طيبة فاهم ابراهيم - نضال.. بطلة من حديد.

مما تعلمته في حياتي اني لست وحدي في الحياة، وما تعلمته من المصارعة اني لست وحدي القوية على البساط، ولست الوحيدة على حلبة الصراع. لقد ايقنت منذ طفولتي ان الواحد الاوحد هو الله تعالى بكل صفاته واسمائه، واننا جميعا تحت سطوته وجبروته دون سواه.
لم اك لوحدي القوية، كانت معي بطلات من افذاذ النساء، بطلات حقيقيات مهما حملن من صفات قد تزعجني احيانا، كالغرور والتعالي والتكبر، لكنهن في النهاية يبقين بطلات لا ابخسهن حقهن ما حييت.
نضال البغدادية، او نضال قاضيه، واحدة ممن لفتن نظري حقا بطولها المميز وقوامها المفتول وسرعتها ومقدرتها الفذة على بسط هيمنتها على المصارعات في البساط.
لربما أعجبني لعبها وطريقتها الفذة وقوتها المذهلة، لربما تملكتني محبة لثقتها بقوتها التي بلغت مرحلة نادرة للغاية لا تفعله اي من المصارعات ، وهي انها توصل متحديتها حد الانهيار والتعب، ثم تمتنع عن تثبيتها وهي القادرة عليه لتطبق مسكة اقوى، حتى تستسلم غريمتها او يكاد ان يغمى عليها.
كانت طريقة مسيرها بعد النزال تثيرني على وجه من الوجوه، فانا اراها معتدة بنفسها واثقة ان ليس هنالك من هي اقوى منها، وحين كنت اناقش احدى صديقاتي اللواتي خسرت مع نضال ، اجابتني انها كانت تنهار من قوة مسكاتها ، ويصل بها الحال إلى درجة ان تتمنى بان تصرعها البطلة ، لكن نضال لم تكن تمنحها هذه الامنية، وحين كانت تهمس باذنها ان كفى لم اعد احتمل، ترد نضال بسرعه : لم اسمعك حبيبتي، ثم تطبق مسكة اخرى حتى تثبتها اخيرا وهي تقول : الآن شئت تثبيتك بمزاجي انا.
وللحق، فقد خلقت طريقة نضال هذه خوفا عند جميع المصارعات من مواجهتها، فلا توجد من تجرؤ على تحمل هذه القوة والقسوة، وهو ما دفع بمدربتي الى ان تفاجئني بقولها : لابد من وجود بطلة تواجه نضال على بطولة العاصمة، ولا يوجد سواك ممن يقبلن هذا التحدي، اعلم قوتها وما تفعل بهن، لكنك مختلفة يا عزيزتي ...
لم اجد ما اقول سوى أن هنالك فرقا بين وزنينا، فهي تلعب ضمن فئة الثقيل، ردت علي المدربة بثقة : اكتساب بضعة كيلوغرامات ليس صعبا عليك غاليتي، المهم هو قبولك التحدي الذي انا واثقة منه، ولا يهم فوز او خسارة، المهم ان لا يبقى وزن شاغر دون لاعبات.
للحق، فقد وجدتها مغامرة صعبة، اذ كيف ساصارع نضال التي تلقب بالقاضية، وكيف أواجه من تفوقني وزنا ولربما قوة؟
واقعا انا لست خائفة من المواجهة، فحتى لو خسرت امامها فلن اكون اَول من يخسر وهي قاهرة البطلات الكبيرات، لكن ما علي السعي نحوه وبصعوبة هو زيادة الوزن ومضاعفة القوة بالتمرين.
كنت اتمرن صباح مساء، اكتسبت زيادة في الوزن بصعوبة لكني تأهلت للعب امامها، كنت اذوب في الحديد ثم استريح واعود اليه، حتى اذا ما كنت اقوم بتمارين البطن، فوجئت بذراع تربت على ظهري بمودة شديدة، وتشجعني بقولها بطلة.. بطلة.
صعقت حين وجدتها نضال نفسها، لم اصدق ان تكون هذه انسانة مثلنا، تجامل وتسمعنا الطيب من الكلام، اعتدلت بجلستي ورحبت بها، فكان ان اعتذرت لمقاطعة تمريني، فاجبتها : كلا، انه وقت استراحتي..
حين جالستها، اكتشفت كم هي انسانة لذيذة الحديث، حلوة اللسان ذات خلق متين، ابدت سرورها لمصارعتي وملاقاتي، عندها وجدت ان الحواجز قد سقطت وسالتها عن سر تعذيبها لخصماتها، ولماذا تضعهن تحت رحمتها ثم تصرعهن وقت ما شاءت فأجابت بمودة خالصة :
انا العب وفق طريقة تحطيم المعنويات، فعندما تجد المصارعات ما حل بصاحبتهن معي، سيهربن من مواجهتي او يستسلمن للتثبيت في اول جولة، مكر ودهاء نسوي لا اكثر..
ضحكنا معا، وشعرت انها صديقة بحق وانها متواضعة خلاف ما ظننته فيها، ثم طبعت على جبيني قبلة وتمنت لي حظا سعيدا دوما.
حين عدت لداري وخلدت للنوم، علمت ان الدنيا ومهما تعلمنا فيها من دروس فان دروسا أخر سنظل بحاجة لتعلمها، ومنها ان لا نحكم بالمظاهر على انسان حتى نعاشره.
حين حل يوم نزالي، كنت خائفة على نحو ما، ومعظم الجمهور من صديقاتي واهلي، لاسيما واني اواجه بطلة عالمية بكل المقاييس، وحين بدأ النزال، كنت ابحث عن نقطة ضعف لديها، انفذ منها نحو الانتصار، وكنت خلال التدريب قد لاحظت انها وحين ترفع قدمها، تكون هنالك صعوبة في الثبات على الاخرى، لكن سرعتها تغطي ذلك.
لم انظر نحو قدمها مطلقا وكأني سالعب مركزة على الكتفين فحسب، نجوت من مسكات لها بصعوبة بالغة، ونهضت، ثم حانت لي الفرصه، حين رفعت قدمها ترفعني، فسحبت الاخرى واسقطتها وطوقتها بذراعين من حديد وهي تحتي وحققت التثبيت، وكان الجمهور معي كله.
انتهى النزال بفوز تأريخي لي، وذهبت الى حجرتي كيف استبدل ملابسي ثم داري.
فكرت بزيارتها لدارها، لكن ما منعني هو الحرج والخوف من ان تفسر زيارتي شماتة بها، وكذلك عدم زيارتي لمن لا تربطني بهن علاقة عميقة، حتى لو كان الدار كله نساء.
رن هاتفي وكانت صديقتي وحبيبتي عبير، التي دعتني لتناول طعام الغداء في مطعم بمناسبة فوزي، ثم همست بكل خبث : وليمة على حسابك انت....
وَجدت في خروجي راحة للنفس، فقد تشبعت من مناظر المصارعة واحداث البساط والصراخ رغم عشقي للعبة، لكن للنفس اوقاتا تحتاج فيها للراحة، فضلا عن حبي الذي لايوصف لصديقتي عبير.
حين دخلت المطعم، واتجهت صوب الصالة، صعقت حقا بوجود نضال لوحدها، التي ما ان راتني حتى نهضت مرحبة بي، وما ان لمحتها حتى ركضت نحوها وعانقتها بشدة عناق الاخت لاختها.
وقبل ان نتفوه بكلمة واحدة قالت لي : نحن هنا صديقتان لا مصارعتان، دعي ما جرى على البساط للبساط ولنتكلم في اي شي يخصنا نحن النساء..
فرحت لكلامها وسالتها عن عبير، فضحكت برقة وقالت : عبير مسافرة منذ يومين، وانا من رمت لقاءك، وكان دورها ترتيب اللقاء، لقد وجدت فيك يا طيوب ما يفوق عمرك، ووجدت في جسدك ما يفوق قوتك، لذا اتشرف ان ادعوك لهذه الوليمة لنتعرف اكثر.
ابديت لها فرحي ومحبتي العميقة، لكني اعتذرت عن دفعها الحساب حتى وان كانت هي صاحبة الوليمة
فانا مشتركة في هذا المطعم الذي خصصته لاعز الصديقات فحسب، وهي الان من أحبهن لقلبي،
شعرت ان المودة بيننا قد تضاعفت، رغم خجلها من دفعي الحساب، ثم دخلنا في حديث عميق حميم ، اختتمته بقولي : قد صدق من قال : لا تأبه بالنظرة الاولى، وعليك بنظرة القلب، وها انت يا نضال تمكثين في القلب، ولن تخرجي منه ابدا.

تعليقات

من خلال سرديات الاديبة والبطلة الاولمبية العراقية طيبة فاهم ابراهيم نقف على عمق التجربة الانسانية وقوة ارادة الشخصية البشرية وسمو الاخلاق التي تتسم بالتواضع والمحبة والطيبة وسمو الاخلاق واللين في فرع رياضي ينماز بالقوة والعنف..
احداث ومواقف تبسطها عبر قصص تغري بالقراءة وباسلوب مشوق وسلس..
قصة نضال وبطلات اخريات هي تأريخ لتجربة رياضية عميقة واصيلة نفتقدها في السرد العربي
 
أعلى