سريعة. ومنهم عزالدين نجيب، وإبراهيم منصور، وزين العابدين فؤاد، ومحمد روميش، وسمير حسنى، وفؤاد قاعود، وكان يتابع الموقف من روسيا (عبد الرحمن الخميسي) وأمير سالم وعماد أبو غازى، وخليل كلفت، وبشير السباعى الذى جاء لي ذات يوم وقال: "مفيش غيره"! قلت: مَن؟ رد: صديقنا عبد القادر ياسين (كاتب ومناضل فلسطيني يعيش بالقاهرة منذ منتصف الخمسينيات)! وبالفعل ذهبنا إليه في بيته.
***
"الكلمة مدهونة
والضحكة مدفونة
والغنوة طفلة بين أيادى غول"!
(القاهرة ـ 1983)
وصلنا في ذات المساء إلى بيته في حى حلمية الزيتون - شرق العاصمة - وكان عنده مجموعة من كتّاب وأدباء فلسطينيين (اتحاد كتّاب فلسطين) وهم جميعاً أصدقاء لنا. وكان اللقاء اجتماع دوري لهم في منزل ياسين. بعد انتهاء الاجتماع عرض بشير السباعى الموقف عليهم، وأكد على ضرورة سرعة سفر الطفل إلى فرنسا. قال عبد القادر ياسين: إذن نقدم طلب إلى أبو عمار لعلاج كريم على نفقة منظمة التحرير الفلسطينية. وافق الجميع وقتها. لكن ظهرت مشكلة. قلت: وما هى؟ رد: كيف سيتم ذلك وأنا مصري ولست عضواً في اتحاد الكتّاب الفلسطيني"؟ بعد برهة من الوقت أردف قائلاً: "لكن بعد لحظات قال عبد القادر ياسين: "مفيش مشكلة اعطنى يا رفيق (وأشار إلى صديق يجلس بالقرب منه) استمارة عضوية في الاتحاد وكتب فيها اسمي، وبناء على هذه العضوية تم كتابة الطلب في اللحظة نفسها، وتوجيهه إلى الزعيم ياسر عرفات الذي كان في ذلك الوقت ما بين لبنان وتونس بعد انتهاء الحرب اللبنانية. وعندما وصل إليه الطلب وافق على الفور، وأشار بتحمل تكلفة منظمة التحرير لجميع مراحل العلاج في باريس مع توفير مسكن لائق للأسرة تتحمل تكاليفه المنظمة أيضاً طيلة فترة العلاج.
***
"نقر ضلام الليل على بابى
ما لحقت أودع، فى النهار أحبابى
ولا شفت من أصحابي غير الضل
وكريم بيضحك
يلمع اللولى على شفايفه
كعقد الفل
وكريم بيلعب،
يحدف الأحلام ويملا حجري
حب وأمانى"
(فرنسا ـ 1983)
إلى باريس طار كريم ووالدته العظيمة التى بذلت معه مجهودات جبارة فى رحلة السفر والمرض والغربة - هكذا يتذكر سيف - وبقيت أنا في القاهرة استعد للسفر إلى طرابلس للعمل هناك في مجلة - كنت تعاقدت عليها منذ شهور - لتجهيز ما يستجد من مصاريف في مشوار السفر والعلاج. وبعد ثلاثة أيام من وصوله بدأ الطبيب المعالج مراحل العلاج السريع والمكثف لتحدث المعجزة ـ والحمد لله ـ نجا كريم من ذلك المرض اللعين، وأكمل مسيرة حياته العادية حتى اليوم باستثناء بعض التوابع البسيطة من جراء ذلك المشوار الطويل فى العلاج. وهو يزور القاهرة كلما سمحت ظروف عمله بذلك.
***
"كريم بينده من بعيد
نقر ضلام الليل على أحزاني
صحيت همومي، تجري فى المواعيد"
(القاهرة - 2022)
وبعد ما يقرب من ساعة وأكثر جلستها مع الشاعر محمد سيف عدنا فيها بالزمان والمكان إلى المعهد القومي للأورام، وجدران الغرفة (
😎
والمرض والطب والموت والحياة واليأس، والأمل، والتضامن، والوحدة والمقاومة، والثقافة، والقاهرة وطرابلس ودمشق وفلسطين ولبنان، وتونس، وأبو عمار واليمين واليسار، وباريس وموسكو، والأشواق والأزهار، ثم تركته وخرجت مسرعاً من العمارة أترجل حتى وصلت إلى نيل المعادي القريب من مسكنه. وبدأت رحلة عودتي إلى بيتى سيراً على الأقدام مندهشاً. أمشي وحدي. أنظر للنيل الساكن بجواري وحدي. أنظر إلى موجه النائم على نسمة عصاري هادئة وحدي. وأسأل النيل وحدي: "هل كان أمل دنقل يتنبأ - بصفاء النية، وسكينة النفس، ونقاء الضمير - عندما اختار الطفل كريم من بين المئات ـ نزلاء المستشفى- ليقربه، ويصادقه، ويرافقه في رحلة المرض والموت، ليضعه لنا - بهذا القرب الغريب والمدهش والعجيب - في برواز ضمن تصاوير أوراقه في الغرفة (
😎
ليقول لنا: إن كان المرض قد انتصر علىّ رغم مقاومتي الشديدة له، فبينكم الطفل كريم - أو الذي كان طفلاً - رسالة أمل جديدة، فلا تيأسوا ولا تبتئسوا.. ولا تحزنوا.. فهذا الطفل - رغم أنني أحببته كثيراً وأبكانى كثيراً - إلا أنه سيعود إليكم ذات يومٍ ـ بالأمل ـ منتصراً على المرض!
***
" صحيت همومي، كل هم حكاية
والحب لا راحتي ولا دوايا
كان الألم، رحلة بلا نهاية
كانت السما خيمة، من التنهيد"
(القاهرة - 1983)
...و..و.. في النهاية.. مات أمل!

***

(القاهرة - 2022)
...و.. و.. في البداية.. عاش أمل!

•• خيري حسن.

•• ينُشر اليوم فى صحيفة ( الدستور ) المصرية..الأثنين 30 مايو/آيار/ 2022
• الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال الكاتب.
الصور المصاحبة:
• الطفل كريم (في باريس بعد العلاج)
• الشاب كريم (في باريس بعد الشفاء )
• الكاتب مع الشاعر محمد سيف

•••

الشعر المصاحب للكتابة للشعراء:
محمود درويش
أمل دنقل
محمد سيف

•••

المصادر:
كتاب: أمل دنقل ذكريات ومقالات وصور. جابر عصفور - طبعة 2018 - دار بتانة
كتاب:
الحب والحرب والحضارة والموت . سيجموند فرويد. ترجمة د. عبد المنعم الحفني.
كتاب:
الجنوبي- عبلة الرويني. طبعة هيئة قصور الثقافة / 2012

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى