د. أحمد إبراهيم الباسوسي - الكوفيد جحيم الآخرين

كأنها فرة وضربت الكرة الأرضية، وجوه مذهولة، عيون مقموعة بالخوف والرعب، مشاهد تتواتر عبر التلفاز وشاشات الموبايل وتتناقلها السنة الناس في كل مكان، يظهر فيها بشر يتساقطون صرعى في شوارع الصين وبالتحديد مدينة يوهان. صور لسيارات شحن تنقل مئات الجثث تتحرك في شوارع ومستشفيات ايطاليا وفرنسا والبلدان الاوربية المجاورة الى أماكن الدفن، طالت الفرة بريطانيا وامريكا، تكدست الجثث في ثلاجات المستشفيات والمقابر. الشريط الغامض لايزال يدور في الرأس وعلى الأرض. الكابوس طالت اقامته، والمسألة لم تعد مجرد وباء اعلنوا عن ظهوره ذات مساء في احدى مدن الصين النائية، أو كابوس رجرج دماغي ولم اعد أقدر على التمييز بين الواقع والوهم. اذا خرجت الى الشارع، أو دققت النظر في تفاصيل حلمي الكابوسي أجدني مندهش جدا من ذلك الزلزال الذي رجرج اعماق البشر واعادهم الى حالة "الانسانية" الضعيفة المغلوبة على أمرها منذ بداية الخليقة. كيف حدث ذلك؟ هل يمكن ان يعود الانسان انسان؟، هل يمكن لكائن ما لا يرى بالعين المجردة ان يقهر هذا المخلوق المغرور المتباهي بقدرته على صنع المعجزات!. الآن الخروج من المنزل لقضاء المصالح أصبح مغامرة كبرى محفوفة بخطر عظيم، بالضبط مثلما رأيت في حلمي الأخير بأنني القي بشخص لاتتضح ملامحه في ماء النهر المواجه لمنزلي، وأجبرته على السباحة وكنت على يقين انه لا دراية له بالعوم والسباحة. جريمة قتل مع سبق الاصرار والترصد ارتكتبها فوق فراشي الدافئ، الذي تركته لي صديقتي الجميلة أول أمس هلعا من ان امنحها الكوفيد19 مع ما امنحها من أشياء أخرى دائما تستهويها. في الحلم كانت الشوارع خالية، الدكاكين معلقة لافتات عن اغلاق مؤقت لحين تحسن الظروف، المساجد والكنائس مغلقة بالضبة والمفتاح، حيوانات الشارع مثل الكلاب والقطط تمشي على استحياء، بطيئة الحركة، صائمة عن الصوت، تنبش أمامها في كل مكان، لايوجد فضلات طعام على الأرض، وحتى ذلك القطيع الذي حجل حتى وصل الى صندوق القمامة الكبير في أول الشارع لم يعثر على شيء. لايزال صفير الهواء يداعب الآذان البشرية القليلة السائرة في الشارع بعفوية، جرس انذار عن كوارث ومصائب جسيمة أراها تتحرك، تحتوي فراشي. خيالاتي، تطارد صديقتي التي هجرتني واصطفت مع القطيع تلبس الكمامة وتحمل بين كفيها زجاجة الكحول وهلع من الموت من الصعب احتماله. صفير الهواء لايزال يشق سكون الشارع وغرفة نومي المعلقة في الطابق الثالث، حاولت ذات مساء ان اقفز من النافذة التي تبتلع الحائط المواجه لسريري لكن الأمر لم ينجح مثلما نجح مع صديقتي السابقة التي انفلتت من كفي بغضب وطارت من النافذة في الهواء بقميص نوم مفتوح، لكن الله سلم، سقطت جاثية على مؤخرتها مع بعض الرضوض البسيطة في قدميها وساقيها وذراعها الأيسر فاقع البياض مثل الحليب. يومها قامت الدنيا ولم تقعد، أغلقت شباك الحياة، لم يعد لدي أحلام في اقتناء انثى مربربة مثل الشهد تزلزل ذكورتي التي لاتهدأ خاصة في تلك الأحلام المتواترة التي تزعجني في الكثير من الأحيان. لكن الذي حدث انه بمجرد ان فككت خشب النافذة من المسامير الحديد الصدئة وفتحتها حتى هاجت في رأسي الأحلام مرة ثانية، جاءت صديقتي الثانية صاحبة البشرة الحليبية أيضا، عصبية مثلي، ابتلعت فيروس الكورونا قبل ان تنقله لي، ثم تخشى على نفسها وتفر مع قطيع الكلاب والقطط الباحث عن فضلات طعام آدمية أو فيروس الكورونا المتباهي. الأسئلة الصعبة طاردت دماغي أثناء محاولتي البحث عنها في الشوارع الخالية وتمقيق عيني في الطرقات والزوايا المظلمة داخل الحواري القديمة. كيف حدث ذلك؟، أرى مؤخرتها من بعيد تترجرج باشتهاء، اقتربت منها، الكمامة والكحول والخوف يصاحبانها في كل الخلجات والأحوال، رأيت أفكار الخوف والخطر تطاردها اينما مالت بجذعها أو انثنت تلتقط شيئا من الأرض. الأفكار طارت معها الى الحمام، جبينها يطفح بالرعب من الموت بسبب الكورنا، لديها اب وام تجاوزا السنين، لديهم مشاكل صحية جسيمة، اعتادت مع انتشار الوباء ان تغلق باب الحمام عليها بالساعات، رأيتها بالأمس في حلمي فوق السرير الدافئ منكمشة في بعضها، لاتريد أحد ان يقترب منها، اقتحمتها أفكار النجاسة والطهارة وسب الذات الالهية في الصلاة، لم تكن تفعل ذلك قبل زيارة الكوفيد19 للكرة الأرضية، آخر مرة رأيت صورتها حينما فزت غاضبة من جواري على السرير، خافت على نفسها من الوباء بعد ان المحت اليها انني قد أكون تجرعته من ثغرها الفاتن المثير. لكنها الآن حبيسة الحمام والكمامة وتكرار الصلاة وسب الذات الالهية. الشوارع اصابها البرود والرعب وعدم اليقين. لم يعد أحد يكترث بشيء سوى بالحفاظ على الأنفاس القليلة التي تخرج خشية الانقطاع. رأيتهم في أحلامي يبحثون عن نفس شارد يحيي الميت، ويتكالبون على منافذ توزيع اسطوانات غاز الاكسجين لانعاش الأرواح التي هزمها الفيروس واقترب من حصادها. مشقة ورعب نتيجة نفاذ الكميات المتاحة وغموض الخطوات القادمة. صديقتي لاتزال تحتمي بالبيت والحمام وتأتنس بتلك الأفكار التي شغلتها عن حبيبها الذي تركته خشية الفيروس الذي أحكم سيطرته على الأرض. أراها بوضوح شديد تستند الى جدار المطبخ، تخشى الدخول وملامسة ادوات الطهي، الأفكار تأمرها بدخول الحمام والدوران في رحلة الغسل والنظافة الشخصية، ساعة كاملة ليست كاملة للفراغ من مهمتها وأفكارها، النقر على الباب تحول الى خبطات ثقيلة بواسطة أختها الصغرى المرعوبة هي الأخرى والمحتمية في الكمامة والكحول. تحولت الملاسنة الى شجار بين الأختين وفيروس الكورونا ينتظر بلهفة لكي ينقض على احداهن. رأيت في الشارع الغامض أيضا صديقتي الأولى العصبية التي طارت من النافذة من الطابق الثالث ونزلت على مؤخرتها، كانت تهرول في الشارع الخالي، ترتدي الكمامة وبنطال أسود يعلوه بلوزة حمراء بلون الدم القاني تزين جسدها الرشيق فارع الطول، شعرها يتطاير مع صفير الهواء الجامح، يصنع منها نسمة جميلة مدهشة، رأيتني اقف مشدوها أمام لوحة جميلة، وحينما دققت النظر في اللوحة رأيتني اجري برشاقة خلفها، أحاول اللحاق بها. كان قد مضى وقت طويل دون ان التقيها قبل اليوم منذ غادرتني غاضبة قافزة من نافذة غرفة نومي في اعقاب معركة حامية الوطيس بيننا فوق الفراش. لكن الفيروس لم يعد له أمان، يحصد الرقاب مثلما يجز الفلاح أعواد البرسيم في الغيط، لم أجد سببا منطقيا يجعلني في تلك الحالة من الحلم المتصل، ولا تلك الحالة من الشجن المتصل، ولا تلك الحالة من الضعف والهزيمة.الأنباء تملأ الهواء والفراغ عن الكوفيد19 والرعب الذي يتملك الجميع. لا أصدق ان ما يجري حولي شيء حقيقي، رغم كل هؤلاء الموتى الذين امشي في جنازاتهم كل يوم، دائما أقول لمن التقيهم في الحلم أو على شاشات التلفاز المسألة مجرد لعبة يملك خيوطها لاعبون يقفون خلف ستار حديدي، بغرض السيطرة على كوكب الأرض وسكانه، والحد من كل هذه الزيادة المتصاعدة من البشر الذين يبحثون عن الغذاء والكساء والتكنولوجيا، البداية وضع كبار السن في المفرمة والتخلص منهم، باتوا عبئا عظيما ومن دون انتاج على ميزانيات الدول والشوارع والمستشفيات ودور الرعاية. ثم البحث عن حرب كبيرة تقصف رقاب الملايين قبل ان تستقر الأوضاع وتصبح مصادر الثروات تكفى أعداد ما يتبقى من البشر بعد الوباء والحرب العظيمة. يا الله خيالي يمتطي صهوة حصان جامح لايكف عن الركض، صديقتي الطائرة في الهواء غادرت اللوحة، لم تعد ترمقني أو تمنحني وجهها الجميل الملائكي الذي ينعش روحي بمجرد النظر اليه، لم أعد ارى ظلها في احلامي وفي أيامي. قررت البحث عنها في الشوارع والحواري الملتوية ومحطات المترو والأسواق الشعبية ثم عرجت على المولات الكبرى الفاخرة التي اطفأت انوارها مبكرا بسبب الوباء، ثم جنحت يمينا ويسارا نحو الخرائب وأماكن حفر الطرق والمحاور والكباري التي تغولت في المكان والزمان، ربما كان ذلك الشيء الوحيد على كوكب الأرض الذي لم يتمكن الوباء من ايقافه أو الحد منه، التقيت الآف الفتيات والسيدات منتقبات في كماماتهم، تشابهت الملامح وتبخر الهواء وحسن النسوة وجمالهن في الهواء الفاسد. لم أصل الى شيء، تمنيت لقائها في الحلم، هواء النافذة التي التهمت جسدها عند السقوط كان فاسدا أيضا، لم يتمكن من حملها برفق، ولم يتمكن من ان يرسلها لي في الحلم مرة أخرى. كان لقائي بصديقتي الثانية خير تعويض لكن فيروس الكورونا وقف لي بالمرصاد أيضا، احتجزها في غرفة موصدة مليئة برائحة الخوف والرعب والوساوس التي تنخر عظام دماغها الرقيق وتدفعه الى الجنون. لم أعد التقيها في اعقاب تفشي الوباء بهذه الصورة المرعبة، احلامي عجزتت عن اصطياد ملامحها المليحة، وصوتها الذي طالما اشبعني فرحا وبهجة، وانوثتها التي تملكتني تماما. فقط ارى صور للحمام الضيق المرصع بالسيراميك وعلب الشامبو والصابون وكافة أدوات النظافة الشخصية الذي تسجن نفسها داخله بالساعات، وصور شبح يشبهها غير واضح المعالم يكرر الصلاة، كأنه عالق في دئرة محكمة الاغلاق، وكذلك صور لأشباح باهتة تمثل والديها واختها الصغرى يبدون مكممون، غاضبون، خائفون من الموت المتربص الذي لايرونه. خلال تجوالي في الشوارع بالكمامة حاملا زجاجة الكحول صغيرة الحجم التي اشتريتها من احدى سيارات منافذ البيع الخاصة للقوات المسلحة المركونة في شارع مكرم عبيد في شرق القاهرة، كان النهار قائظ، كأن الشمس ارادت معاقبة البشر في اتحادها المتآمر مع الوباء، كانت حركة الناس المكممين مرتجفة، مترددة، العيون تبرق تجاه الآخرين في وجل ملحوظ، كان الشارع متروس بالخوف والحذر. شريط احلامي متعسر، يدور بصعوبة وفي ارتباك، رأيت بالأمس الأشخاص الذين يسيرون بجواري أو امامي أو خلفي أو يجلسون أو يقفون الى جواري في المترو أو حافلة النقل الجماعي يحملون معهم فيروس هلاكي التي أسعى الى النجاة منه. ضاعت مني ملامح صديقاتي الجميلات، وربما ضاعت شهوتي في الوباء أيضا. كان كل شيء يسير على ما يرام قبل ذلك، لكني الآن ابدو شخص منعزل، ضائع، من دون ملامح، ومن دون عمل، حبيس الغرفة والأحلام وشاشة التلفاز والكوفيد19 الذي فرض سطوته على ملامحي فغدوت شخصا من دون ملامح.

احمد الباسوسي مارس 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى