أبووردة السعدني - اليمن : رحلة إلى صنعاء 1877-1878م

... عنوان كتاب لرحالة إيطالي يدعى : رينزو مانزوني ، ينتمي لأسرة مشهورة بالأدب والفن ، كان مراسلا لصحيفة الإسبلوراتورة ESPLORATORE ( أي : المستكشف ) ، التي كانت تصدر في ميلانو بإيطاليا....
... معلوماتنا عن مانزوني شحيحة ، فلانعرف عنه إلا أنه ولد سنة 1852م ، وأنه سافر إلى المغرب - ضمن بعثة ايطالية - وأقام هناك عاما واحدا ....
.... وفد مانزوني إلى مدينة " عدن : في مستهل سنة 1877م ، وكانت عدن تحت الاحتلال البريطاني من سنة 1839م ، ويقيم فيها - أيضا - قناصل لمعظم الدول الأوربية ، من بينهم قنصل لإيطاليا التي لم يكن قد مر على وحدتها عقد من الزمان ...
...أمضى مانزوني في اليمن عامين ، طاف أرجاءه من الجنوب إلى الشمال ، من عدن إلى صنعاء ، شاهد جباله وسهوله ، عاش في صحاريه وقراه وحواضره ، خالط رجاله ونساءه ، في رحلة على ظهور الخيل والجمال والبغال والحمير ، ثم دون مشاهداته في تقارير أرسلها تباعا إلى الصحيفة التي يعمل مراسلا لها ، و نحسب أنها كانت تقارير " استخباراتية " ، فإيطاليا كانت - بعد أن اكتملت وحدتها - تبحث عن مستعمرات ، شأنها شأن غيرها من الدول الأوربية !!...
....كانت الدولة العثمانية قد استعادت سلطتها في اليمن ، وحولته إلى ولاية عثمانية سنة 1872م ، تلك السلطة التي فقدتها في أواخر النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي بسبب أفاعيل وحيل الدول الأوربية الاستعمارية ، خاصة بريطانيا ، التي أججت العداء بين اليمنيين والعثمانيين ، مدعية أنها حريصة على تحرير اليمن من الاحتلال التركي !!
...حمل مانزوني أمتعته التي كانت أكثر من عشرين صندوقا كبيرا على ظهور الدواب التي ابتاعها ، يرافقه عدد من اليمنيين الذين اسـتأجرهم ، موليا وجهه شطر مدينة صنعاء ، مدونا كل مشاهداته ومحاوراته في تقارير ، غير أن تلك التقارير حوت مغالطات يجدر -بنا _ الإشارة إلى بعضها :
... حرص مانزوني حرصا شديدا على ذكر " الترك " و" الأتراك" ، ولم يرد في كتابه اسم " الدولة العثمانية " مطلقا ، دون تبرير لذلك ، فهل يرجع حرصه على ذلك إلى مسايرة السياسة الأوربية الاستعمارية ، التي كانت تسعى إلى إعلاء نعرة القوميات وإظهار العثمانيين في صورة معادية للعنصر العربي ، وأنهم ليسوا إلا محتلين يجدر بالعرب التحرر من احتلالهم ؟! ، هذا هو الاحتمال الأرجح ، فلا نظن أنه يقصد كلمة " تركي " التي كانت مرادفة لكلمة " مسلم " في أوربا ، والتي لا تزال سائدة في عدد من دول شرق أوربا حتى الآن ....
.....افتقر كتابه إلى التجرد والحيادية فاستهان كثيرا بالإسلام - عقيدة وتاريخا - ، ولعل جهله كان وراء تلك الاستهانة ، فلقد ظهر جهله - أيضا - بالديانة المسيحية التي يدين بها !! ...
... وعلى الرغم من السلبيات التي ضربنا صفحا عن الاسترسال في سردها ، فإن كتابه ضم بين دفتيه إيجابيات لا يمكن تجاهلها ، منها :
... الحفاوة والترحاب والكرم الذي لقيه من اليمنيين ، بل و من العثمانيين - أيضاً - في كل مكان حل به أو شد رحاله إليه ....
....قسم المجتمع اليمني إلى " عرقين " - وفق قوله - :
أ- العرق التركي : ويقصد به العثمانيون القائمون على أمر ولاية اليمن ، ويرى أنهم يملكون كل شيء من سلطة وأموال ...
، ب - العرق العربي : ويقصد به اليمنيون المحكوم عليهم بالتبعية ، وتحمل كل الأعباء التي كان ينعم بها " العرق التركي "!! ...
...ثم قسم اليمنيين إلى ثلاثة أقسام : البدو : وهم سكان الصحاري ، القبيلي : وهم سكان القرى ، ثم العرب : ويقصد بهم سكان المدن ....
... حين وصل مانزوني إلى مدينة صنعاء أخذ بروعتها ، فنعتها ب " صنعاء الباهرة " التي كانت تضارع كبريات المدن الأوربية عمرانا وتحضرا ، وجدها مدينة عامرة بمبانيها ، ومساجدها ، وحماماتها ، ومشافيها ، وشوارعها الواسعة النظيفة دائما ، وحدائقها الوارفة الفيحاء ، وأهليها الذين يتحلون بالوقار والأناقة ، والتنوع البشري فيها ، لكنه أسف أشد الأسف لأن نساءها محجبات !!....
... وجد مانزوني في مدينة صنعاء ثمانية وأربعين مسجدا ، يلحق بمعظمها مدارس لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الدينية والعربية ، أشهر تلك المساجد وأكبرها " جامع المرادية " ، يرى أنه كان " يضارع الكعبة " !!....
.... وفي صنعاء بهر مانزوني بالحمامات العامة ، التي كانت غاية في روعة مبانيها و جمال " قبابها " التي تشبه واجهات وقباب المساجد ، كان عددها اثني عشر حماما ، لها رئيس يطلق عليه " المعلم " أو " حق الحمام " ، مزودة بالماء " الساخن والبارد " ، يستخدمها المسلمون وغير المسلمين ، حرص مانزوني على الذهاب إليها مرة كل أسبوع ، لينعم باستعادة حيويته ونشاطه ....
... وجد مانزوني في صنعاء سوقا مركزيا كبيرا جدا ، مقسما إلى أقسام حسب السلع التجارية المعروضة ، وحسب أرباب المهن الحرفية التي كانت كل حرفة منها تمثل طائفة قائمة بذاتها ، لها رئيس يطلق عليه لقب " شيخ " ، وفي الأسواق وجد اليونانيين والروس وغيرهم من الجنسيات يتعاطون التجارة بحرية تامة ...
...... وفي صنعاء وجد مانزوني " مستشفى " أنشأه العثمانيون على النمط الأوربي - على حد تعبيره - ، يتكون من طابقين ، وأروقة مستطيلة ، وعشرين صالة واسعة للمرضى ، كل صالة لعلاج مرض معين ، ضم المستشفى 370 سريرا مصنوعة من الحديد ، لها فرش عدة ، بجانب كل سرير " طاولة " عليها أطباق وكأس للمريض ، فوق كل سرير " لوحة سوداء " يكتب عليها اسم المريض والمرض الذي يعالج منه ، ضم المستشفى - أيضا - ستة أطباء ، وثمانية جراحين ، وعشرة صيادلة ، وخمسة عشر ممرضا ، و " مختبرا " ، وعددا كبيرا من الخدم ، وقاضيا" تركيا " ، ومطبخا كبيرا يقوم عليه ثمانية " طهاة " يجهزون الطعام للمرضى وفق طلب الطبيب المعالج ، وقد تحول المستشفي إلى قصر للإمام يحيى حميد الدين ، وأطلق عليه " دار السعادة " بعد زوال الحكم العثماني وقيام " المملكة اليمنية المتوكلية " سنة 1918 م ...!!...
.... تجدر الإشارة - أخيرا - إلى أن مانزوني اختلط بالعثمانيين القائمين على أمر ولاية اليمن ، وحضر ولائمهم وحفلاتهم ، فوجدهم يعاقرون الخمور ، حتى إن قاضي العسكر " العثماني ، ويدعى " رضا بك " كان يضع الكأس ، ثم يؤم المسلمين في صلاة الجماعة ، قال عنه :" لم أعرف رجل دين - لأية ديانة كانت - كان أكثر حرية وأقل تعصبا وأكثر مرحا وشربا من هذا القاضي المسلم !! " لكن هذا القاضي المسلم قال لمانزوني جملة ذات مغزى : "... قبل ستين عاما لم يكن يجرؤ أحد في تركيا على خرق شريعة القرآن ...!!"
... ولاريب في أن العثمانيين حين فتحوا مغاليق دولتهم على أوربا ، منذ عهد السلطان محمود الثاني - ت 1839م - فيما عرف - بعد ذلك باسم التنظيمات - أفل نجمهم ، وغابت شمسهم ، لأنهم لم ينقلوا علما ولا حضارة ، وإنما نقلوا سوءات النهضة الأوربية ...!!!....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى